لم تنظر أوليفيا إلى الخارج من النافذة إلا عندما ابتعدت عن شارع ينيف.
كان ديان يجلس على حصان بينما يتبع العربة على مسافة ثابتة.
وضعيته التي كانت دائمًا صلبة أمام أوليفيا، قد انهارت قليلاً.
لحسن الحظ، كانت الشمس تغرب خلف ديان. و إلا، لكان وجهه مرئيًا بوضوح. لم يكن ذلكَ ما تريده أوليفيا، و ربّما لا يريده ديان أيضًا.
سحبت أوليفيا الستارة على نافذة العربة. بينما كانت تسمع صوت حوافر الحصان من الخارج، استرجعت أوليفيا ما حدثَ قبل قليل.
“…هل يمكنني مرافقتكِ إلى قصر الدّوق الأكبر الآن؟”
تجاهلَ ديان سؤالها عن ارتدائه للعدسات بطريقةٍ خرقاء. و بعد التأكد من صعودها إلى العربة، استدار للحظة قبل أن يعلن عن المغادرة.
عندما تحدّث عن الانطلاق، كانت عينا ديان بنيتين تمامًا. لكن أوليفيا لم تستطع نسيان العين الخضراء الباهتة التي رأتها تحت اللون البني.
حتى الآن، كانت أوليفيا تعتقد أن عداء ديان يرجع إلى كونها ابنة دوق من فصيل الإمبراطور، و إلى ولائـه العميق لفيكاندر. مثل بعض الفرسان الذين يحدقون بها بنظراتٍ ثاقبة ثم يديرون رؤوسهم عندما تكـاد أعينهم تلتقي.
لكن عند التّفكير في الأمر، كان ديان يكرهها بشكلٍ واضح بشكلٍ غير عادي.
‘…هل هو نوع من آليات الدفاع؟’
لكن فكرة أنه يكرهها أكثر لأنه لا يريد أن يتمّ كشف لون عينيه الخضراوتين بـدت غريبة، خاصّة أنه كان يتفاعل جيّدًا مع أطفال شارع ينيف.
إذن، ما السّبب الذي يجعله يكرهها تحديدًا؟
رمشت أوليفيا بعينيها.
منذُ متى اصبحت تهتم بهذا القدر لمعرفة سبب كره شخص ما لها!؟
في الماضي، لم تبحث أوليفيا عن أسباب كره الناس لها.
ابنة غير شرعية، نصف نبيلة. أو خطيبة ولي العهد غير المحبوبة. كانت هناك فضائح كثيرة تمثّلهـا.
كانت تعتقد أن هذه هي الأسباب ، فحاولت تجاوزها و بذلت قصارى جهدها فقط من أجل الأشخاص الذين أحبتهم.
لكنها الآن…
“افعلي ما تريدين.”
أرادت أن تحبّ الجميع في فيكاندر. وفي الوقت نفسه، أرادت أن يحبّها الجميع بقدر ذلك.
بطريقةٍ غريبة، كانت تشعر بانجذاب متزايد نحو فيكاندر و سكانها. شعرت أنها مستعدة لمحبة الجميع.
حتى لو كان ذلكَ طمعًا، فلا بأس. لأن عبارة “افعلي ما تريدين” قد ترسخت فيها كتعويذة.
.
.
.
بعد العشاء، في غرفة الاستقبال.
كما كان الحال عندما كانا في قصر الدّوق الأكبر في العاصمة، منذُ وصولهما إلى فيكاندر، كانا يتناولان الشاي الدافئ معًا بعد العشاء.
عادة، كانا يتحدثان عمّـا فعلاه خلال النهار عندما كانا منفصلين. لكن اليوم، و بينما كان إدوين ينظر إليها باهتمام، أثار موضوعًا مفاجئًا.
“…هل تـمّ كشف ديان، أم أنكِ اكتشفتِ الأمر بنفسكِ، أوليفيا؟”
“مـاذا؟”
“عدسات ديان.”
في تلكَ اللحظة، ابتلعت أوليفيا أنفاسها.
خوفًا من أن تكون عدسات ديان سرًا، حاولت عدم إظهار أنها تعلم عنها، فبدأت تتحدث بالتفصيل عن زيارتها إلى ينيف.
و بينما هي تشعر بالحيرة، اختلط سؤالان أرادت طرحهما على إدوين.
“للإجابة عن كيف عرفتُ أنكِ أصبحتِ تعلمين عن عدسات ديان…”
و كما لو أنه قرأ أفكارها و فهـمَ تمامًا ما تريد سؤاله ابتسم إدوين ، ثم ألقى نظرة سريعة نحو النافذة المفتوحة.
كانت الليلة مظلمة، لكن ميدان التدريب كان مضاءً.
على الرّغمِ من أن الأشجار الكثيفة حالت دونَ رؤية مَـنْ هناك، كان يبدو أن هناك صوت صياح أو هتاف.
“…إنها عادة ديان. عندما يكتشف أحدهم عدساته، يتدرب بعنف كما لو كان يفرغ غضبه.”
أجابَ إدوين على السؤالين بحل واحد. فسألت أوليفيا سؤالًا آخر.
“هل كان يتمّ كشفـه كثيرًا؟”
“قبل بضع سنوات، كان ذلكَ يحدث تقريبًا بشكلٍ يوميّ. ربّما باستثناء الأشخاص الذين رأوه عندما وصل إلى هنا، علـم الآخرون بهذه الطّريقة. في ذلكَ الوقت، لم يكن معتادًا على العدسات.”
سمعت مرّة أن ارتداء العدسات لأول مرة يسبّب شعورًا بالغرابة في العينين.
“حتى أن بيثاني عرضت وضع تعويذة سحرية دائمة لتغيير لون عينيه، لكنه رفض. في النهاية، اعتاد على العدسات.”
ارتفعَ حاجب أوليفيا بدهشة و هي تستمع بهدوء.
كان هناك شيء غريب.
إذا كان يكره أن يُكتشف أمره لدرجة أنه يتدرب بعنف، فلماذا رفضَ السحر و استمر في استخدام العدسات التي قد تُكتشَـف؟
كانت كلماته متناقضة. لكن إدوين واصلَ بهدوء.
“بعد أن اعتاد على العدسات، توقف عن ذلكَ لفترةٍ. لكن رؤيته يفعل ذلكَ اليوم جعلتني أدرك أنكِ اكتشفتِ أمـره. ربّما خمّـن الجميع ذلكَ أيضًا.”
“…هل تعرف لماذا يصرّ السير سيجلين على العدسات؟”
ارتجف صوت أوليفيا قليلاً. إذا سمعت الإجابة، ربّما تفهم سبب عداء ديان سيجلين لها.
تحركت شفتا إدوين الحمراء ببطء.
كان قلب أوليفيا يخفق بسرعة.
“…هذا شيء لا يمكنني إخباركِ به.”
ابتسم بنظرة أسف طفيفة.
آه.
استرخت قبضتها التي كانت مشدودة دونَ وعي.
بالتأكيد، هي مَـنْ طلبت منه ألا يساعدها، لكنها كادت تتجاوز الحدود.
حاولت أوليفيا إخفاء خيبتها بابتسامة خفيفة.
“صحيح، شكرًا….”
“لكن.”
قبل أن تنتهي كلمات أوليفيا، واصلَ إدوين.
نظرَ إليها بعينيه الحمراوين المنحنيتين بلطف.
“بدلاً من سرّ ديان الشخصي، لا بأس بإخباركِ بحقيقة يعرفها الجميع في قصر الدّوق الأكبر، أليس كذلك؟”
أومأت أوليفيا برأسها.
حقيقة يعرفها الجميع. و في الوقت نفسه، حقيقة لا تعرفها هي.
“ديان يعرف عن شائعات ‘أوليفيا مادلين’ أكثر من أي شخصٍ آخر.”
“حقًا؟”
ضحكت أوليفيا قليلاً.
لم يكن ذلك مفاجئًا. كان سببًا مثاليًا لكرهها.
“لا يبدو أن هذا مفاجئ لكِ .”
ظهرت خيبة أمل في شفتيه الحمراء وهو يعبس.
“لأنني خمنت ذلك.”
“إذن، ماذا عن هذا؟”
كان صوته الهادئ يحمل لمحة من السرية. عندما لمعت عيناه الحمراء بجاذبية، قال:
“ديان هو مَـنْ كان يدافع عن تلك الشائعات بقوّة في فيكاندر؟”
لا يمكن.
نفت أوليفيا على الفور. فهـز إدوين كتفيه.
“هذا صحيح. حتى أنه كان يذهب إلى الحانات التي تصلها صحف العاصمة. كان يعرف كل شائعاتكِ و يقول إنها ملفّقـة، لدرجة أنني منعت دخوله إلى إحدى الحانات.”
رمشت عيناها المذهولتان ببطء. مرّت العديد من التغيرات على وجهها الهادئ، و مع تراكم كل ذلكَ، ظهرت قوة داخلية على وجهها .
كان إدوين يعرف جيدًا.
مدى قوة قلب سيّـدته الصغيرة.
كانت شخصًا قويا بما يكفي لقطع علاقتها بعائلة تمسكت بها لأربعة عشر عامًا.
لذلك، عندما رفعت أوليفيا رأسها و قالت:
“أنا… يجب أن أرى السير سجيلين الآن.”
ابتسم إدوين و أومأ برأسه.
كما لو كان يعلم أنها ستقول ذلك.
* * *
في ميدان التدريب الخالي.
طقطقة.
مع صوت معدني حاد، جلسَ ديان على الأرض.
انتشرت صدمة قوية في يـده التي تمسك بالسيف.
كانت ساقاه ترتجفان، وكان العرق يتدفق من جسده كالمطر. كان يمكن أن ينهار على الفور.
لكن…
“…سيدي، هل ترتدي عدسات؟”
مهما تدرب و قسى على جسده، لم يستطع محو صوت السّيدة التي سألته.
“…كان يجب أن أستمع إلى بيثاني عندما عرضت وضع تعويذة.”
أغمض ديان عينيه بقوّة مع شعوره بندم يتسرب من بين أسنانه.
اللعنة. اللعنة، اللعنة!
كان الجميع يعرف أن عينيه خضراوان، لكنه لم يكن يريد أبدًا أن تعرف هذه السيدة النبيلة بالذات!
وضعَ ديان السيف جانبًا، و فرك رأسه بقوة. لو استطاع، لأراد أن يعيد الزمن.
لماذا رفض تعويذة بيثاني بسببِ ذلك التعلق الأخير؟
“صحيح أنني لا أعرف الكثير عن التدريب…”
فجأة، رفعَ ديان رأسه مفزوعًا عند سماع صوت مألوف.
ظن أن ما سمعه مجرّد هلوسة. و إلا، لما لم يشعر بقرب أحدهم إلى هذه الدرجة.
لكن الشخص الذي اقترب كان بالتأكيد أوليفيا مادلين. الفستان الذي رآه سابقًا، الشعر الفضي الناعم المتلألئ تحت ضوء القمر، الوجه الأنيق. و…
“…لكن إذا تدربتَ بهذه الطريقة، سيكون من الصعب عليكَ مرافقتي غدًا، السير سجيلين.”
حتى العينان الخضراتان النقيتان اللتان تنظران إليه مباشرة.
“…أقدم تحياتي للسيدة.”
“أودّ الذهاب في نزهة قصيرة. هل يمكنني طلب مرافقتكَ لي؟”
“…لقد انتهيت للتو من التدريب، و قد تكون رائحتي غير محببة. إذا انتظرتِ قليلاً، سأحضر فارسًا آخر.”
“لا مانع لدي. هيا بنا.”
أخفض ديان رأسه في النهاية.
أومأت أوليفيا و خطت خطواتها.
.
.
.
كانت ليلة فيكاندر سوداء تمامًا. صوت الحشرات يشبه ما كانت تسمعه في قصر الدّوق الأكبر بالعاصمة.
ضحكت أوليفيا بخفة و هي تنظر حول الحديقة. ثم ألقت نظرة على قصر الدّوق الأكبر و سألت ديان:
“ربّما هذا هو المكان الذي كنتَ تحدّق فيه، أليس كذلك؟”
“…ما الذي تقصدينه؟”
كان صوته يظهر عدم رغبته في الإجابة. ابتسمت أوليفيا بلطف كما لو أنها لا تهتم.
“المكان الذي حدقتَ فيه إليّ، السير سجيلين.”
“…!”
عند كلام أوليفيا، نظرَ ديان أخيرًا إلى المكان الذي يقـف فيه.
صحيح. في اليوم الأول لعودة الدّوق الأكبر و السيدة، كان هذا المكان نفسه الذي وقف فيه و حدق بأوليفيا مادلين التي كانت متواجدة على شرفة قصر الدّوق الأكبر من بعيد.
“…لماذا أتيتِ إلى هنا؟”
“ظننت أنه إذا جئتُ إلى هنا، قد أفهم لماذا كنتَ تحدّق بي.”
نظرت أوليفيا إلى قصر الدّوق الأكبر بهدوء ، هزت رأسها. ثم استدارت لتواجه ديان.
التعليقات لهذا الفصل " 51"