✧عندما يقدّمُ الدّوق الأكبر قسمَ الفارس ✧
ـــــــــــــــــــــــــــ
لا يُعقل.
بينما تفتحت شفتا أوليفيا قليلاً، رفع الإمبراطور ذراعيه نحو الفرسان.
الرّجل الذي تعرفه أوليفيا تقدّمَ كممثل للفرسان، بأدبٍ أمام الإمبراطور.
“تحيّة لشمس الإمبراطوريّة. إدوين لويل فيكاندر. أحيّي جلالة الإمبراطور.”
“أخيرًا وصلَ فرساني الفخورين. هذا الحفل لكم، فكيف تأخّرتم هكذا؟”
ردّ الدّوق الأكبر بهدوءٍ على كلام الإمبراطور اللاذع:
“أعتذر، جلالتك. لم يكن بإمكاننا استخدام سيف عاديّ لقسمُ يرعاه جلالتك، لذا أحضرتُ إيرالوتن، كنز عائلة فيكاندر.”
أشارَ الدّوق الأكبر إلى غمد سيفه. تردّد صوته الرائع في القاعة، ففقدَ النّاس القدرة على الكلام للحظة قبل أن يثيروا ضجّة.
“هل هذا هو السيف؟ الكنز المتوارث من مملكة لويل المنهارة؟”
“ألم يكن جلالته يطمع بهذا السّيف؟ قيل إنّه لم يعطه حتى مقابل منجم الكريستال الأبيض!”
“لكن، أيّ قسم يرعاه جلالته؟ أليس هذا حفل نصر الحرب؟”
ارتفعت أصواتٌ مليئة بالتساؤلات. ضحكَ الإمبراطور بصوت عالٍ، وشفتاه مرتفعتان.
“هاها، بالطبع. الفارس يحتاجُ إلى سيّدة يقدّم لها شرفه. يسرّني أنّ دوقنا الأكب في سيلتقي اليوم بسيّدة مناسبة، لذا سأحقّق له أمنية واحدة.”
أمنية من الإمبراطور!
أثارت القاعة ضجّة، لكن الدّوق الأكبر بقي هادئ الوجه.
أشارَ الإمبراطور بعينيه نحو الأميرة.
في تلكَ اللّحظة، فهم الجميع. كان الهدف من هذا الحفل إخضاع الدّوق الأكبر للعائلة الإمبراطوريّة.
ضحكَ الإمبراطور بصخب.
“أليس هذا خبرًا سارًا؟ دوقنا الاكبر، حامي إمبراطوريّة فرانتز، سيقدّم قسم الفارس لسيّدة أخيرًا. هيّا، أيّها الدّوق الأكبر، قدّم قسمك.”
كانت الأميرة، بفستانها الأبيض، تحملُ باقة زهور كبيرة. في لحظة استدارتها، التي كانت دائمًا تتلقّى شرف الفرسان في مراسم التكريم، استدار الدّوق الأكبر.
نظرَ حوله كأنّه يبحث عن أحدهم. عندما التقت عيناه بعيني أوليفيا، انحنت عيناه بابتسامة.
تراجعت أوليفيا خطوة، لكن الدّوق الأكبر كانَ أسرع.
انفرجت حشود النّبلاء أمامه، وفي نهاية الطريق كانت أوليفيا.
“الأميرة أوليفيا مادلين.”
نادى اسمها بصوتٍ ساحر. ركع الدّوق الأكبر على ركبةٍ واحدة أمامها بحركةٍ أنيقة.
“يشرفني أن أعرّف بنفسي. إدوين لويل فيكاندر.”
تلاشى وجهه الجامد الذي كانَ يواجه به الإمبراطور، وعيناه الياقوتيّتان أخذتا تلمعان بمرح. ارتفعت زاوية شفتيه، و سُمع صوت شهقةٍ من مكان ما.
كانَ هناك مَـن فهمَ معنى هذا التعريف غير الضروريّ.
“سيف مصنوع من الجواهر، السّيف الأثمن الوحيد في القارّة.”
كانا الوحيدين، أوليفيا و الدّوق الأكبر، اللذين يفهمان معنى هذا التبجّح.
“أرجوكِ، هل تمنحينني شرفَ أن أكونَ سيفكِ؟”
صمتتْ القاعة كأنّ ماءً باردًا سُكب عليها. نظرت أوليفيا إلى الدّوق الأكبر.
وجهه الجميل المذهل وعيناه الياقوتيّتان المليئتان بالدّفء كانتا تنظران إليها.
كانَ الأمر غريبًا.
في لوهايرن ، في طريقها إلى قصرِ وليّ العَهْد يوم الإثنين، وحتى عندما اقترب منها للتو، كان عليها أن ترفع رأسها لتنظرَ إليه.
رجلٌ نبيل بمكانة عالية، يحمل شرفًا عظيمًا، طويل القامة، ركعَ أمامها كأنّه أمر طبيعيّ، مقدمًا مقبض سيف ثمين.
كان المشهد غير واقعيّ.
كانتْ أوليفيا على وشكِ فتح شفتيها الحمراوين ببطء.
“للأسف، يجب سحب القسم، أيّها الدّوق الأكبر.”
كان ليوبولد.
أمسكَ كتفي أوليفيا. عند إعلانه امتلاكه لها، لمعت عينا الدّوق الأكبر.
“هل تقاطع قسمي للأميرة مادلين الآن؟”
تردّدَ صوته المنخفض في القاعة، باردًا كالجليد، موجّهًا تهديدًا لليوبولد.
“حتّى رغم كونهِ القسم الذي أجازه جلالة الإمبراطور؟”
ارتفعت زاوية فم الدّوق الأكبر بسخرية.
رغم أنّه كانَ ينظر إلى الأعلى، بدت عيناه كأنّهما تضربان ليوبولد من الأعلى.
أحسّ ليوبولد بالضّغط من عينيه، فزاد من قوّة قبضته على كتف أوليفيا. شعرت أوليفيا بألم، فنظرت إلى ليوبولد دونَ وعي، لكنّه لم يهتم بها.
“…يجب أن نسمع سببَ تدخّلِ وليّ العَهْد.”
تدخّل الإمبراطور لتهدئة التوتر. انحنى ليوبولد للإمبراطور، ثمّ ابتسم بلطفٍ لأوليفيا.
لكن أوليفيا شعرت بالاستياء من ليوبولد الذي نظرَ إليها أخيرًا. تمنّت لو خفّف ألم كتفها، لكنّه أمسكها بقوّّةٍ أكبر، متظاهرًا بالحميميّة.
كانت المرّة الأولى التي يقف فيها ليوبولد إلى جانبها.
لكن، بشكلٍ غريب، شعرت أنّه أبعد من أيِّ وقتٍ مضى.
“الأميرة خطيبتي الآن. ألم يخطر ببالك أنّ قسم دوقٍ أكبر أعزب قد يسبّب فضيحة لخطيبتي؟”
تسبّبت نبرة ليوبولد القاسية في همهمات النبلاء.
“لا يبدو ذلكَ لائقًا. أن تكون العروس المستقبليّة الأكثر وقارًا…”
“ألم تكن الفضائح التي تُثيرها الأميرة قليلة؟”
“بالضبط. إنّها تحتفظ بخطوبتها بفضلِ رحمة جلالة الإمبراطورة.”
فجأةً، توقّفت أصوات النبلاء. طعنتهم نظرة حادّة. عندما شعروا بنظرة باردة تنظر إليهم من الأعلى…
“تجرّأوا…”
كلمة منخفضة سيطرتْ على الجوّ. لمعت عينا الدّوق الأكبر الحمراوين.
“كيف يمكن أن تلتصقَ فضيحة بالأميرة التي أقدّم لها قسمي؟”
تلعثم أحدُ النبلاء. ابتسمَ الدّوق الأكبر لأوليفيا وقال:
“هل يحلّ هذا الأمر؟”
“إذا تمَّ القسم، يجب أن تكونَ الرّقصة الأولى مع الأميرة، ألا تعتقد أنّ ذلك إهانةٌ لي كمرافقها؟”
تصلّبَ جسد أوليفيا بصوتِ ليوبولد الجافّ.
كان ليوبولد أقربَ ليكون مرافق ماريا إيتيل أكثر منها.
خوفًا من ذكر معاملتها كخطيبة، سقطت عيناها إلى الأرض.
“آه، ظننتُ…”
رفعت أوليفيا رأسها لصوت الدّوق الأكبر المعبّر عن الأسف.
“ظننتُ أنّ الأميرة جاءت وحيدةً من أجلي.”
انحنت عينا الدّوق الأكبر بمرحٍ للحظة، ثمّ تحدّث إلى ليوبولد بهدوء:
“يبدو أنّني أخطأتُ. ظننتُ أنّ سموّ وليّ العَهْد كان برفقةِ أخرى.”
“الدّوق الأكبر.”
حذّره ليوبولد، لكن الدّوق الأكبر لم ينظر إليه.
“سموّ وليّ العَهْد الكريم لن يمانع بسببِ رقصة أولى، أليس كذلك؟”
صرّ ليوبولد على أسنانه. أضاف الدّوق الأكبر، وهو ينظر إلى أوليفيا:
“…إلّا إذا كنتُ قد تقدّمتُ بطلب زواج من الأميرة.”
ماذا؟ اتّسعت عينا أوليفيا. ما الذي يقوله الدّوق الأكبر؟
“الدّوق الأكبر!”
صاحَ ليوبولد بحدّة. لكن الدّوق الأكبر واجهه كأنّه لا يرى مشكلة.
“أخي، لماذا لا تتحدّث عن الزيّ غير اللائق؟”
تدخّلَ صوتٌ ناعم في الجوّ المتوتّر. كانت الأميرة.
نظرت إلى أوليفيا بنظرةٍ غاضبة، ثمّ ابتسمت بسرعة وتقدّمت.
“يجب أن ترتدي السيّدة التي تتلقّى القسم زيًّا أبيض يرمز إلى نقاءِ الفارس. كما يجبُ أن تقدّمَ زهرة كعلامةٍ على الموافقة و السّعادة.”
أمالت الأميرة رأسها وهي تنظر إلى أوليفيا، عيناها الزرقاوان الشبيهتان بليوبولد مليئتان بالعداء.
“يبدو أنّ الأميرة غير مستعدّة اليوم أيضًا.”
“صحيح! في مراسم تكريم الفرسان، ترتدي كلّ السيّدات الأبيض!”
“كيف لم نفكّر في هذا؟ لا يمكن أن يكونوا يحاولون كسر تقاليد موروثة!”
اختلطت السّخرية بأصواتِ النبلاء العالية. نظرت أوليفيا إلى مصدر الضّحك.
ابنة الكونت شامين، و ابنة البارون ستارين، و ابنة الماركيز ليبيورن، صديقات الأميرة.
“ربّما لأنّها لم تتلقَ قسمًا قطّ، لا تعرف عن أمر الزيّ. لكن، هل هذا خطؤها؟”
تلاشت كلمات الإهانة بين الضّحكات. كانت الكلمات مؤلمةً كطعنةٍ في القلب.
كالعادة، لم يقل والدها و كونراد، اللذان كانا بعيدين، شيئًا.
“بالضبط، أيّها الدّوق الأكبر. ماذا ستفعل؟ خطيبتي غير مستعدّة.”
انضمّ ليوبولد إلى كلامِ الأميرة.
لكن، بشكلٍ غريب، كانت عينا الدّوق الأكبر الحمراوان القلقتان عليها أكثر ما يشغلها.
كانت نظرته باردة عندما نظرَ إلى مصدر الكلام، لكن دافئة معها رغم لقاءاتهما القليلة.
كانَ أمرًا مضحكًا. نظرةٌ واحدة فقط، ومع ذلك جعلتها تشعر بالدغدغة. تحدّثت أوليفيا ببطء:
“أوّل ذِكرٍ لقسم الفارس في كتب التاريخ كان في عهد ليام فرانتز، الإمبراطور الأوّل، و أوليكا فرانتز، الإمبراطورة الأولى.”
تحدّثت أوليفيا بأناقةٍ و هدوء وسط هذا الموقف. سكت النّبلاء دونَ وعي تحتَ تأثير هالتها.
لماذا تَذكر كتب التاريخ هنا؟ تغيّرت نظرات بعض النبلاء.
“الإمبراطور الأوّل، الذي قادَ حرب أسفالتيرون إلى النصر و حدّد حدود الإمبراطوريّة، عانق الإمبراطورة الأولى بدروعه الملطّخة بالدماء.”
أزاحت أوليفيا كتفيها بلطف. حاولَ ليوبولد حبسها، لكنها أزاحت يده بحذر بقفازاتها.
“كُتب أنّ الفستانَ الأبيض للإمبراطورة، التي كانت تصلّي لعودةِ الإمبراطور سالمًا، تلطّخ بالدماء.”
تقدّمت أوليفيا نحو الدّوق الأكبر، محدّقة في عينيه، و ابتسمتْ بلطف.
“قدّمت الإمبراطورة زهرةً إلى الإمبراطور، و قفازاتها البيضاء النقيّة سليمة.”
رأى الجميع قفازات أوليفيا البيضاء تلمع تحت ضوء الثريّات.
كانت الآنسات محقّات. حتى سنّ العشرين، لم يقدّم لها أيّ فارسٍ قسمًا.
في كلّ مراسم تكريم، كانت ترتدي الأبيض، لكنها بقيت كزهرةِ على الحائط.
لم تكن تريد حضور الحفلات، لكن كان عليها لأنّها خطيبة وليّ العَهْد و ابنة دوق.
لم تتلقَ قسمًا، لكن لا يمكنُ أن يتمَّ إتّهامها بجهل الآداب. آدابها كانت دائمًا مثاليّة، وستظلّ كذلك.
لأنّ ذلكَ أفضل ما يمكن أن تفعله كمادلين.
“إذا اتّبعنا آداب الكتب القديمة، فلا يوجد تجسيد أكثر كمالاً من زيّي الحالي.”
رفعت أوليفيا طرف فستانها. قفازاتها البيضاء تلمع، و فستانها الأحمر الدّاكن يحلُّ محلّ الفستان الأبيض الملطّخ بالدّماء للإمبراطورة الأولى.
“شكرًا، سموّ وليّ العَهْد و سموّ الأميرة.”
على عكسِ نظرة ليوبولد الباردة، احمرّ وجه رينا.
“بفضلِ توضيحكما الدّقيق، يمكنني قبول القسم دونَ ضجيج.”
كان نصفُ كلامها زائفًا و نصفه صادقًا. فقد زال الجدل.
“لكن الزهرة!”
صرخت ابنة الماركيز ليبيورن نيابة عن الأميرة.
“لا يمكنني تقديم زهرة تذبل لنقاء سموّ الدّوق الأكبر، لذا أقدّم هذه الجوهرة بدلاً من قلبي.”
أزالت أوليفيا دبّوس الشّعر المرصّع بالجواهر. تساقط شعرها الفضيّ بلطف.
دبّوس الشّعر الأرجواني و الأخضر، هديّة إيسِيلا لهذا الحفل، لم تتوقّع أن يُستخدم هكذا. لكن يمكنها طلب استبداله بجوهرةٍ أخرى لاحقًا. شعرت أنّ الدّوق الأكبر سيوافقُ على طلبها.
وضعت أوليفيا الدّبوس في يد الدّوق الأكبر، و هي تحدّق في عينيه.
“أوليفيا مادلين.”
أمسكتْ أوليفيا بمقبض السيف في يده. بدلاً من البرودة المتوقّعة، انتشرَ دفء غريب في جسدها.
“أقبلُ شرف سموّك بسعادة. أتمنّى أن يكون فرحي جزءًا من شرفكَ.”
عانقت السّيف و انحنت للدّوق الأكبر. دوّت تصفيقات عالية من مكان ما. نهضَ الدّوق الأكبر مبتسمًا.
في تلكَ اللحظة:
“عذرًا، يا أميرة.”
سقطَ الدّوق نحوها كأنّه يعانق كتفيها. قبل أن تشعر بالدفء، ابتسمَ بلطفٍ و ابتعد. سُمع صوت ذهول، لكن أوليفيا لم تهتم.
“ركعتُ طويلاً، فتخدّرت ساقي.”
هزّ الدّوق الأكبر كتفيه كأنّه لا خيار آخر.
“سمعتُ أنّك فارس رائع. يبدو أنّ ساقيك أضعف ممّا توقّعت.”
“بالفعل. لكن، يا آنسة، أنتِ تنقذينني دائمًا.”
“أنقذتني من السّقوط، و من سارقي الطرق، لذا أنقذيني مرّة أخرى الآن . هل تمنحينني شرف الرّقصة الأولى معكِ؟”
مدّ الدّوق الأكبر يده إليها.
“كيف ترقصُ وأنتَ تقول إنّ ساقيك تخدّرتا؟”
“تحسّنت بسرعة.”
تحدّث الدّوق الأكبر بوقاحة. نظرت أوليفيا بحيرة وقالت له بهدوء:
“…أحذّرك، لستُ جيّدة في الرقص.”
“لا بأس بذلك.”
ابتسمَ الدّوق الأكبر.
“أنا بارع في كلّ ما يتعلّق بالجسد، لذا يمكنني مساعدتكِ هذه المرّة.”
أمسكت أوليفيا يده ببطء. بين التوتر و الراحة، تدخّلَ صوت رائع:
“مبارك، يا أوليفيا. خطيبتي حصلتْ أخيرًا على شرف أفضلِ فارسٍ في الإمبراطوريّة.”
كان ليوبولد.
نظرَ إليه الدّوق الأكبر بعينين متوهّجتين، كأنَّ الأمر لم ينتهي بعد.
التعليقات لهذا الفصل " 11"