بين الندم والارتياح، أطلق ديان تنهيدة ثقيلة. اصطدم نفس ساخن براحة يـده التي كانت تغطي وجهه.
شعر أحمر و عيون خضراء باهتة.
“لو لم تكن موجودًا!”
بدأت أقدم ذكريات ديان دائمًا بهذه الكلمات.
صراخ والدته الحاد و العنف الذي يشبه تصفية الحسابات. و اعتناء أخته به.
“لا بأس، ديان. لا بأس.”
في كل مرة كانت أخته، التي تكبره بسنتين فقط، تهدئه، كان ديان يشعر بالأمان و يتساءل في الوقت ذاته. لماذا تكرهه والدته هو فقط، و لماذا عيناه خضراوان باهتان على عكسِ والدته وأخته؟
تـمّ حل كل الأسئلة عندما بلغ السادسة من عمره.
في اللحظة التي خرج فيها من المنزل، طعنه صوت بارد كالخنجر.
“تسك، بسبب هذا الطفل، تخلى البارون عن ناتالي.”
“بالطبع. البارون، و ناتالي، و ديزي، كلهم بعيون بنية، لكن هذا الطفل بعيون خضراء باهتة دنيئة.”
كانت أخته دائمًا تقول إن عينيه جميلتان، لكن العالم لم يكن يرى الأمر كذلك.
في لحظة ما، لم تعـد والدته إليه، وأصبح الطفل ذو العيون الخضراء الباهتة، بلا شخص بالغ يعتني به، هدفًا مثاليًا للتنمر.
لكن ديان كان محظوظًا نسبيًا.
“…سآخذ هذا الطفل.”
كالمعتاد، كان يتعرض للضرب.
عندما استعاد وعيه، وجد نفسه في مكان لم يره من قبل. أخبرته أخته أن هذا هو إقليم فيكاندر، و أن الدّوق الأكبر أنقذه.
لردّ الجميل، أصبح ديان فارسًا. قرر أن يصمد بقوة حتى لو كرهه أحدهم.
لكن فيكاندر كانت مكانًا غريبًا. لم يتجنب الناس عينيه الخضراء الباهتة. تدريجيًا، امتلأ شارع ينيف بأشخاص يشبهون عينيه.
و مع ذلك، أخفى ديان عينيه بالعدسات. لم يكن من السهل محو جروح الطفولة. لكنه لم يرد وضع تعويذة دائمة.
ربما يومًا ما، يمكنه خلع العدسات براحة بال.
كان يحمل أملًا صغيرًا جدًا.
حسنًا، اختفى هذا الأمل بسبب تصرفات أوليفيا مادلين السيئة.
“…سيدي.”
تسلل صوت رقيق بين أفكاره. أنزل ديان يـده و نظر إلى أوليفيا.
“هل تعتقد حقًا أنني كنت محمية من عائلة مادلين.”
“لو لم يكن الأمر كذلك، لما استطعتِ التجول بعيونِك الخضراء بهذه الجرأة.”
“حقًا؟”
عند صوتها الخفيف، كما لو كانت تتحدث عن شخصٍ آخر، عبس وجه ديان.
لكن قبل أن يتمكن من توبيخها، تابع صوت هادئ.
“نصفية، ابنة راقصة دنيئة، وضيعة، فتاة محظوظة أصبحت خطيبة ولي العهد. امرأة متعجرفة لا تدرك مكانتها و تطمع بما يخص الآخرين.”
اتسعت عينا ديان و هو يسمع الإهانات تتدفق من دون توقف.
شائعات دنيئة عن أوليفيا لم يستطع قولها بفمـه.
ضحكت أوليفيا بخفّة كما لو أنها ليست مشكلة كبيرة.
“مثلكَ تمامًا، أنا أعرف الشائعات التي تقال عني جيدًا. لأنني سمعتها مباشرةً في وجهي مرات عديدة.”
سمعتها مباشرة؟ هذا مستحيل. كيف يمكن لأحد أن يقول مثل هذه الأشياء أمام أميرة نبيلة…
توقّف ديان للحظة وهو يحاول النفي تلقائيًا. كان هناك شيء غريب.
“و لو لمرة واحدة. ألم تفكر أبدًا أن هذا غريب؟”
عندما تحدثت أوليفيا بهدوء، شعرَ ديان بشعورٍ غريب.
لم يستطع تخمين ما كانت ستقوله، لكن لسببٍ ما، شعر أنه إذا سمع هذا…
“خطيبة ولي العهد، ابنة دوق مادلين، رئيس فصيل الإمبراطور، و كما قلتَ، أميرة ثمينة محبوبة بما يكفي لترفع عينيها الخضراء بفخر.”
ربّما كل ما كان يؤمن به قد يهتز . كان هذا ما يشعر به.
قامت أوليفيا بذكر الحقائق التي يعرفها كلاهما بهدوء، ثم رفعت رأسها لتواجه ديان. عند نظرتها المباشرة التي تخترق الروح، تجنب ديان عينيها دونَ وعي منه.
” كيف لأميرة ثمينة محبوبة إلى هذا الحد….”
تمايل العشب تحت نسيم الليل.
“أن تكون محاطة بمثل هذه الفضائح الفوضوية ؟ ألم تفكر بهذا لمرة واحدة على الأقل.”
استمر صوتها اللطيف.
“ألم تفكر أبدًا أن هذا غريب؟”
لم يفكر في ذلك أبدًا.
الأميرة المحبوبة التي كان يكرهها.
الأميرة التي ترفع عينيها الخضراء بفخر.
بالنّسبة لديان، كانت أوليفيا مادلين أملًا يمكن أن يغيّر نظرة الناس للعيون الخضراء، لكنها تحولت إلى أميرة متعجرفة من فصيل الإمبراطور تعتمد على حبّ و حماية عائلة مادلين.
لكن…
هل كانت أوليفيا “مادلين” حقًا أميرة ثمينة و محبوبة؟
عندما واجه الحقيقة التي لم يشـك فيها أبدًا، شعر ديان و كأنه غرق في الماء، و توقف نفسه.
ثم سمع صوتًا لطيفًا عبر أذنيه المكتومة.
“سأسأل مرّةً أخرى أيها السير سجيلين.”
رفع ديان رأسه كما لو كان مسحورًا.
في تلكَ اللّحظة ، ضحكت أوليفيا وكأنها تقول النكتة الأكثر تسلية في العالم.
“هل تعتقد حقًا أنني كنتُ محمية من عائلة مادلين؟”
* * *
ظهرت مشاعر الارتباك بوضوح على عيني ديان.
بينما كانت تنظر إلى شفتيه المتحركتين كما لو كان يصعب عليه الإجابة، قالت أوليفيا بهدوء:
“كما قلتَ أيها السير سجيلين، كنت أتجول بعيوني الخضراء بجرأة. لم أتعرض للضرب مثل أطفال ينيف.”
“…..”
“لكن للأسف، يبدو أنني لم أكن أميرة ثمينة محبوبة بما يكفي لتغيير نظرة الناس للعيون الخضراء.”
“آه…”
لم يقـل ديان شيئًا.
و فوق ذلكَ، تذكرت أوليفيا الأشخاص الذين كانوا دائمًا يعادونها. و صورتها التي كانت دائمًا تُدفع بعيدًا من قبل الآخرين.
لم تسألهم و لو مرة واحدة. ألا يمكننا أن نكون على علاقة أفضل؟
لا، بل هي لم تملك الشجاعة للسؤال حتّى.
لكن ، لم يعـد الأمر كذلك.
واجهت أوليفيا ديان مباشرة. و قالت بصدق:
“لذا، إذا كنتَ تكرهني لهذا السبب، ربّما يمكن أن تتغير علاقتنا الآن.”
“…..”
“لكن لا بأس إذا لم ترغب في ذلك.”
ارتجفت زاوية عينيّ ديان للحظة.
لم تعرف أوليفيا ما الذي يقلقه، لكنها كانت مستعدة للانتظار حتى يغيّر رأيه.
لقد انتظرت بالفعل أربعة عشر عامًا أشخاصًا لم ينظروا إليها أبدًا.
لكن أوليفيا كبحت كلمات الانتظار عمدًا و غيرت الموضوع.
“لكن بدلاً من ذلك، لا تعرقل عملي في تنظيم ينيف.”
“…..”
“الناس هكذا. إذا لم يكن لديهم مكان يذهبون إليه، يسنتهي بهم المطاف بالعودة إلى المكان الذي بدأوا منـه. إذا اختفى حتى ذلكَ المكان، سيشعرون حقًا أنه ليس لديهم مكان يذهبون إليه.”
تذكرت أوليفيا ذكريات تجعلها تشعر بالضعف. ذلك الزقاق القذر، الشعور بالوحدة. ثم ظهور إدوين أمامها كمعجزة.
و الآن ، أصبح لديها مكان تعود إليه.
“لذا، أريد أن يشعر سكان ينيف أن فيكاندر هي موطن يمكنهم العودة إليه دائمًا.”
كان ديان لا يزال صامتًا.
شعرت بتغيير في عينيه، لكن ذلك كان كل شيء.
شعرت بالمرارة و الارتياح في الوقت ذاته.
رفعت أوليفيا زاوية فمهـا.
“…سأعود أولاً.”
أصبحت عينا ديان يائستين، لكن أوليفيا ابتسمت بأدب و تراجعت خطوة.
“تصبح على خير.”
بينما كانت تستدير للعودة إلى قصر الدّوق الأكبر، شعرت بوخز في ظهرها.
لكن بدلاً من الالتفات، ابتسمت ببراعة للرجل الواقف عند مدخل الحديقة.
“هل كنتَ تنتظرني؟”
“بالطبع. مرافقتكِ هي مهمتي أيا كان الوضع.”
تفاخر إدوين كما لو كان مرافقتها شرف عظيم.
وضعت أوليفيا يدها على يـده الكبيرة القوية.
و مع الدفء اللطيف الذي شعرت به، أطلقت أوليفيا تنهيدة خفيفة.
اتسعت عينا إدوين عند الشكوى المفاجئة الموجهة إليه.
و بينما تنظر إلى عينيه، تذمرت أوليفيا.
“قلتَ إنني جيدة في فتح قلوب الناس. لكن هذا لا ينطبق على الجميع.”
“…أوليفيا ، لقد أخفتني.”
تنفس إدوين الصعداء و حدّق بها بنظرة متظاهرة. شعرت أوليفيا بتحسن في مزاجها عند رؤيته.
بينما كانت أوليفيا تبتسم، نظر إدوين إلى ما وراء الحديقة و تمتم:
“…لا أعتقد أنني كاذب تمامًا.”
“ماذا؟”
هزّ إدوين رأسه كما لو أنه لم يقل شيئًا.
.
.
.
كانت تعرف جيدًا أن قلوب الناس لا تتغير بسهولة.
عندما ذهبت إلى الفراش، كررت أوليفيا هذه الحقيقة لنفسها عدة مرات. حتى لو لم يغيّر ديان سجيلين موقفه تجاهها على الفور. قررت ألا تهتم به كثيرًا لبعض الوقت.
لكن…
“…صباح الخير.”
في الصباح الباكر، عندما فتحت الباب، جعلها الصوت الذي سمعته أكثر سعادة مما توقعت.
كان ديان، مرتديًا زيه الرسمي بدقة، يؤدي التحية بأدب.
بـدت عيناه متعبتان كما لو أنه لم ينم طوال الليل.
عند رؤية علامات التفكير الواضحة، كبحت أوليفيا فرحتها و أجابت:
“…صباح مشرق، السير سجيلين.”
“…نعم، صباح مشرق، سيدتي.”
ابتسمت أوليفيا وهي تنظر إلى وجهه المحمر من شعوره بالإحراج.
* * *
“…خلع العدسات مباشرة قد يكون صعبًا، لكنني سأحاول على الأقل.”
“يومًا ما، قد يقرر شخص ما أن يكشف عن عينيه عند رؤيتي.”
“إنّـه دوري.”
تدخّل صوت هادئ فوق أفكارها السعيدة.
آه، لقد نسيت دورها في لعبة الورق بسبب انشغالها بالتفكير.
خلط إدوين الأوراق المرتبة جيّدًا و هو يرفع زاوية شفتيه بعبوس. على الرّغمِ من علمها بذلك، تظاهرت أوليفيا هي أيضًا بالتذمر.
“ما هذا، إدوين؟ لقد كنتُ أفوز!”
“أنـتِ مَـنْ وضعت حدًا زمنيًا أولاً. مَـنْ قال لكِ أن تكوني شاردة الذهن؟”
أخذ إدوين الأوراق من يدها بحذر و جمعها بضربات خفيفة.
بـدا متضايقًا لأنها لم تركز في اللعبة.
ضحكت أوليفيا بخفّة.
“بدلاً من ذلك، سأسحب اتهامي بأنّـكَ كـاذب.”
“لقد فات الأوان، أوليفيا. كان يجب أن تقولي ذلك أمس عندما غيّر ديان موقفه.”
“لكنني كنتُ مشغولة يوم أمس. لقد بدأ السير سجيلين يخبرني عن ينيف بجدية.”
بـدا كعذر، لكنه كان صحيحًا.
كان ديان، الذي غيّـر موقفه، أكثر كفاءة مما توقعت، و قدّم آراء جادة حول تنظيم شارع ينيف.
“إذا كنتِ ستصممين هذا الشارع بطريقةٍ مميزة، فقد يأتي إليه أشخاص من خارج الإقليم أيضًا و لن يقتصر على سكان فيكاندر فقط . لا يزال لدى الغرباء تحيزات ضد العيون الخضراء، فهل فكرتِ في طرق لحماية الأطفال من الأذى؟”
“أو ربّما يمكنكِ التحدث مباشرةً مع سكان ينيف؟”
بفضل إقناع ديان، خرجَ الناس الذين لم يكشفوا حتى عن وجوههم إليها إلى الشارع.
في اللّحظة التي واجهت فيها امرأة في سنها بعيون خضراء كانت تتجنب النظر إليها بخجل، شعرت أوليفيا بشعور غريب يملأ صدرها.
إذا واجهتهم لبضعة أيام أخرى، بـدا أنهم سيخبرونها بما يريدون. بينما كانت أوليفيا تشعر بالإثارة من التوقعات، لاحظت تعبير إدوين الذي يزداد عبوسًا و أدركت خطأها.
نظرت حولها ثم جاءتها فكرة مثالية لتغيير الموضوع.
“بالمناسبة، متى سيعود السير كالتر؟”
كان من المفترض أن يعود وينستر من العاصمة، لكنه لم يصل منذُ أيام. كان يجب أن يكون قد وصل بحلول الآن.
عندما رمشت أوليفيا بعينيها، ابتسم إدوين بغموض و نظر إلى ما وراء النافذة الزجاجية.
“…بالفعل. لو لم يحدث شيء، لكان قد وصل الآن، لكن يبدو أن هناك زائرًا غير مرغوب فيه يتجول حول فيكاندر.”
عند كلامه الغامض، أمالت أوليفيا رأسها. لمعت عينا إدوين و هو يخلط الأوراق بمهارة.
“هل نلعب جولة أخرى؟ هذه المرة، عليكِ التركيز”
* * *
في نفس الوقت، في حانة صاخبة.
كان صوت تصادم الأكواب يملأ المكان، لكن جايد، الذي لم يخلع حتى عباءته الزرقاء الداكنة، ابتلع الطعام.
منذُ مغادرته القصر من يومين، كان هذا أول طعام يأكله غير اللحم المجفف.
“…ولي العهد مهتم بأوليفيا.”
كان دائمًا يتدرب بقسوة كما لو كان يعذب نفسه. لم يتحمل قائد الفرسان هذا السلوك المدمر لفارس، فأجبره على أخذ إجازة. في تلكَ الليلة التي دخل فيها القصر، سمع هذا الكلام.
قال والده، و هو يعبس، بعد فترةٍ طويلة من عدم رؤيته:
“سأجيبكَ بشكلٍ مناسب، لذا عليكَ أن تعرف أنت! أيضًا.”
“سأذهب لرؤيتها.”
قبل أن ينتهي والده من الكلام، أجاب جايد.
في الحقيقة، لم يكن بحاجةٍ إلى إذن.
حقيقة أن ولي العهد مهتم بأوليفيا كانت كافية كذريعة لرؤيتها.
“الآن، هل تشعر بالذنب؟”
“إذا رأيتَ أختي، أخبرها أنكَ آسف. بالطبع، هذا إن كنتَ تشعر بالأسف حقًا.”
تذكر جايد كلام أخيه و إيسيلا و هو يغادر بسرعة. هـزّ رأسه بعنف.
اختلطت كلماتهما المتعارضة.
إذا التقى بها… على الرّغمِ من وصوله إلى هنا، لم يكن جايد يعرف ماذا سيقول. مجرّد التفكير بوجه أوليفيا جعل شفتيه تتصلبان.
بينما كان جايد يبتلع تنهيدة ثقيلة و هو ينهض من مكانه، سمـع صوتًا مألوفًا.
“لقد مرّ وقت طويل ، السير مادلين.”
استدار جايد بسرعة.
على طاولة على مسافة مناسبة، جلس رجل ذو شعر بني يبدو عاديًا و وسيمًا.
“…السير كالتر.”
وينستر كالتر.
كان ذراع الدّوق الأكبر ينظر إليه.
هل قام بتتبعه؟
شعر جايد بالضيق و كاد يعبس.
“ما الذي جاء بكَ إلى هنا؟”
ارتسمت ابتسامة إجتماعية على وجه وينستر.
لم يكن جايد يثـق بالأشخاص الذين يبتسمون هكذا. خاصة وينستر كالتر، الذي كانت سمعته سيئة مثل الدّوق الأكبر القاتل.
دون إجابة، خطا جايد خطوة.
“تناول المزيد من الطعام قبل العودة إلى العاصمة. ففي كل الأحوال لن تتمكّن من عبور بوابة فيكاندر حتّى ، لذا لا تجهد نفسك عبثًـا.”
نظرَ جايد إلى وينستر تلقائيًا بعد هذه الكلمات.
و بينما كان يبتعد، رأى جايد وجهه و هو يبتسم بسخرية، فقال بتهديد و برود:
“…ماذا تعني بذلك؟”
“آه، ألم تكن تعلم؟ إقليم فيكاندر يمنع دخول أي فرد من العائلة الإمبراطورية أو عائلة مادلين.”
التعليقات لهذا الفصل " 52"