✧السّعادة و التّعاسة تأتيان معًا ✧
ـــــــــــــــــــــــــــ
كانت هذه المرة الأولى التي تحضر فيها إيسيلا حفل شاي رسمي.
أبعدت إيسيلا شفتيها عن كوبٍ يحتوي على شاي الورد. كانت رائحة الورد القوية ثقيلة.
كانت المحادثات الجارية على الطّاولة ثقيلة بنفس القدر.
“ما زلتِ رائعة الجمال اليوم، يا سمو الأميرة.”
“انظري إلى قلادة الألماس الوردي التي ترتدينها. أرسلها أمير مملكة ويلتون، المُرشح لخطبتكِ، أليس كذلك؟”
“إنها تليق بكِ جدًا، يا صاحبة السّمو.”
“هل تعتقدين ذلك؟”
ابتسمت الأميرة رينا بارتياح، وهي تُمسكّ القلادة، ردًّا على المديح المبالغ فيه. استمر الحديث نفسه لمدة ساعة.
تذكّرت إيسيلا الدعوة. جاءت إلى حفل الشاي مترددة بعد رسالةٍ تقول إنها ستُظهر صور حفل أختها، لكن لم يُذكر شيء عن أوليفيا.
بل إن محاولاتها للحديث عن أختها قُوبلت بنظرات خفية و انقطاع الحديث.
جاءت على الرّغمِ من توقّع توبيخ عائلتها، لكنها شعرت بالإرهاق. هل تذهب الآن؟ بينما كانت تفكّر، قالت إحدى الآنسات:
“لم أكن أعلم أنها بهذا الجمال. ماذا تعتقدين، يا أميرة مادلين؟”
“نعم، إنها جميلة.”
كان رد إيسيلا مقتضبًا. شربت الأميرة الشاي لتخفي ارتباكها، بينما ضحكت النّبيلات بتصنّع.
حدّقت الأميرة بإيسيلا بعينين مليئتين بالخبث.
كانت إيسِيلا مادلين، التي نشأت على حبّ الدوق، تفتقر إلى الحسّ الاجتماعي. سابقًا، دمّرت الجو الذي حاولن خلقه بانتقادِ فستان أوليفيا.
“أنتِ مخطئة. أختي تليقُ بها جميع الألوان، فهي جميلة بأيّ فستان.”
ولم يتوقّف الأمر عند هذا.
“أختي تدير ميزانية منزل الدوق، بل و حتّى إقليم الدوق. و تأتيها وثائق مالية قصر ولية العهد يوميًا. لو كانت موظفة، أكانت هناك موظفة نزيهة ومجتهدة كهذه؟”
كانت إيسِيلا تدافع عن أوليفيا، تلكَ الابنة غير الشرعية، في كلّ محادثة.
كلّما اتجه الحديث إلى انتقاد أوليفيا، قطعت الكلام، و الآن لم تُظهر حتى رغبة في المشاركة.
هل كلّ مَنْ لهم دماء مادلين هكذا؟
“سموّ الأميرة.”
نظرت إيسيلا إلى رينا فجأة.
“متى يمكنني رؤية صور الحفل المذكورة في الدعوة؟”
“صور الحفل؟ صحيح، هذا كان هدفكِ، يا أميرة.”
أومأت رينا إلى ابنة الماركيز ريبيورن، فقالت إيسيلا بخفّة:
“بفضل دعوتكِ الكريمة، يا صاحبة السّمو، التي اقترحت أن آتي لرؤية صور أختي.”
جاءت إيسيلا من منزل للماركيز هيلكوين إلى القصر بسببِ تلك الجملة في الدعوة، متوقّعة توبيخ عائلتها.
لكنها أرادت حقًا رؤية صور أوليفيا. لم تُنشر صور في الصحف، فقط أخبار عن قسم الدّوق الأكبر لها.
ابتسمت إيسيلا وهي تتذكّر أوليفيا. هل ارتدت دبوس الجواهر الذي أهدته إياها؟
تبادلت الآنسات نظرات غريبة على الطاولة.
تحدّثت الكونتيسة شامين بلطف:
“يبدو أنكِ قريبة جدًا من الأميرة الأولى.”
“بالطبع، إنها أختي الوحيدة.”
ضحكت الآنسات بدهشة، لكن ضحكاتهن كانت غريبة. تبادلن النظرات و نظرن إلى إيسيلا بشفقة.
شعرت إيسيلا بالقلق، كما شعرت عندما كانت تلعب مع أختها و هي تنظر إليها الخدم بنظرات مشابهة.
قرّرت المغادرة، لكن الآنسة شامين هزّت رأسها:
“أنتِ حقًا رحيمة، يا أميرة. هل أنتِ تشبهين والدتكِ؟”
“…ماذا تعنين؟”
“أليس كذلك؟”
أشارت الآنسة شامين إلى الجميع. التقت عيناها بعيني الأميرة، و تفاجأت إيسيلا من الخبث في عينيها الزرقاوتين و أشاحت بنظرها.
غمرها صوتٌ لطيف بلا رحمة:
“كيف تعاملين ابنة راقصة تسبّبت بموت والدتكِ كأخت؟ لا يمكنني تخيّل ذلك.”
لم تفهم ما يُقال. مستحيل. كيفَ لا تكون أوليفيا أختها؟
حتى لو تباعدتا الآن، كانت أوليفيا دائمًا لطيفة معها. كانت تدخل غرفتها سرًا، تقرأ لها القصص، تجعلها تنام، تغني، و تعلّمها الرقص.
“كيف تعاملين ابنة راقصة تسبّبت بموت والدتكِ كأخت؟”
تذكّرت أوليفيا و هي ترقص تحت ضوء القمر، وعينيها الخضراوين المختلفتين عن العائلة.
اختنقت أنفاسها. هزّت رأسها نافية، ثمّ أنزلت رأسها. تمنّت لو يغطي شعرها وجهها.
كان وجه إيسيلا يفرغ من التعبيرات. ابتسمت الأميرة برضا، ثمّ اقتربت منها و وضعت يدها على كتفها بعطف مصطنع:
“ألم تعلمي؟ كلّ الإمبراطورية تعرف هذا.”
“….”
“سببُ وفاة والدتكِ.”
“….”
“تلكَ الفتاة ذات العينين الخضراوين.”
برقت عينا الأميرة بخبث. في تلكَ اللحظة، انهار أحد محاور عالم إيسيلا.
* * *
“حتى لو سقطت ثريا مسرح تشاندلر اليوم، لن تستطيع سرقة خبركِ الرئيسيّ، يا سيّدتي.”
“ليس إلى هذا الحد.”
“بل أكثر من ذلك! أنتِ السّيدة التي قدّم لها بطل الحرب شرفه!”
ضحكتْ أوليفيا قليلاً على حماس سالي. بالطبع، المجتمع الراقي يضجّ الآن بأخبار خطيبة وليّ العَهْد التي تلقّت قسمَ رجلٍ آخر.
“لم تري ذلك، لكن عمال التوصيل اليوم كانوا يتسكّعون عندَ الباب الخلفي. بفضلهم، أصبحتُ نجمة الصباح! انظري، حتى أنّ حارس الإسطبل جلبَ لي بطاقات صحفيين.”
مدّت سالي بطاقات بحماس، كلها من صحف الشّعائعات. مازحتها أوليفيا:
“هل ستتّصلين بهم؟”
“مستحيل! لقد تدرّبتُ بجدٍّ كخادمة خاصة.”
ضحكت أوليفيا بلطف على هزّتها رأسها. دخلت العربة شارع رهايرن.
فكّرت أوليفيا في مهامها: إرسال رسالة لإيسِيلا، التحقق من صندوق البريد، وشراء هدية للدّوق الأكبر بدلاً من دبوس الجواهر.
هزّت رأسها وهي تتذكّر الرّد الذي لم تكتبه.
كان الحديث عن دبوس الجواهر محرجًا، و ذكر السيف يوحي بأنه سيعطيها شيئًا عظيمًا.
مهما كان، سيكون من الأفضل طلب الهدية معها. ما الذي يمكن أن يعوّض دبوس إيسيلا؟
توقّفت العربة وهي تفكّر. حينَ حاولت النزول، أمسكت سالي الباب بسرعة وقالت بقلق:
“سيّدتي، بالتأكيد الفرسان حولنا، لكن قد يتجمّع الناس حولكِ اليوم. سأحميكِ!”
“لماذا كلّ هذا الحذر؟”
“أنا جادة!”
تجاهلت أوليفيا قلق سالي و نزلت. بعد خمس خطوات، أدركت أن سالي كانت محقة.
كان نصفُ الناس، الذين كانوا ينظرون إليها بعداء عادةً، ينظرون إليها بنظراتٍ جديدة. ابتلعت ارتباكها و حاولت التركيز على المشي و التفكير بأشياء أخرى.
ما الذي يحتاجه رجلٌ يملك كلّ شيء؟
الدّوق الأكبر فيكاندر يملك الشرف، المكانة، والثروة الهائلة.
تذكّرت أوليفيا الضرائب المتزايدة لإقليم فيكاندر بسببِ مناجم الجواهر، ومع ذلكَ لم تتأخر الضرائب أبدًا.
ما الذي سيكون جيدًا؟ بينما كانت تفكّر، سمعت صوتًا:
“سيّدتي.”
نظرت أوليفيا إلى الأسفل متفاجئة. كانت فتاة صغيرة، ربّما في الخامسة أو السادسة، تنظر إليها.
ساد الهدوء المفاجئ في الشارع. شعرت أوليفيا بالهدوء و نظرت إلى الطّفلة.
كانت الفتاة ذات الشعر البنيّ تمسك زهرة وتنظر إلى أوليفيا بعيونٍ مليئة بالإعجاب. قبل أن تقترب سالي، قالت الفتاة بعيون براقة:
“أنتِ تلك الاميرة، أليس كذلك؟”
“تلك الأميرة؟”
“نعم! الأميرة الجميلة كالجنيّة!”
غطّت أوليفيا وجهها دونالد وعي.
“الأميرة الجميلة كالجنيّة”؟ لقب لم تسمع به من قبل. احمرّ وجهها.
ما الذي سمعته لتناديها هكذا؟
رغمَ الإحراج، ارتفعت زاوية فمها.
شعرت بالحلاوة كأنّها شربت العسل. كان هناك من يراها جميلة غير إيسيلا و سالي.
بينما حاولت أوليفيا الرد، مدّت الفتاة الزهرة، زهرة برية وردية. أمسكتها أوليفيا بيد مرتجفة.
“…شكرًا.”
اختنق صوتها. ذابَ التوتر في قلبها.
ابتسمت الفتاة و ركضت، و تبعتها أطفال آخرون يهتفون. عاد شارع رهايرن إلى صخبه.
نظرت أوليفيا إلى الزهرة. بشكلٍ غريب، لم تُرهقها النظرات بعد الآن. ضحكت سالي وهي تنظر إليها:
“مبارك لك! الأميرة الجميلة كالجنيّة! متى سأسمع مثلَ هذا المديح؟”
“…لقد كانت مجرّد كلمات طفلة.”
لاحظت سالي احمرار أذني أوليفيا.
ابتسمتْ أوليفيا بنعومة، و شعرت بنسيم لطيف يداعب قلبها. تحرّكت الزهرة الوردية في يدها.
“…إذا كان يطلب جوهرة، فجوهرة مماثلة ستكون مناسبة، أليس كذلك؟”
“ماذا؟”
ابتسمت أوليفيا و سارت نحوَ متجر جواهر السّيدة ديتون.
* * *
ركضت الفتاة ذاتَ الشعر البنيّ إلى زقاق، وقالت بفخرٍ لرجل بنيّ الشعر:
“أعطيتُ الأميرة زهرة!”
نظر وينستر بدهشة:
“كيف عرفتِ أنها الأميرة دونَ شرح؟”
“لقد سمعنا الشرح! أليسَت الأميرة الجميلة كالجنيّة؟”
“صحيح!”
ردّ الأطفال كجوقة. و نظر وينستر إليهم بدهشة.
تحدّثَ الأطفال بحماس عن أوليفيا:
“كانت حقًا كجنيّة! ابتسامتها جميلة.”
“أنا رأيتها!”
“أردتُ أن أعطيها زهرة أيضًا.”
تباهت الفتاة:
“قالوا ان الشّخص الشجاع هو مَنْ يأخذ كلّ شيء! لقد أوفيت بوعدي، فأوفِ بوعدك!”
ضحك وينستر. نظر إليه الأطفال بعيون متلألئة.
“كما وعدت، هذه لكم.”
أعطى وينستر كرةً جديدة للأطفال، فهتفوا و هربوا.
نهضَ الدّوق الأكبر بعد كان متّكئًا على الحائط:
“الأطفال أذكياء جدًا، وجدوا الآنسة دونَ معرفة لون شعرها.”
“يقولون إن الأطفال لديهم أفضل حسّ جماليّ.”
شعر وينستر بنية قتل باردة. صرخَ بانزعاج:
“ماذا؟ لماذا هذا مجدّدًا؟”
منذُ الصباح، سلّم الرسالة، تعامل مع الصحفيين، و استعان بالأطفال لتسليم الزهرة. عمل بجد من اجل سموّه، لكن المقابل كان نيّة قتل و ليس مكافأة!
تمتم الدّوق الأكبر دونَ اكتراث بانزعاج وينستر:
“…لا بأس. عيناها لديها معايير مرتفعة ، لن ترى أحدًا غيري.”
مَنٔ قالَ انّ الأميرة يجبّ أن تنظر إليكَ؟
كان وينستر مذهولًا، فضرب صدره بدلاً من الكلام. كان هو الأكثر تعبًا هنا.
لم يكن الدّوق الأكبر هكذا، لكن عندما يُذكر أوليفيا مادلين، يتغيّر.
قرّرَ وينستر عدم المساعدة مجدّدًا، لكن الدّوق الأكبر استدارَ فجأة:
“ألن تأتي؟”
“سأذهب!”
ركضَ وينستر، متعهدًا أن يفرّغ حزنه في إقليم فيكاندر.
* * *
في متجر جواهر السّيدة ديتون.
“أيمكنكِ إظهار هذا أيضًا؟”
كانت صناديق مخملية زرقاء مكدّسة على طاولة الاستقبال. فتحت السّيدة ديتون صندوقًا جديدًا عند إشارة أوليفيا، فتلألأت أزرار أكمام من الأوبسيديان.
“كما توقّعت، ذوقكِ رائع، يا أميرة. هذه مستوردة من مملكة ويلتون، وهي القطعة الأخيرة.”
تفاخرت السيّدة ديتون، لكن أوليفيا هزّت رأسها. كانت تريد جوهرة تذكّرها بالدّوق الأكبر أكثر من مجرّدِ جوهرة ثمينة.
تذكّرت عينيه الحمراوين المتلألئتين بلطف.
“يا أميرة؟”
“نعم؟”
رفعت أوليفيا رأسها متفاجئة. نظرت إليها السّيدة ديتون بقلق:
“ما الذي تفكّرين فيه؟ هل تشعرين بالحر؟ وجهكِ احمرّ.”
“لا، فقط… هل هناكَ شيء آخر؟”
“هذه أفضلُ القطع المستوردة هذا الشهر، لكن يبدو أنّها لم تعجبكِ. يجب أن أوبّخ مسؤول الاستيراد.”
أدارت السّيدة ديتون رأسها متظاهرةً بالضيق.
بعد طلاقها، بدأت السّيدة ديتون عملها باسم جديد، وكانت من القلائل الذين تثق بهم أوليفيا.
“أم تودّين التجوّل بالخارج؟”
أشارتْ السّيدة ديتون إلى الخارج. خرجت أوليفيا بعد تفكير.
جذبتها الجواهر في العروض، لكن جوهرة واحدة لفتت انتباهها: خاتم أحمر يشتعل كالنار. تذكّرت الدّوق الأكبر.
اقتربت السّيدة ديتون عندما رأت أوليفيا تحدّق:
“هل أعجبكِ هذا، يا أميرة؟”
أخرجت سوار سافاير بجانب الخاتم.
“ليس ذلك، بل الخاتم بجانبه.”
تغيّرت تعبيرات السّيدة ديتون.
“كيف عرفتِ أن هذا الخاتم لكِ؟”
تسلّلَ صوتٌ ناعم.
رفعت أوليفيا رأسها إلى صوتٍ مألوف. كان رجل طويل يرتدي رداءً أسود بجانبها.
هذا الرّداء بالتأكيد…
“الدّوق…”
“شش.”
أشارَ الوجه الجميل تحتَ الرداء إلى السّيدة ديتون. أغلقت أوليفيا فمها بعيون متسعة. قالت السّيدة ديتون بحذر:
“للأسف، هذا ليس للبيع. عميل آخر عهد إلينا بحفظه من أجل التّقدم للزّواج.”
التعليقات لهذا الفصل " 15"