✧الرّقصة الأولى ✧
ـــــــــــــــــــــــــــ
“كيف كان شعوركِ، يا أوليفيا، بتلقّي قسمكِ الأوّل؟”
نادى ليوبولد اسمها بلطف، لكن زاويةَ فمه انحنت. كانت هذه علامته عندما يضايقه شيء.
في كلّ مرّة، كانت أوليفيا تنظرُ إليه بحذر، محاولةً تهدئته بأفضلِ ما لديها.
توقّفت أوليفيا التي كانت على وشكِ الذّهاب إلى جانبه كما كانت تفعل في العادة. هزّت يد الدّوق الأكبر الممسكة بها بخفّة، فتلاشى تعبيره المتشدّد.
لاحظَ ليوبولد ذلك، فارتفعَ حاجبه باستياء.
منذُ البداية، لم يعجبه تصرّف أوليفيا. لا عندما أفلتت يدها منه، ولا عندما تجاهلت نظرته الآن.
كانَ هذا غيرَ مقبول.
كانَ من الطّبيعيّ أن تأتي أوليفيا إلى جانبه. كانوا وسطَ النّبلاء. لكنها لم تتحرّك، كأنّها ترفضه.
شعرَ بغضبٍٍ يغلي بداخله، و عيناه تزدادان حدّة.
“سموّك.”
حمى الدّوق الأكبر أوليفيا كأنّه يخفيها، متحدّثًا بلطفٍ لا يليق بلقب “السفّاح”. كان نقيضًا لليوبولد الذي وقفَ بحدّة.
“إذا لم يكن لديكَ أمر، فتنحّى. سأرقص الرقصة الأولى مع الآنسة التي قدّمتُ لها قسمي.”
“بما أنّ خطيبتي تلقّت قسمها الأوّل، أريد أن أكون أنا مَـنْ يرقصُ معها الرقصة الأولى، أيها الدّوق.”
على عكسِ نبرته القاسية، نظرَ ليوبولد إلى أوليفيا بعينين ناعمتين.
“هيّا، ليف.”
ناداها بلقبها الحميم بصوتٍ دافئ. قفز قلب أوليفيا. كانتْ هذه المرّة الأولى التي يُناديها أحدٌ بلقبها بعد والدتها.
خفقَ قلبها بشدّة. ابتسمَ ليوبولد ببريقٍ يشبه تلكَ المرّة عندما كانت في الحادية عشرة.
كادتْ أوليفيا أن تتحرّكَ دون وعي.
“كنتِ دائمًا ترغبينَ في الرّقصة الأولى معي.”
لو لم يقل هذه الكلمات، التي بدت كـصدقة، لكانت تحرّكت بالفعل.
كلمة “الرّقصة الأولى” أعادت ذكرى دخولها الأوّل إلى المجتمع. وقفتْ بجانبِ ليوبولد بالطبع، لكنّه تركها وأمسكَ بيد ابنة الماركيز نورديان.
ومعَ ذلك.
كان ليوبولد واثقًا الآن.
مدّ يده دونَ طلبِ إذن، وناداها بلقبها دون استئذان. عضّت أوليفيا شفتيها من الدّاخل.
…هل أنا بهذهِ السّهولة بالنّسبة لـليوبولد؟
حضر مع ماريا إيتيل ومعَ ذلكَ يدعوني الآن بخطيبته، حتّى أنّه تجاهل أمر سماعه عن البطاقات والزهور التي لم يرسلها من رئيس الخدم.
إنّـه يجعلني أبدو كأنّني لا شيء بهذه الطّريقة.
شعرتْ بالاكتئاب. حاولت أوليفيا استعادة رباطة جأشها.
دونَ تفكير في العواقب، فتحتْ شفتيها ببطء:
“…هذا حفلُ نصر لتكريمِ أبطال الحرب، سموّك.”
“ليف؟”
ناداها ليوبولد بدهشة.
رفعتْ أوليفيا رأسها بثقةٍ أكبرَ من أيّ وقت مضى. لم تهتمَّ إنْ كان الغضب في عينيه الزرقاوتين بسببِ الموقف أو إذا كان موجّهًا إليها.
كانتْ متعبةً جدًا اليوم.
“سأرقصُ الرّقصة الأولى مع سموّ الدّوق الأكبر أوّلاً.”
تزامنًا، رافقها الدّوق الأكبر بلطف.
خطوة، خطوتان.
تذكّرتْ أوليفيا فجأة، فاستدارت إلى ليوبولد وقالت بأدب:
“سموّك، استمتعْ أيضًا برقصتكَ الأولى مع آنسة إيتيل هناك.”
تشوّهَ وجه ليوبولد. أمسكتْ أوليفيا يد الدّوق الأكبر وتوجّهتْ إلى وسطِ القاعة.
خفقَ قلبها كأنّه سينفجر.
لأوّلِ مرّة، رفضت ليوبولد.
ملأها شعورٌ مجهول.
* * *
“أليس ثقيلاً؟”
“ماذا؟”
“السّيف.”
أشارَ الدّوق الأكبر بعينيه بابتسامة. أدركت أوليفيا أنّها تمسكُ السّيف بيدٍ واحدة.
ظنّت أنّه ثقيل بسببِ الجواهر، لكنّه كان أخفّ ممّا توقّعت. هزّت أوليفيا كتفيها.
“بالفعل، توقّعتُ أن يكون ثقيلاً.”
“إذا لم يبدو ثقيلاً، فقد اكتشفنا موهبة مذهلة. ماذا عن الانضمام إلى فرساننا؟”
نظرت أوليفيا إليه بنظرةٍ ناعمة، فتظاهرَ الدّوق الأكبر بالتجاهل.
“هل أحملُ السّيف أثناءَ الرقص؟”
أومأت أوليفيا، فأخذَ الدّوق الأكبر السّيف. جاء أحد فرسانه و أخذه. سُمع أنين خافت، لكن الدّوق الأكبر انحنى للإمبراطور.
“أشكر جلالتكَ على نعمتك. بما أنّني قدّمت قسمي للسيّدة، هل يمكنني بدء الرقصة الأولى؟”
“…بالطّبع. في هذا الاحتفال، واصلوا الحفل.”
أومأَ الإمبراطور بشفتينِ متشدّدتين.
بدأتْ الفرقة الموسيقيّة العزف. ملأت الأنغام الأنيقة القاعة مجدّدًا.
ضحكَ الإمبراطور بصعوبة، ممسكًا رأسه النابض لاحقًا.
بدأ النّبلاء بالهمهمة. ستنتشرُ هذه الضجّة بين النبلاء غير المدعوّين، ثمّ إلى العامّة تدريجيًا.
الدّوق الأكبر قدّم قسم الفارس لخطيبة وليّ العَهْد بدلاً من الأميرة .
غابت الأميرة و الإمبراطورة، وجه الأميرة محمرّ بالخزي. نظرَ الإمبراطور إلى الدّوق الأكبر بغضبٍٍ مكبوت.
كانَ ذلكَ الكلب الذي ينظرُ إليه دائمًا بوجه خالٍ من التّعبير يبتسم بجانبِ خطيبة وليّ العَهْد.
ذلكَ الذي كانَ كلسانه.
يجرؤ.
يجرؤ دونَ أن يعرف مكانته.
رفعَ الإمبراطور شفتيه بصعوبة.
مهما تحدّى العائلة الإمبراطوريّة، فإنّ منجم الكريستال الأبيض لا يزال بيده.
كان ذلكَ الرّجل يقاتل في الحروب من أجل ذلكَ المنجم، إرث الدّوقة الكبرى السّابقة.
فكّر الإمبراطور في طريقة لتقييده. لم يكن مستعدًا للتخلّي عنه بعد.
“…حانَ وقت التّفكير في زواجِ الأميرة.”
انحنى رئيس الخدم المخضرم لهذا الهمس الغاضب.
* * *
في وسطِ القاعة، أخرجت أوليفيا نفسًا خفيفًا. مرّ التّوتر على وجهها الخالي من التعبير.
“لماذا ترتجفين هكذا؟ أنتِ أكثر ارتعاشًا من عندما تلقّيتِ قسمي.”
“هل هناكَ ما هو أكثر إثارة من الرّقصة الأولى؟”
“الرقصة الأولى؟”
كرّرَ الدّوق الأكبر بدهشة. ابتسمتْ أوليفيا خفية. كان محرجًا أن يكونَ ثاني شخصٍ يعرف هذا بعد إيسِيلا.
نظرَ الدّوق الأكبر بعيدًا وقال فجأةً:
“…إنّها رقصتي الأولى أيضًا اليوم.”
“هذه مشكلةٌ كبيرة.”
لم تلحظْ احمرار أذنيه تحت شعره الأسود، وأضافت بجديّة:
“لكن لا تقلق. لقد تدرّبتُ كثيرًا، لذا لن أدوس على قدميكَ.”
“حسنًا، مع كعب حذائكِ، لا بأس حتّى لو دُستِ قدمي.”
“…ماذا؟”
رفعت أوليفيا رأسها وهي تعدّ الإيقاعات.
“إذا أصبحتْ قدمي في حالةٍ يرثى لها، ستتحمّلين المسؤوليّة، أليس كذلك؟”
تعمّقت ابتسامة الدّوق الأكبر. بينما حاولت أوليفيا فهم نواياه، بدأت الموسيقى.
قادها الدّوق الأكبر بيدها بسلاسة. نسيت أوليفيا عدّ الإيقاعات و بدأت الرّقص.
كان قيادته رائعة، لا يُصدّق أنّها رقصته الأولى. كان يتأكّد من إيقاعها بنظراته بين الحينِ والآخر.
“…قلتَ إنّها رقصتك الأولى.”
تحدّثت أوليفيا فجأةً وأدركت خطأها. كان مضحكًا أن تشتكي من مهارته.
ماذا أقول؟
بحثتْ عن كلمات أخرى. ضيّقَ الدّوق الأكبر عينيه وردّ بمرح:
“ألم أقل إنّني بارعٌ في كلّ ما يتعلّق بالجسد؟”
هذا صحيح، لكن…
وافقت أوليفيا لكنها شعرتْ بضيقٍ خفيف. لم تتوقّع أن يقودها بمهارةٍ في رقصته الأولى بينما كانت هي تتعثّر.
“…لم أكن أعلم أنّك ترقص بهذا الإتقان.”
“حسنًا، أنا أيضًا أشعر ببعضِ الأسف.”
“ماذا؟”
“كنتُ أتمنّى لو داسني كعبكِ. لقد قُدتُ الرّقصة بشكلٍ جيّدًا جدًا، أليس كذلك؟”
فقدت أوليفيا قدرتها على الكلام للحظة.
تحدّثَ الدّوق الأكبر بجديّة، وتنهّدَ كأنّه نادم حقًا.
كان وقحًا بشكلٍ لا يُصدّق. استرخى وجه أوليفيا وضحكت بخفّة.
هل هذا هو الدّوق الأكبر فيكاندر، الملقّب بالسفّاح؟
مرحٌ بهذه الطّريقة و…
“آه!”
صرختْ أوليفيا برفق عندما رفعها الدّوق الأكبر فجأةً ودار بها. هبطت بخفّة، واتّسعت عيناها كالأرنب.
بينما فكّرت أنّ عينيه الحمراوين أصبحتا أعمق، اقتربَ الدّوق الأكبر وهمس في أذنها:
“ما الذي تفكّرين فيه؟”
ابتعدَ مبتسمًا ببراءة. حاولتْ أوليفيا تجاهل احمرار أذنيها وابتسمت بثقة:
“أفكّر في تلقّي هديّة ثمينة جدًا.”
“يشرفني أن تعرفي قيمتي. هذا مجزٍ كـمَن قدّمَ الهديّة.”
رفعَ الدّوق الأكبر ذقنه بغرور واضح. أرادت أوليفيا مضايقته، فغيّرت الموضوع:
“كنتُ أقصد السّيف، إيرالوتن.”
“واو، أنتِ تضعينني في موقفٍ محرج.”
“أنا مَن رُفعت؟”
تزامنًا، أمسكَ الدّوق الأكبر خصرها و رفعها.
لم تكنْ تعلم أنّ الشعور بالطفو ممتعٌ هكذا. الرّقص على إيقاع الوالس كان منعشًا.
أغمضت أوليفيا عينيها بلطفٍ وشعرها يرفرف.
ابتسمَ الدّوق الأكبر وهو يرى تعبيراتها.
“…تجيدين إلقاء النكّات جيّدًا.”
“أنا؟”
اتّسعتْ عينا أوليفيا وهي تمسكُ بيده.
“هذه المرّة الأولى التي أسمعُ فيها هذا.”
من بين كلّ الصّفات التي تُوصف بها أوليفيا، لم يكن المزاح موجودًا. ربّما الجديّة أو الملل، لكن…
“إذن، ماذا عن ‘ذكيّة’؟”
“ولا مرّة.”
“يا للأسف. النّاس من حولكِ بالتأكيد يعانون من العمى.”
ضحكت أوليفيا بصوتٍ عالٍ على وجهِ الدّوق الأكبر الجادّ.
كان أمرًا غريبًا. هل لأنّها تضحك في حفلٍ لأوّل مرّة؟ أم بسببِ هذا الرّجل الذي يجعلها تضحكُ مهما قال؟
رأت وجوه النّبلاء يتجسّسون خلفَ الدّوق الأكبر المبتسم. شعرتْ أوليفيا ببرودةٍ في قلبها.
أدركت أخيرًا حجمَ القسم الذي تلقّته.
الآن، سيرتبط شرفها بشرفِ الدّوق الأكبر. سيُذكر الدّوق الأكبر دائمًا مع اسمها الذي يُعرّض للانتقاد.
كانتْ تحافظ على مسافةٍ مع إيسِيلا لتجنّبِ ذلك. خافت فجأةً أن يتُسبّب ضررًا لشخصٍ لطيف معها.
نظرَ الدّوق الأكبر إلى أوليفيا التي تلاشت ضحكتها، فقالت بهمس:
“…يمكنكَ التراجع.”
“عن ماذا؟”
“تراجع…..عن القسم…”
تردّدت أوليفيا.
كانَ الحلّ الأفضل أن يتراجعَ الدّوق الأكبر عن القسم بالتفكير مجدّدًا في زيّها.
لكنّها تردّدت بشكلٍ غريب.
إذا تراجع، سينتهي هذا اللّقاء الودود. سينتهي هذا الارتباط القصير.
عندما لم تفتح شفتيها بسهولة، قال الدّوق الأكبر:
“لأكونَ صادقًا، لم أخطّط لتقديم القسم لكِ من البداية. كانت لديَّ خطّـةٌ أخرى.”
ابتلعتْ أوليفيا ريقها. كانَ عليها أن تبقى هادئة مهما قال. لمعتْ عيناه بمرح.
“لكن عندما كنتُ سأقدّمُ السّيف فقط، فكّرت فجأة: لقد وعدتُ بتقديم أثمن شيء، لكن هذا السيف مجرّد سيفٍ ثمين، وليسَ الأثمن. فماذا أفعل؟”
تسارعتْ أنغام الأغنية نحو النهاية.
ماذا يعني؟
لم يكنْ لدى أوليفيا وقتٌ للتّساؤل. وصلت الموسيقى إلى ذروتها.
دارت أوليفيا وهي تمسكُ يده.
تفتّح فستانها الأحمر كزهرةٍ وانطوى. تلألأ شعرها الفضيّ تحتَ ضوء الثريّات، ملفتًا الأنظار.
انتهت الرّقصة. أمسكت أوليفيا طرف فستانها، وضعتْ يدها على صدرها، وانحنت للدّوق الأكبر.
قادَ الدّوق الأكبر يدها بلطفٍ وهو ينحني.
ثمّ وضعَ شفتيه على قفازها برفق. لم يلمسها، لكن هذه التحيّة الجريئة جعلتْ الجميع يصمتون.
همسَ الدّوق الأكبر لأوليفيا ثمّ غادر.
نظرت أوليفيا إلى ظهره مذهولة، ثمّ اتّسعت عيناها ونظرت إليه مجدّدًا.
كلماته تردّدت في أذنيها:
“فماذا أفعل؟ يجب أن أكون أنا، الأثمن، هديّتكِ.”
* * *
تلاشى الضحك من وجهِ الدّوق الأكبر الذي كان يبتسم كوردةٍ الربيع. عندما أصبح وجهه الجميل خاليًا من التعبير، شعر أنّ درجة الحرارة تنخفض.
مدّ البارون هوارد إنترفيلد، الفارس الذي تبعه، السّيف إليه. تصاعدت هالةٌ باردة من السّيف.
“سموّك، ها هو.”
لكن الدّوق الأكبر، أحد الاثنين الوحيدين القادرين على تهدئة هذا السّيف، لم يهتم به ونظرَ إلى وسط القاعة، متمتمًا:
“لماذا للوالس وقتٌ محدّد؟”
جرى وينستر كالتر، ذو الشعر البنيّ، وقال بهمس:
“لأنّه يجبُ تغيير الشّريك. بالمناسبة، لماذا فعلتَ ذلك؟ ألم تقلْ إنّك ستنحني مرّة أخيرة من أجل المنجم؟”
“لماذا يجبُ تغيير الشريك؟”
“ماذا؟ و المنجم؟ سموّك!”
تجاهلَ الدّوق الأكبر كلام وينستر المذعور، محدّقًا في وسطِ القاعة.
تقدّمَ وليّ العَهْد نحو أوليفيا بخطى واثقة. لفتَ زيّه المطابق لفستانها عينيّ الدّوق الأكبر، فتعمّقت نظرته.
تصاعدت نيّـة القتل من السّيف.
تراجعَ وينستر متفاجئًا، لكن عينيّ الدّوق الأكبر كانتا متّجهتين إلى شخصٍ واحد.
“هل هذا ممكن…”
أومأ هوارد برفقٍ عندما تمتم وينستر. لقد فشلت الخطة السّهلة لاستهدافِ الأميرة التي تملك منجم الكريستال الأبيض.
لكن سموّه بالتّأكيد وضعَ خطّةً أخرى. انتزاع النصر في أيّ موقفٍ هو ما يفعله الدّوق الأكبر دائمًا.
* * *
تغيّرت الموسيقى. وقفت أوليفيا في وسطِ القاعة، ظهرها مستقيمًا. كانت دائمًا قربَ الجدران في الحفلات، لكن ليس اليوم.
“يبدو أنّكِ استمتعتِ، أليس كذلك؟”
مدّ ليوبولد يده إلى أوليفيا بثقة.
“…نعم، صاحب السّمو.”
وضعتْ أوليفيا يدها على يده، ونظرت إليه وسألت:
“وهل استمتعتَ أنتَ أيضًا، سموّك؟”
التعليقات لهذا الفصل " 12"