5
5
إن بالغنا في الوصف قليلًا، فقد كانت العربة أشبه بحجم بيتٍ صغير.
كانت ضخمة ومتينة إلى درجةٍ جعلت إيريكا تشعر بالحرج لمجرد مقارنتها بالعربة الضيقة والقديمة التي أقلّتها من قصر آل بلانشيه.
‘لم أرَ داخلها بعد، لكن بهذا الحجم… يمكن للمرء أن يتمدد فيها للنوم.’
راودتها فكرةٌ مضحكة: ربما كانت وسائد مقاعد تلك العربة أنعم من سريري الصلب والمهترئ في علّية القصر.
على أيّ حال، لم يُطل سيباستيان الكلام بعد ذلك.
ربما شعر أن أيّ توضيحٍ إضافي سيبدو كعذرٍ واهنٍ لا طائل منه، فآثر الصمت.
عندها تقدّم ميلرود، مساعد سيباستيان، الذي ظلّ حتى الآن متراجعًا في الخلف.
قال بصوتٍ ثابتٍ ومهذب:
“في النهاية، هذه هي العربة التي ستُقلّ العروس، أليس كذلك؟ نحن الفرسان معتادون على قضاء الأيام والليالي على ظهور الخيل دون شكوى، لكن السيدة الصغيرة لم تُخلق لمشقةٍ كهذه.”
ثم التفتت نظراته نحو إيريكا.
وما إن تلاقت عيناهما في الهواء حتى انتفضت إيريكا خائفة، تخفض بصرها بسرعة رغم أنها لم ترتكب أي خطأ.
ابتسم ميلرود ابتسامةً محرجة وهو يمدّ فمه بخفوتٍ خجول، لكنها لم ترَ تلك الملامح قط.
مرّر يده على ذقنه بتوترٍ خفيف، ثم تنحنح وأكمل كلامه:
“وكما ترون، فالعربة ثقيلة للغاية، ولم يكن في مقدور حصانين جرّها بسهولة. زاد الطين بلة أن أحد العجلات انفصلت في الطريق، واضطررنا لإصلاحها، ولذلك تأخّرنا عن الموعد.”
أنهى ميلرود كلامه، ثم ألقى نظرةً حذرة نحو سيّده ليرى ردّ فعله.
فمهما يكن، التأخر كان تقصيرًا لا يمكن إنكاره.
لكن الاعتذار مكانه يكون من السيّد، لا من الخادم، لذا لم يجرؤ على التفوّه بكلمة “آسف”.
ومع ذلك، لم يظهر على سيباستيان أدنى نيةٍ للاعتذار.
‘في الأحوال العادية، كان ليعتذر حتمًا… لكن تصرّف تلك الخادمة اللعينة أفسد مزاجه بالكامل. يا للمصيبة…’
تنهد ميلرود في سرّه.
وساد صمتٌ ثقيل ومحرج للحظة.
إلى أن بادر الكاهن العجوز بابتسامةٍ طيبة قائلاً:
“آه، كنت أعلم أن وراء التأخير سببًا وجيهًا.”
أومأ برأسه بتفهّم، وتبعته إيريكا بانحناءةٍ صغيرة بالكاد تُرى، وعينُها إلى الأرض.
اتّضح من القصة أن التأخير لم يكن متعمدًا لإذلالها، بل لأنهم أرادوا أن ينقلوها براحةٍ تامة، فجاؤوا بعربةٍ فاخرةٍ أثقلت الطريق عليهم.
“كنتُ أنوي أن أشرح الموقف بعد التحية، لكن… هكذا جرت الأمور دون قصد.”
قال ميلرود وهو يخفض صوته في نهاية الجملة.
نظرت إيريكا حينها نحو بونفيجو الواقفة إلى جانبها.
‘لقد تسرّعتِ يا سيدة بونفيجو…’
تسرّعها ذاك هو ما شوّه أجواء اللقاء الأول، وأشعل التوتر دون داعٍ، فخالجها شعورٌ خافت باللوم، وإن لم يكن بوسعها البوح به.
‘بالطبع، لا يمكنني أن أُظهر ما أفكر به الآن.’
تنهدت إيريكا في سرّها بخفوتٍ شديد.
وفي تلك اللحظة، كانت بونفيجو قد توقفت عن السعال أخيرًا، ووقفت مترنّحة وهي تمسك صدرها.
كانت شفتيها السفليتان بيضاء تمامًا من شدّة غضبها وقهرها.
تجمّد وجه إيريكا فور أن رأت تلك الملامح.
‘يا إلهي… ماذا لو غضبت مجددًا؟’
راودها القلق فورًا.
لقد توسّلت لسيباستيان كي يعفو عنها لتُنقذها بشق الأنفس،
لكن إن قررت بونفيجو الآن أن تُصرّ على الانتقام وتشتكي رسميًا بأنها أُهينت باسم آل بلانشيه،
فماذا ستكون النتيجة؟
‘لو حدث ذلك… فماذا سأفعل؟’
لو حدث ذلك، لبدت سماحة آل أكليف بلا معنى، ولأصبحت الأمور في غاية الصعوبة.
نظرت إيريكا إلى بومفيجو بعينين مرتجفتين، وقلبها يخفق باضطراب.
كان وجه كبيرة الخادمات لا يزال محتقنًا بالحمرة، لا يُدرى أكان ذلك من ضيق التنفس أم من الخجل.
لكن لحسن الحظ، كان سلوكها هذه المرة مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه قبل قليل.
ربما لأن الموقف الفوضوي السابق جعلها تشعر بثقل هيبة سيباستيان، إذ بدت متوترة وهي تبتلع ريقها مرارًا.
عندها، تحدّث الكاهن العجوز من جديد، محاولًا بوضوح أن يخفف من حدة الجو المتجمد.
“في الحقيقة، استغربت تأخركم. فلو لم أكن أعرف الدوق الشاب حق المعرفة لظننت غير ذلك… لكن من يعرفه يعلم أنه لا يُضيّع الوقت هكذا عبثًا.”
كانت كلماته دفاعًا صريحًا عن سيباستيان.
عندها، قال سيباستيان بصوت هادئ لكن حاد كالسيف:
“كنت سأشرح منذ البداية، لولا أن أحدهم تجرّأ على التطفل وإضافة كلامٍ لا حاجة له.”
كان صوته بطيئًا، لكن التحذير بدا واضحًا في نبراته.
“قد أكره آل بلانشيه، نعم، لكن معاملة الناس شيء آخر تمامًا.”
ارتجف وجه بومفيجو حين فهمت أن الكلام موجّه إليها.
شدّت قبضتيها المتشابكتين أمامها بقوة، وفتحت شفتيها المرتعشتين بصعوبة لتقول:
“أعتذر يا سيدي… لقد كنت فقط… غاضبة لأن الآنسة كانت متعبة جدًا…”
ثم رمقت إيريكا بطرف عينها وكأنها تبحث عن مهرب، وخفضت صوتها وهي تتمتم بتبريرٍ خافت:
“أرجو الصفح… لقد تجاوزت حدودي، لكنني فعلت ذلك بدافع الولاء فقط، فلتتكرموا بالعفو عني مرة واحدة فحسب.”
لكن هذا ليس صحيحًا… عضّت إيريكا شفتها بخفة.
في لحظةٍ قصيرة، حمّلت بومفيجو مسؤولية وقاحتها كلّها لإيريكا نفسها.
‘لم أفعل شيئًا كهذا.’
لم تنطق إيريكا بكلمة واحدة من التذمّر أثناء انتظارها سيباستيان، ولهذا شعرت بظلمٍ شديد.
لكن لم يكن في المجلس من سيُصغي إليها، لذا لم تملك سوى أن تُطبق شفتيها بصمت.
تماسكت بصعوبة، ثم ضمّت كفيها بخجلٍ وقالت مترددة:
“ن، نعم… كانت غلطتي… أعتذر.”
ثم انحنت بعمق نحو سيباستيان.
عندها تقلّص حاجبا سيباستيان قليلًا، وبدت على وجهه أمارات انزعاجٍ خافتة، وكأن شيئًا ما لم يُرضِه.
بعد لحظةٍ صمت، زفر نفسًا ثقيلًا وتحدث بنبرةٍ جافة:
“ارفعي رأسك.”
رفعت إيريكا رأسها ببطء، لكنها لم تستطع بعد أن تلتقي بنظره مباشرة، فبقيت عيناها منكسرتين نحو الأرض.
راقبها سيباستيان بصمتٍ مطول، دون أن ينبس بكلمة.
كانت الفتاة واقفةً بلا حراك، وكأنها تستعد لتلقي أي توبيخٍ أو لومٍ محتمل.
لكن، على عكس ما فعله مع بومفيجو، لم يوجّه إليها أيّ نقدٍ أو اتهام.
بل قال فقط ببرودٍ عابر:
“الابنة… تختلف كثيرًا عن أبيها.”
ارتجف كتفا إيريكا فور سماعها تلك العبارة.
شعرت وكأن قلبها سقط فجأة عند قدميها.
‘ما الذي عليّ قوله في موقفٍ كهذا؟’
حبست أنفاسها بخوف.
‘هل… هل اكتشف الحقيقة؟’
أنها ليست الابنة الحقيقية.
جفّ حلقها في الحال، وشعرت بقطرة عرقٍ باردة تنزلق على طول عمودها الفقري.
‘إن كان قد شكّ في أمري… فلابد أن أجد طريقة لتغطية الأمر!’
بدأت أفكارها تتشابك بعشوائية حتى صار من الصعب التفكير بهدوء.
ابيضّ وجهها كصفحة ورق، وتلعثمت وهي تهمس بخوف:
“آه… أ، أنا… ذ، ذلك…”
لكن سيباستيان لم يبدو أنه ينتظر منها إجابة.
إذ غيّر الموضوع فجأة وسألها ببرود:
“كم عمرك؟”
“ت، تعني… سني؟”
ارتجفت عيناها الذهبيتان بتوتر، لكنها شعرت ببعض الارتياح لأن الحديث تغيّر.
“نعم، سنّ الآنسة.”
أومأ سيباستيان رأسه قليلًا، فالتقطت أنفاسها وردّت بصوتٍ مرتعش:
“هذا العام… أتممت العَشْر من عمري.”
عندها تقلص وجه سيباستيان أكثر، فتجمدت إيريكا في مكانها.
‘هل قلت شيئًا خاطئًا؟’
هل أخطأت في أسلوب التخاطب؟
هل كان يجب أن أقول عشر سنواتٍ من عمري قد انقضت بطريقةٍ أكثر رسمية؟
لم تكن تعرف — فهي لم تكن سيدة نبيلة بحق، لذا كان من الصعب عليها التمييز بين ما هو لائق وما هو خطأ في مثل هذا الموقف.
ثم قال سيباستيان بصوتٍ أكثر برودة:
“عشر سنوات، تقولين؟”
ارتبكت الفتاة وأجابت بصوتٍ خفيضٍ مرتعش:
“ن، نعم؟ ن… نعم.”
“هاه.”
ضحكةٌ قصيرة خالية من الدفء انطلقت من شفتيه وهو يلوّيهما بسخرية، ثم ألقى عليها نظرةً طويلة بعينيه الحمراوين الباردتين من رأسها حتى قدميها.
‘هل… هل يحاول إيجاد خطأٍ آخر؟’
									
التعليقات لهذا الفصل " 5"