“بمجرّد عودتنا، سأطلب ختمًا يثبت الملكية المشتركة. لذا، عليكِ أن ترتاحي قليلاً. إذا لم تفعلي، لن أرى وجهكِ غدًا حقًا. مفهوم؟”
بالمناسبة، هل بيثاني ترتاح بشكلٍ جيد؟
تذكرت أوليفيا بيثاني، التي كانت تكتفي بإيماءة متعبة، و نظرت نحو قصر الدّوق الأكبر للحظة.
فجأة، بـدا القصر الضخم صغيرًا كنقطة في الأفق.
كم من الوقت سيستغرق الوصول إلى المنجم؟
خمّنت أوليفيا المسافة، متذكرة المرة الأولى التي وصلت فيها إلى فيكاندر.
لتجنب النّظر إلى إدوين عن قصـد في هذا الصمت، كان عليها أن تستمر في التفكير بأشياء أخرى.
“…أوليفيا.”
فوجئت أوليفيا عند سماع صوته يناديها و نظرت نحوه.
ابتسمَ وجهه الجميل بهدوء وهو ينظر إليها.
“لماذا تفاجأتِ هكذا؟”
“…لأنني لم أتوقع أن تناديني.”
ابتلعت أوليفيا ارتباكها و أجابت بصدق فضحكَ إدوين بهدوء.
اختفت آثار عينيه الحمراوين، و عادت عيناه المبللتان إلى لمعانهما المعتاد.
“آسـف، لكن…”
عبـسَ إدوين للحظة.
كان صوته الجاف المتقطع هو الشيء الوحيد المتبقي الذي يثبت حالته المضطربة منذُ قليل.
ابتسمَ إدوين بضعف و مـدّ يـده.
“هل يمكنكِ إمساك يدي؟ أشعر بدوار الحركة اليوم.”
نظرت أوليفيا إلى يـده و عضّـت شفتيها.
لقد أخطأت في تفكيرها. هل عاد إلى طبيعته؟
مع يديه المرتجفتين بهذا الشكل، و طلبـه بإمساك يـده فقط تحت ذريعة دوار الحركة، شعرت أوليفيا بأن قلبها يؤلمها بلا حدود.
هزت أوليفيا رأسها ببطء.
خرج صوتها، أكثر تحفظًا من المعتاد.
“اليـد لن تكفـي.”
“صحيح؟”
ضحكَ إدوين بهدوء و هو يتظاهر بأنه بخير، ثم اتسعت عيناه.
اقتربت رائحة حلوة كانت دائمًا تجعله مضطربًا.
جلست أوليفيا بجانبِ إدوين في لحظة، و أحاطت كتفـه القوي و قالت:
“في حالة الشعور بدوار الحركة، من الأفضل أن تتكئ على الشخص الذي بجانبكَ و تغمض عينيكَ.”
على الرّغمِ من أن الوضعية قد تكون غير مريحة، جعلت أوليفيا رأس إدوين يرتاح عليها بحذر و أمسكت يـده باليـد الأخرى.
“حتى لو كنتُ أبدو متسلّطة الآن، عليكَ أن تتحمّلني. لن أزعجكَ على الإطلاق عندما نصـل.”
قام صوتها القوي بتهدئة قلب إدوين الهش.
امتلأ الفراغ الصغير المتبقي في قلبه بإحساس مكتمل.
لمعت عينا إدوين بسببِ شعوره بالدفء و أغلقهما ببطء.
* * *
“لقد وصلنا.”
توقفت العربة تمامًا في لحظة ما. عند سماع صوت هوارد يطرق الباب، نظرت أوليفيا إلى إدوين للحظة.
“…هل ننزل؟”
بصوتٍ خشن كما لو كان محرجًا، سعـل إدوين لتصفية حلقـه. مع هذا التصرف الذي يخفف الجو، أرادت أوليفيا أن تبتسم قليلاً، لكن زوايا فمها ارتفعت بالكاد بسببِ التوتر.
عندما نزلت من العربة، أطلقت أوليفيا تنهيدة خفيفة. كان منجم الكريستال الأبيض أمامها في نفس الحالة كما رأته آخر مرّة.
بـدت المنطقة و كأنها لم تمسّها قدم بشرية، و كانت الأشجار عند المدخل لا تزال جافة و هزيلة.
صوت اصطدام الأغصان مع الريح كان موحشًا.
تذكرت أوليفيا الرياح الباردة التي كانت تهـبّ داخل المنجم، فلمست الحجر السحري على قلادتها دونَ وعي.
طالما أن لديها هذا الحجر، ستظل دافئة كما هي الآن. بمجرّد أن فكرت في إعطائه لإدوين، حاولت فـكّ مشبك القلادة خلف عنقها.
“لحظة… سأدخل أولاً.”
قبل أن تفـكّ القلادة، تحدّث هوارد بصوتٍ صلب. كان التوتر واضحًا على وجهه الخالي من التعبيرات.
“لا بأس.”
هـزّ إدوين رأسـه و تحدث.
كان إدوين و هوارد يبدوان و كأنهما يدخلان مكانًا محظورًا، فتحركت شفتا أوليفيا و سألت:
“…هل هناك قاعدة تمنع دخول هذا المكان ليلاً؟”
إذا لم يكن الأمر كذلك، لم يكن هناك داعٍ لهذه الوجوه المتجهمة.
بدلاً من إدوين، الذي ابتسم فقط، تردد هوارد للحظة و قال:
“…عندما كان الإمبراطور يمتلك منجم الكريستال الأبيض، استخدم ساحرًا ليضع تعويذة مقاومة ضدّ جميع أفراد عائلة فيكاندر.”
“تعويذة مقاومة؟”
لم تصدق ذلك.
التعويذة المقاومة كانت تعويذة تمنع وصول الأشخاص الغير مصرح لهم و كانت شيئًا لا يستطيع سوى السحرة ذوي المهارة العالية تنفيذه.
كيف يمكن أن تكون هذه التعويذة، التي تُستخدم في الخزائن الأكثر أمانًا في القصر الإمبراطوري، موجودة في هذا المنجم؟
نظرت أوليفيا إلى المنجم، و هي مصدومة من هذه الحقيقة الجديدة.
أضاف هوارد:
“نعم. حتى السّيدة بيثاني لم تستطع فـكّ التعويذات المتعددة الطبقات، لذا كان الدخول محظورًا علينا حتى الآن.”
“الآن بعد أن تغيرت الملكية إليكِ يا سيدتي، يجـب أن نتمكن من الدخول، أليس كذلك؟”
مشى إدوين بخطواتٍ واثقة نحو المنجم و هو يغمـز بشكلٍ مرح.
قبل أن تهدأ صدمة أوليفيا من أمر التعويذة المقاومة، صرخت بذعر و نادت إدوين.
“إدوين!”
إذا رفضت التعويذة المقاومة دخول الشخص، قيل انه سيعاني من ألـم يحرق العظام. تذكرت هذا الكلام بسرعة، و اندفعت أوليفيا مذعورة إلى جانبِ إدوين.
هل كانت الأميرة تعلم بهذا و أوقعتها في فـخّ؟
تمنت بشدّة أن يكون إدوين بخير.
مع هذا الأمل اليائس، أمسكت أوليفيا بيـد إدوين و هما يعبران مدخل الكهف. و بينما تمسك يـده القوية و هي تغمض عينيها بإحكام،…
“…لقد دخلنا ، أوليفيا.”
نظر إدوين إليها بلا تصديق.
كان على حاله.
لم يتراجع و لو يتمّ دفعـه إلى الخارج بل ظل يقف مكانه ، رغمَ الألم الشديد الذي كان من المفترض أن يحرق جسده بالكامل لو حاول دخول المتجمد.
فتحت أوليفيا، التي كانت قد أغمضت عينيها بإحكام، عينيها بحذر. بعد أن تأكدت تمامًا من سلامة إدوين، أظهرت غشبها.
“كيف تدخل هكذا مباشرة! ألا تعرف مدى خطورة تعويذة المقاومة؟ إنه سحر يمكنه حرق الناس حتّى الموت!”
في تلكَ اللّحظة ، عانـق إدوين أوليفيا فجأة. شعر بغضبها الواضح تحت جسدها الصغير الناعم، لكنه لم يستطع كبح شعوره بهذه السعادة.
“منذُ زمن بعيد…”
تمتم إدوين و هو يكبح شعوره المختنق.
“…كانت والدتي تخبرني عن هذا المكان كثيرًا. كانت تعتـز بمنجم الكريستال الأبيض كثيرًا، و تقول دائمًا إن هناك سرًا هائلاً هنا.”
“إنه سر ينتقل عبر أفراد العائلة المالكة لـلويل فقط عند بلوغهم سن الرشد. أتمنى أن يأتي اليوم الذي أخبركَ فيه بهذا السّر.”
كانت صورة والدته و هي تتحدث بشكلٍ مرح واضحة في ذهنـه.
لم يكن يستطيع مقاومة النعاس الذي كان يغلبـه مع صوت والدته الجميل الذي يشبه الكناري وهي تغني له وهو على وشكِ النوم، و تلكَ اللمسة الحنونة عندما تمرّر يدها على رأسه.
كان يفكر بشكلٍ غامض أنه سيكون من الجيد أن يبلغ الثامنة عشرة بسرعة. لكن عندما بلـغَ الثامنة عشر، لم يتمكن حتى من عبور مدخل هذا المكان.
كان يبتلع شعوره بالألم وقتها، و يتمنى أن يتمكن يومًا ما من الدخول.
أبعـد إدوين كتـف أوليفيا عن أحضانه للحظة عندها ، واجهته عينان خضراوتان تلمعان بالقلق و الدموع.
في تلكَ اللّحظة ، تذكّـر إدوين العبارة التي أرسلتها إليه هذه السّيدة المتألقـة.
“…لقد تحقّـق أفضل ما كنتُ أتمناه.”
– آمل أن يتحقق أفضل ما يتمناه الفارس. ليف غرين.
بينما ينظر إلى وجه أوليفيا المذهول، كرر إدوين مرّة أخرى:
“لقد جعلتِني أحقّـق أعظم أحلامي، أوليفيا.”
بصمتٍ منخفض مرتجف بالكامل.
و رغمَ أن أوليفيا شعرت بإحساس غريب بالألفة بسببِ كلمات إدوين، إلا أنها لم تسأل عن أيّ شيء.
بدلاً من ذلك، عانقتـه بقوة.
مهما كان الأمر، كانت سعيدة لأن أقصى ما كان يسعى إليه إدوين قد تحقق.
التعليقات لهذا الفصل " 55"