✧ظننتُ أنه يومٌ مثاليّ ✧
ـــــــــــــــــــــــــــ
“وما الذي أتى بالسّيد الذي يقف خلفنا؟”
ابتسمت السّيدة ديتون ابتسامةً تجارية موجهة إلى الدّوق الأكبر. لم يجب الدّوق الأكبر. مع ردائه المريب وصمته، تحرّكت يد السّيدة نحو جرسِ استدعاء الحراس تحتَ العارضة.
أسرعت أوليفيا وقالت:
“إنه شخصٌ أعرفه.”
ومضت عينا السّيدة بنظرةٍ ذكية.
الأميرة التي أثارت ضجة البارحة بقسمِ الدّوق الأكبر، جاءت لاختيار هدية لرجلٍ ليس من عائلتها أو خطيبها. وها هو “شخص تعرفه” يظهر فجأة.
فهمت السّيدة على الفور و ابتسمت لأوليفيا بمعنى خفي، ثم انحنت بأدب للدّوق الأكبر:
“حسنًا، سأحضر شايًا جديدًا. سأطرد الجميع، فإذا احتجتما شيئًا، رنّا الجرس.”
خرجتْ السّيدة قبل أن تستطيع أوليفيا، المرتبكة من سوء الفهم، الرّد.
خلعَ الدّوق الأكبر رداءه كأنه كان ينتظر. ابتسمَ وجهه الجذّاب بخفّة لأوليفيا:
“إذا كنتُ أحبّ مساعدتكِ هكذا، ماذا أفعل؟ هل يجب أن أظل في ورطة؟”
“ما هذا الكلام!”
ردّت أوليفيا دونَ وعي، ثم أدركت خطأها. أمسكت طرف فستانها وانحنت:
“أوليفيا مادلين، تُحيّي سمو الدّوق الأكبر.”
“يمكنكِ الاستغناء عن هذه التحية.”
“إنها من الآداب.”
“أودّ منح الآنسة التي أقسمتُ لها امتيازًا فوق الأصول و الآداب. ما رأيكِ؟”
ومضت عينا أوليفيا ببطء. التّحية دونَ اتباع الآداب دليل على علاقة وثيقة، تُظهر الاحترام المتبادل بغضِّ النّظر عن الرتبة.
لم تسمع مثل هذا الكلام حتى من ليوبولد، الذي تعرفت عليه منذُ كانت في التاسعة. عضّت أوليفيا شفتيها.
لاحظَ الدّوق الأكبر ذلكَ بذكاء و غيّر الموضوع بسلاسة:
“ألم يكن لديكِ شيء تريدين قوله لي؟”
أدركت أوليفيا ما كانت ستقوله وضيّقت عينيها:
“ماذا كنتَ تقصد بكلامكَ السّابق؟”
“أيّ كلام؟”
“ذلك الخاتم! خاتم خطوبة، لماذا هو لي؟”
لم تستطع أوليفيا إكمال جملتها. سألها الدّوق الأكبر بدهشة مصطنعة:
“كيف عرفتِ أنكِ ستحبينه بالضبط؟”
هل يمزح أم جاد؟ نظرت أوليفيا إليه بعادة، محاولة فهم نواياه.
تجنّبَ الدوق الأكبر نظرتها. كان طرف أذنه، المرئي بين شعره الأسود، أحمر.
كأنّـه جادّ.
هزّت أوليفيا رأسها متفاجئة من هذه الفكرة. سمعت ضحكته لكنها لم تشعر بالحرج.
كانت فكرةً سخيفة.
إنه الدّوق الأكبر، الرّجل الوحيد في الإمبراطورية بمثل هذه المكانة، ثري و بطل حرب مرموق. بالأمس، عرضَ الإمبراطور الأميرة كعروس له.
آملت أوليفيا أن يصل مديحها، فابتسمت بفخر.
لكن وجه الدّوق الأكبر، وهو ينظر إليها، كان غريبًا.
نظرَ إليها بنظرات فاحصة، فأعادت أوليفيا التفكير بكلامها.
كان مديحًا، لكن هل أُسيء فهمه؟ بينما شعرت بالقلق، ابتسمَ الدّوق الأكبر بلطف:
“…هذا ما كنتُ أتمناه.”
“لي؟”
“نعم، لكِ.”
انتفخ صدر أوليفيا أمام ردّه الواضح. أرادت قول شيء، لكن عندما التقت عيناها بعينيه، أغلقت فمها.
لماذا ينظرُ إليّ هكذا؟
نظراته جعلتها تشعر بالحرج و الدغدغة. كانت عيناه تحملان كلّ ما تمنّته: الحبّ اللطيف.
كان لطيفًا معها منذ البداية. هل كانت هذه إشارات؟ أم منذُ متى بدأ ذلك؟
تزاحمت الأسئلة في ذهنها، لكنها قالت جملة واحدة:
“…أنا مخطوبة لسمو وليّ العَهْد.”
عبسَ الدّوق الأكبر كأن الرد لم يعجبه. بدا كجرو حزين، فشعرت أوليفيا بالذّنب دونَ سبب.
“صحيح. لكن، ألا يعجبكِ الخاتم؟”
“بالطّبع الخاتم يعجبني، لكن…”
أدركت أوليفيا دلالة كلامها و حدّقت في الدوق الأكبر. رفعَ يديه بسرعة:
“حسنًا. لكن لماذا أتيتِ إلى هنا؟”
“لاختيار هدية لسموك.”
“كنتِ تختارين هديّة لي؟”
فرحَ الدّوق الأكبر كطفل. شعرت أوليفيا بالأسف وقالت الحقيقة:
“دبّوس الجواهر الذي أعطيتكَ إياه أمس كان هدية من أختي. أنا أحبه جدًا.”
“لن تقولي إنكِ تريدين استعادته، أليس كذلك؟”
“هذا بالضبط ما كنتُ سأقوله، لكن سأعطيكَ هدية أخرى بدلاً منه.”
عبسَ الدّوق الأكبر بسخط. شعرت أوليفيا، بغير عادتها، بحاجة لتبرير نفسها:
“بالطّبع كان يجب أن أعطيكَ شيئًا آخر من البداية، لكن الظروف كانت عاجلة.”
“…هناكَ طريقة واحدة لاستعادة الدبوس.”
“ما الذي يعجبك؟”
فحصت أوليفيا العارضة، مستثنية خاتمه. ربما أزرار أكمام من الأوبسيديان أو الألماس؟
أشارَ الدّوق الأكبر إلى جانب العارضة:
“ماذا عن هذا؟”
كان قلادة زمردية، خضراء كصيف مورق، لامعة بين سلاسل البلاتين.
نظرت أوليفيا بين القلادة و الدّوق الأكبر:
“هل… سترتديها بنفسك؟”
“إنها لكِ.”
ردَّ بحزم على نظرتها المرتبكة:
“سأعيد لكِ الدّبوس، وفي المقابل، اقبلي هذه كهدية. و إلا لن أعيده.”
“أنا مَنٔ يجب أن يهديكَ شيئًا، والآن أنتَ من يعطيني هدية؟”
“قلتِ إنكِ ستفعلين أيّ شيء.”
تصرّفَ الدّوق الأكبر بوقاحة. أرادت أوليفيا الاحتجاج لكنها صمتت. كانت ستوافق على كلامه على أي حال. لكن هذا اللون… هزّت رأسها:
“ألا تعجبكِ؟ إذن ماذا عن الألماس الوردي بجانبها؟”
“ليس أنها لا تعجبني.”
نظرت إليه بنظرةٍ خاطفة. بدا وجهه المبتسم الرائق مستعدًا للانتظار إلى الأبد.
كان من الصّعب الكشف عن نقاط ضعفها في المجتمع، لكن مع هذا الرّجل… قالت أوليفيا بلا مبالاة:
“الألوان الزاهية لا تليق بي.”
عبسَ الدّوق الأكبر دونَ وعي:
“ماذا تعنين؟”
أوليفيا هزّت كتفيها بوجهٍ صافٍ:
“أعرف ذلك. بما أنها لا تليق بي، هل يمكنني اختيار لونٍ داكن؟”
بينما نظرت إلى العارضة، فحصها الدّوق الأكبر. كان فستانها الرمادي جيد الجودة لكنه بسيط، ولم تكن ترتدي أقراطًا أو قلادة. ظنّ أنها تفضّل البساطة، لكن…
شعرَ بمرارة. ابتلع ألمه و قال بخفّـة:
“كما قلتُ أمس، يبدو أن مَنٔ حولكِ يفتقرون حتى للحسّ الجمالي.”
“ماذا؟”
نظرتْ إليه أوليفيا. غضبَ من تعبيرها المتسائل، و ازدادَ غضبه لأنه يعرف من يستهدفه. عائلة إمبراطورية غبية لا تعرف قيمة الأشياء أو الأشخاص الثمينين.
تمتمَ الدّوق الأكبر بغضب:
“…يجب استدعاء خبير.”
رنّ الجرس بخفة. فُتح الباب ودخلت السّيدة. اهتزت عيناها عند رؤية الدّوق الأكبر بلا رداء:
“أحيي سمو البطل العظيم.”
“بما أنكِ ذكية، أثق أنكِ ستحفظين السّر.”
“شكرًا. هل تحتاجون شيئًا؟”
“أحضري كلّ القلادات الزاهية التي تليق بالأميرة.”
“قلتُ إنها لا تليق بي!”
تجاهلَ الدّوق الأكبر كلام أوليفيا، وكذلك فعلت السّيدة، التي بدأت تُخرج الجواهر بحماس:
“يا إلهي، كنتُ أعلم أنها ستليق بالأميرة!”
أحضرت السّيدة ألماسة وردية لامعة بمديح مبالغ فيه.
كلّما كانت الجواهر زاهية، شعرت أوليفيا أنها تبدو باهتة.
جفّ فمها، و تحرّكت يداها بعصبية. عندما لم يقل الدّوق الأكبر شيئًا، أنزلتْ رأسها أكثر.
سألتْ السّيدة بحماس:
“ما رأي سموك؟”
“…أكثر مما توقّعت.”
أغلقت أوليفيا عينيها بقوة على صوته الخافت. تذكّرت سخرية ليوبولد في ظلام رؤيتها:
“ألم أقل لكِ؟ الألوان الزاهية لا تليق بكِ حقًا.”
لكن صوتًا قويًا طغى على صوت ليوبولد:
“إنها تليق بها أكثرَ مما توقّعت.”
فتحت أوليفيا عينيها ببطء.
كانَ الدوق الأكبر متكئًا على العارضة، يومئ برأسه بخفة:
“إنها تليق بكِ حقًا، سواء الألوان الداكنة أو الزاهية.”
شعرتْ بدغدغة من أخمص قدميها إلى رأسها. شعور غريب لأوّل مرة. نظرت أوليفيا بحذرٍ إلى المرآة.
قال ليوبولد إنها لا تليق بها، حتّى قلادة إيسيلا الورديّة.
لكن صورتها في المرآة لم تكن سيئة. بل ربّما كانت… جيّدة قليلاً.
هزَّ الدّوق الأكبر كتفيه كأنّه يقول: ألم أكن محقًا؟
واصلت السّيدة إحضار الجواهر: العقيق، الياقوت، والسافاير تزيّن عنق أوليفيا. قال الدّوق الأكبر بجدية:
“واحدة فقط؟ لقد أخطأتُ. هل يمكنني تقديمها كلها كهدايا؟”
“واحدة تكفيني ، شكرًا يا صاحب السّمو.”
عبسَ الدّوق الأكبر على ردّ أوليفيا الحاسم.
صرختْ السّيدة داخليًا. نظرات الدّوق الأكبر للأميرة لم تكنْ عادية.
* * *
تطوّع الدّوق الأكبر لمرافقتها. بعد أن انطلقت سالي، المبتسمة بسعادة، ركبت أوليفيا العربة وهي تُمسك بقلادة الألماس الوردي.
“كما وعدت، سأعيدُ دبوس الجواهر اليوم.”
ابتسمَ الدّوق الأكبر بعينين متلألئتين، مبتهجًا. ضحكت أوليفيا لكنه توقّف.
تذكّرت كلامه عن رغبته بإعطائها خاتم الخطوبة.
كانت لطافته و دفئه ممتعين، لكن إذا كان يعاملها هكذا بقصد الخطوبة، يجب أن تتوقّف.
يجبُ أن تصبح زوجة وليّ العَهْد.
فقط عندما تقف إلى جانب ليوبولد بثقة، ستنظر إليها عائلتها.
تصلّبت يدها على القلادة. شعرت بثقل في صدرها. لم تتوقّع أن تكون فكرة عدم رؤية الدّوق الأكبر مجددًا محزنة هكذا.
قبل أن تتقرّب أكثر، فتحت أوليفيا شفتيها بحذر:
“صاحب السّمو، لدي شيء أقوله.”
“ما هو؟”
“بخصوصِ الخاتم الذي ذكرته.”
“هل أردتِه أخيرًا؟”
جلسَ الدّوق الأكبر بترقّب، عيناه الحمراوان تلمعان بحلاوة:
“الأمر متأخر جدًا، لكن بما أنكِ تريدينه، سأفكّر مجددًا.”
أخرجَ علبة الخاتم من جيبه بسرعة، لكن أوليفيا قالت بسرعة:
“ليس بسببِ الخاتم، بل بسبب لطفك.”
انخفضَ صوتها تحت نظرته الواضحة:
“إذا كان بسببِ الخطوبة، لا داعي لمعاملتي بلطف.”
تغيّرت تعبيرات الدّوق الأكبر. بدا كأنه سيقول شيئًا، لكنه تردّد.
تعرف أوليفيا خطأها. بالتأكيد سيجدها الدّوق الأكبر وقحة بعد كلّ لطفه.
تراجعت كتفاها بحزن. لكن صوتًا هادئًا قال:
“هل أنا لطيف معكِ؟”
سأل بصدق. أومأت أوليفيا:
“نعم، كنتَ لطيفًا جدًا معي.”
لم تختبر أوليفيا مثلَ هذا اللطف الغامر من قبل.
مديح محرج، نظرات دافئة، تصرفات مراعية، نبرة لطيفة، وحتى هدايا.
كانت ممتنة حقًا.
تقلّص وجه الدّوق الأكبر أمام نظرتها الممتنة، ثم عادَ للابتسام. شعرت أوليفيا أنه تأذّى.
“…إذن، سأكونُ ألطف معكِ.”
“لماذا؟”
“كنتُ أحاول الاقتراب منكِ دون إزعاج، مع كبح رغبتي في معاملتكِ بلطفٍ أكبر.”
كانت كلماته كضوء الربيع. بالكاد صدّقت أنها تستحقّ هذا اللطف.
ضحكَ الدّوق الأكبر بهدوء:
“لذا، لا تطلبي مني التوقّف عن اللطف، حسنًا؟”
جفّ فم أوليفيا. أومأت بعد فترة. ابتسمَ الدّوق الأكبر برفق.
توقّفت العربة أمام البوابة. نزلَ الدّوق الأكبر وأشارَ إلى جانب أوليفيا. كانت هناك علبة جواهر جديدة. قبل أن تتكلم، قال:
“هذه لأختكِ. أريد أن أترك انطباعًا جيدًا لدى أختكِ الغالية.”
ابتسمَ و أمر العربة بالانطلاق. عبرت عربة أوليفيا الحديقة. نظرت إليه من النافذة.
كانت ابتسامته البعيدة واضحة.
* * *
دخلت أوليفيا القصر و فتحت العلبة التي تركها الدّوق الأكبر. كانت قلادة ألماس وردية، مثل التي ترتديها.
شعرت بالحماس. كان يومًا مثاليًا. تلقّت زهرة من الأطفال و هدية كهذه.
“سالي.”
ناديت أوليفيا على سالي، التي أرسلتها إلى القصر أولاً، لكنها لم تكن موجودة.
تجمّعت الخادمات أمامَ باب غرفة إيسيلا.
رأتها الخادمات بقلق:
“الآنسة إيسيلا تبحث عنكِ.”
“هل عادت إيسيلا؟”
كان يفترض أن تبقى ثلاثة أيام أخرى. شعرت بقلق لكنها هزّت رأسها.
ما الشّيء السيء الذي يمكن أن يحدث؟ كانت تستمتع بسعادةٍ في منزل الماركيز هيلكوين.
دخلت أوليفيا غرفة إيسيلا وتفاجأت.
كانت الغرفة مظلمة رغمَ المساء، دون إضاءة. رأت إيسيلا جالسة على السّرير بين ضوء الغروب.
شعرت إيسيلا بوجودها واستدارت. لم ترَ وجهها المغطى بشعرها. توقّفت أوليفيا عن مناداتها، كان تشعر بشعور بالقلق مشابه للحظة دخولها مكتب والدها.
“أختي.”
سمعت صوتًا مختنقًا. وضعت أوليفيا العلبة على الطاولة و اقتربت من إيسيلا:
“ما الذي حدث؟”
كان صوتها يرتجف. صوتٌ منهك تمامًا.
أمسكت أوليفيا قبضتها بقوّة. مَنْ يجرؤ على إبكاء إيسيلا، الملاك؟ مستحيل.
“أخبريني، ما الذي حدث؟”
“…بسببكِ حقًا…”
استدارت إيسِيلا ببطء. توقّفت أوليفيا في مكانها. عينا إيسيلا، اللتين كانتا دائمًا مليئتين بالسعادة، خمدتا.
“هل ماتت أمي بسببكِ؟”
ارتجف صوتها نحو أوليفيا.
سقطَ قلب أوليفيا.
التعليقات لهذا الفصل " 16"