2 - الفصل الثاني
في كل مرة يحدث فيها ذلك، كان الأمير يهرع ليلقي القبض عليها، متظاهراً بأنه مصاب بالارتباك والضيق، بينما لم تكن جوارحه تستطيع إخفاء بهجته العارمة بتصرفات محبوبته التي لا تبتغي منها سوى لفت انتباهه.
وعلى الرغم من أن يوجين الغارقة في تفكيرها داخل الغرفة لم تدرك الأمر، إلا أن ‘حدث الهوس والسجن’ الذي كانت تجاهد لافتعاله في اللعبة، قد استحال منذ زمن بعيد إلى مجرد لعبة ‘امسكني إن استطعت’ بين عاشقين يفيضان دلالاً يزكم الأنوف.
“آه…”
‘لو كان يحبّها، ألا يمكنه التعبير عن مشاعره بكلمات عادية؟’، هكذا زفر خادم القصر بعمق، وهو الذي سُخّر اليوم أيضاً بلا فائدة في شؤون الهوى لعلية القوم، ثم ابتعد عن الغرفة بخطىً مثقلة بالضجر.
* * *
في تلك الغرفة التي غدت دافئة بفضل تضحيات أكوام الحطب، ارتفعت الحرارة حتى كادت تخنق الأنفاس، مما دفع يوجين للخروج من مخبئها تحت الدثار بحثاً عن نسمة هواء باردة.
تجاهلت تماماً نظرات سيدها التي لم تنفك تلاحقها، وجمعت الوسائد حولها لتصنع متكأً مريحاً، ثم تمددت فوقه.
على أي حال، حين شعرت بالراحة والسكينة لإتمامها الحدث المنشود بسلام هذه المرة أيضاً، التقط الأمير ذلك التغير في مزاجها ببراعة، فاقترب منها وتسلل ليتكئ بجانبها.
شعرت يوجين بثقله عليها، فدفعته بحنق وهي تزمجر.
“أوووه!”
تظاهر الأمير بأنه لم يرَ تلك النظرة التي تقول بوضوح ‘ابتعد عني’، وأخذ ببطء يد يوجين التي كانت منذ قليل متجمدة من الصد.
“يدك ثقيلة.”
كان من المثير للغيظ أنه فهم مرادها تماماً، ومع ذلك لم يرد، بل اكتفى بابتسامة رقيقة بعينيه، وحين حاولت يوجين تجاهله تماماً وأدارت وجهها عنه، رفع يدها التي يمسكها إلى فمه، وبدأ يقبّل أصابعها واحداً تلو الآخر بخفة حتى تلتفت إليه.
نظرت يوجين إليه وهو يقبّل أصابعها وكأنه يداعب أقدام جرو صغير، وفكرت في سرها.
‘لكنني لستُ جرواً حقاً…’
حتى لو قبلها هكذا، فليست يديها وردية ناعمة، ولا تفوح منها رائحة جراء صغيرة.
“هُمف!”
نفضت يوجين يدها من قبضته بحدة وقد تملكها الغيظ، وحين سُلبت منه الأصابع التي كان يداعبها، ارتدت على وجهه ملامح الخيبة والحزن.
‘ألم تكن صاحب مظهر مهيب؟!’
رغم أن وسامته جعلت لتلك الملامح أثراً تدميرياً، إلا أنها بالنسبة ليوجين التي تذكر الأمير في القصة الأصلية، كانت تعبيرات تخبرها ان شخصيته قد انهارت تمامًا.
قالت يوجين وهي تحاول دفع الأمير الملتصق بها بكل قوتها.
“الجو حار، فابتعد عني… سيدي.”
رغم أنها كانت تدفعه بكل ما أوتيت من عزم، إلا أن جسده لم يتزحزح قيد أنملة، وكأن محاولاتها لم تكن سوى مداعبة خفيفة، وبينما كانت ترشق صدره الصامد بنظرات غاضبة…
“أعتقد ان ذلك ليس اسمي.”
فجأة، وبحركة لم تتوقعها، نهض الأمير الذي كان ساكناً، وانحنى فوق يوجين المستلقية على الوسائد، ليحاصرها بين ذراعيه.
ابتسم لها بابتسامة عميقة وهو يتطلع إليها، ثم مرر إصبعه برقة فوق شفتيها التي نطقت للتو بالجواب الخاطئ.
“ألم أخبركِ به سابقًا؟”
ثم بدأ يميل بوجهه نحوها شيئاً فشيئاً، ذُعرت يوجين من اقتراب وجهه الذي أصبح قريباً بشكل مربك.
‘تباً، فوق وسامته التي لا تُحتمل، يقترب بهذه التعبيرات التي تذيب الصخر…!’
دفعت يوجين وجهه الذي كاد يلامس وجهها، وأجابت بنبرة مرتبكة.
“… مايكل!”
دون أن يظهر عليه أي أثر للخيبة من صدها له، أمسك باليد التي تدفع وجهه وطفق يطبع قبلات متتالية على راحة كفها وهو يثني عليها.
“أحسنتِ.”
ثم نطق اسمها بصوت يقطر حلاوة.
“يوجين… محبوبتي الرقيقة.”
يا إلهي، حقاً!
‘مَن تكون أنت؟!’
أين ذهب ذلك الإمبراطور الطاغية والسفاك الذي ورد في القصة الأصلية؟
بدأت يوجين تسترجع شريط الأحداث، لترى كيف آل بها المآل إلى هذا الوضع.
* * *
{الفصل الأول: سأصبح تلك البطلة.}
“أنتِ!”
دوى صوت رئيس القسم الغاضب في أرجاء المكتب الذي ساد فيه صمت كصمت القبور.
“أهكذا تنجزين العمل؟، ها؟، إن كان هذا مستواكِ، فارحلي فوراً!”
توالت بعدها وابل من الشتائم المقذعة.
لم تكن حنجرة رئيس القسم التي انفجرت غضباً تظهر أي بادرة للهدوء، وبينما كان الجميع يحبسون أنفاسهم ويراقبون الموقف بحذر، كانت يوجين – التي تتلقى كل تلك الإهانات – تجاهد لرفع كتفيها اللذين كانا يتهاويان انكساراً.
“…”
شددت قبضتها على يدها، فشعرت بأظافرها غير الحادة تنغرس في لحمها.
وبينما كانت تستعيد وعيها من خلال ذلك الألم الواخز، صمدت بصمت أمام صراخ رئيسها الذي استمر طويلاً.
“سيد شين.”
لم يتوقف سيل الشتائم الذي خُيل إليها أنه لن ينتهي إلا حين خرج مدير الإدارة من مكتب المسؤولين ونادى عليه باسمه.
“نعم!، أيها المدير.”
“لا تتأخر هذه المرة.”
“آه، نعم.. نعم، سأجهز حالاً وأدخل الاجتماع.”
رئيس القسم الذي تأخر سابقاً عن اجتماع تقرير المسؤولين، احمرَّ وجهه على الفور وظل ينحني مراراً وتكراراً.
بمجرد أن تجاوزه المدير وخرج من المكتب، نسي رئيس القسم تنكيله بموظفته قبل لحظات، وهرع يبحث عن الأوراق فوق مكتبه ثم تبع المدير مسرعاً.
أخيراً انكسر الجليد الذي خيم على المكتب، وبدأ الموظفون الذين كانوا يجلسون برؤوس مطأطئة خلف الفواصل المكتبية بالنهوض والحركة.
“يا للهول، الأجواء كانت مشحونة للغاية.”
“كدتُ أموت من شدة التوتر.”
ثم اقترب الموظفون من يوجين التي كانت تقف وحيدة أمام مكتب رئيس القسم.
“يوجين، هل أنتِ بخير؟”
“آه، سيدة كيم.”
لم تكن من نفس فريقها، لكنها كانت المساعدة التي تلتقي بها أحياناً في غرفة الاستراحة، ولأنها كانت من الزميلات القلائل، كانت تسألها دوماً إن كانت تواجه صعوبات وتعتني بصغائر الأمور.
لم تكن يوجين قد أفاقت بعد من صدمة سماع الشتائم المقذعة وجهاً لوجه، لكنها حاولت بصعوبة أن ترسم ابتسامة على ثغرها لتقول إنها بخير، إلا أن شخصاً ما اقتحم الحوار فجأة.
“أنتِ!، سونغ يوجين!”
“… سيدي المشرف؟”
“أين كان عقلكِ؟، ألا تدركين أنكِ حين تفعلين هذا، تجلبين المذمة لي أنا أيضاً، وأنا المسؤول عن تدريبكِ؟!”
ارتفع صوت المشرف الذي لم يظهر له أثر حين كان رئيس القسم يصب جام غضبه، وكان هو نفسه من ألقى بالمسؤولية على عاتق مرؤوسته واختفى وقت الشدة، والآن جاء بكل خيلاء ليصرخ في وجهها متسائلاً إن كانت تحاول النكاية به.
“هذا لا ينفع، اتبعييني!”
ثم استدعى يوجين إلى غرفة الاجتماعات الصغيرة، مدعياً أنه بحاجة لإجراء مقابلة معها وكأنه مسؤول في الموارد البشرية.
* * *
“عفواً؟”
لم تستطع يوجين إخفاء ذهولها.
“ما أقصده هو أنكِ أبليتِ بلاءً حسناً قبل قليل.”
“أتذكر أنك قلت كلاماً مغايراً تماماً في المكتب منذ قليل.”
زاغ بصر المشرف – الذي كان يصرخ قبل قليل – وبدا عليه الارتباك وهو يقول.
“لا، الأمر ليس هكذا… لم أرغب في إظهار صورة غير لائقة أمام الفرق الأخرى، شؤون فريقنا يجب أن تُناقش بيننا نحن فقط، أليس كذلك؟”
لم تقتنع يوجين بهذا المنطق الذي يقضي بشتم المرء أمام الآخرين والاعتذار له في الخفاء، لكنها آثرت الصمت مؤقتاً.
وحين رأى المشرف صمتها، عاود الحديث بلهجة متوترة مؤكداً ما قاله سابقاً.
“لقد عانيتِ كثيراً لامتصاص غضب رئيس القسم، ذلك المعتوه، قيل إنه أفرغ جنونه علينا مجدداً؟، لقد تعبتِ حقاً، وبما أنه حين ينفجر مرة لا يعود للكرّة، فلنعتبر أن الأمر قد انتهى هنا، حسنًا؟”
أمام هذا الكلام الذي يثير العجب مهما أُعيد سماعه، نطقت يوجين أخيراً.
“التقرير الذي عُدّل بناءً على تعليماتك، وأُرفقت به البيانات التي أمرتني بالبحث عنها… رئيس القسم يظن أنني من قمتُ بكل ذلك بقرار فردي مني ولهذا صبَّ غضبه عليّ، فهل تقترح أن نترك الأمر هكذا؟”
بينما كانت تتحدث، شعرت بحرارة الغيظ تسري في عروقها، لكنها حاولت الحفاظ على هدوئها قدر الإمكان وتابعت.
“لقد انتظرتُ لأنك قلتَ إنك ستتحدث إليه بنفسك.”
هذا ما حدث بالفعل، لقد قلبت المسودة رأساً على عقب لتلائم أهواء هذا الرجل، وعانت الأمرين في البحث وجمع البيانات حتى أنجزت التقرير النهائي، لتُفاجأ باستدعاء رئيس القسم لها ووقوع الصاعقة على رأسها.
بل إنه منعها من توضيح الأمر لرئيس القسم قبل الذهاب إليه، مدعياً أنه هو من سيتولى الحديث لاحقاً.
‘وبعد كل هذا، يأتي الآن ليقول هذا…!’
صرّت على أسنانها من شدة القهر.
كانت تتوق في أعماقها لرشق ذلك الوجه الصفيق بأي شيء تقع عليه يدها، لكنها انتظرت رده، أما المشرف، فظل يعبث بشفتيه بإصبعه متظاهراً بالانشغال، ثم فتح فمه ليقول ببرود.
“آه، كنتُ أود ألا أقول هذا كي لا أجرح مشاعركِ، ولكن…”
تنهد بعمق وكأنه مضطر، ثم تابع.
“أنتِ ستغادرين الشركة قريباً، يا يوجين.”
“ماذا؟”
“ألم تكوني تعلمين ذلك منذ دخولكِ؟، لقد أخبرتكِ مراراً؛ شركتنا لا توظف النساء بشكل دائم، فلا تأملي بالكثير.”
“ماذا تعني بـ…”
“لقد وصلني خبر من قسم الموارد البشرية سراً؛ لن يتم تجديد عقدكِ أو تحويلكِ لموظفة دائمة.”
دووم.
سقط قلبها بين ضلوعها وكأن شيئاً ارتطم بالأرض بقوة.
“هل فهمتِ الآن؟”
بدى وجه المشرف الذي ارتسمت عليه ابتسامة لئيمة مثيراً للاشمئزاز في عينيها.
لقد صمدت لأكثر من عام في منصبها كمتعاقدة، في وضع غير مستقر، لم يكن الأمر لقلة الفرص الأخرى المتاحة، ولكن في كل مرة كانت تأتيها فرصة للمقابلة، كان يُقال لها: ‘أيعقل لموظفة مستجدة أن تطلب إجازة من الآن؟’.
“شركتنا ليست سيئة، إذا أردتِ البقاء هنا، فعليكِ إحسان التعامل مع من معكِ حالياً”. هكذا كان المشرف يردد دائماً، مؤكداً على الولاء للشركة وتكاتف الفريق.
وبناءً على ذلك، كان يرمي بأعماله عليها خفيةً، ويأتي بأعمال الفرق الأخرى التي لا علاقة لها بها ليتفاخر هو بها بينما تنجزها هي، مدعياً أن ‘العمل يُكتسب بالممارسة’، مما جعلها ترزح تحت وطأة العمل الإضافي يومياً.
كل هذا كان يفعله مدعياً أنه لمصلحتها – من يظن نفسه هذا الوغد؟– مؤكداً لها أن تثبيتها في الوظيفة أمر محتوم وأنه هو من سيدعمها، من كان ذلك الشخص الذي يتبجح بوعوده العريضة غيره؟
“حتى لو أخبرتِ رئيس القسم، فأنتِ مجرد متعاقدة سترحل بعد فترة، أما أنا فشخص سيستمر في العمل معه… أنتِ تدركين ذلك، أليس كذلك؟”
من فرط الغضب الذي غلى في رأسها، ابيضّت الرؤية أمام عيني يوجين للحظة.
وصار صوت المشرف وهو يثرثر وكأنه طنين ذبابة بعيدة لا يُفهم لها معنى.
Chapters
Comments
- 2 - الفصل الثاني منذ 4 ساعات
- 1 - الفصل الأول منذ 4 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 2"