1 - الفصل الأول
{المقدمة}
تحت قبة السماء الشاسعة، كان الوقوف فوق أسوار القلعة كفيلاً بكشف معالم العاصمة الإمبراطورية العظيمة وهي تبسط أطرافها تحت ناظري، كان من الأحرى بي أن أستمتع بترف بتلك الإطلالة التي تشرح الصدر بجمالها الآخاذ، ولكن…
هوووويييش—
لطمت وجنتي رياحٌ شتوية عاتية، وكأنها تأبى عليَّ حتى لحظة من الهدوء والاسترخاء.
وفي هذا اليوم القارس، وبينما أقف فوق السور المكشوف أعزلَه أمام هبوب الرياح التي لا يصدها شيء، ماذا كنت أفعل يا تُرى؟
“تباً!، لماذا يصعب ربط هذا الشيء هكذا؟”
كنتُ أصبُّ كل جهدي في ربط حبل غليظ حول أحد نتوءات السور المتعرجة.
لقد مضت سبع سنوات منذ أن أصبحتُ بطلةً في لعبة الهوس والسجن هذه، واليوم أيضاً، أتظاهر بمحاولة الهروب لإتمام ‘الحدث الإلزامي’ في القصة.
فوق سور القلعة!، وفي هذا البرد الزمهرير!
“أتشو!”
عطستُ بقوة، ثم دسستُ يديَّ المتجمدتين تحت إبطيَّ وأنا أراوح بين قدميَّ في مكاني من شدة البرد، يا إلهي، متى سيأتي ذلك السيد الأحمق؟
“يوجين!”
لعلّه سمع لعناتي في سري، فقد ظهر سيدي وهو يتطلع إليَّ من أسفل الدرج المؤدي إلى السور، كان يتلألأ وحده اليوم أيضاً، وكأن أشعة الشمس الشتوية لم تُخلق إلا لتسلط ضوئها عليه دون غيره.
“تراق… تراق…”
بمجرد أن رآني، أدركتُ من وقع خطواته المتسارعة أنه يهرع نحوي، شددتُ الحبل الذي ربطتُه بإحكام لأتأكد من ثباته، ثم وضعتُ قدماً على حافة السور، منتظرةً اقتراب وقع خطاه أكثر.
“أتشو!”
استنثرتُ بشدة؛ فقد تنمّل أنفي من شدة الصقيع، ولا شك أنه سيصبح أحمر كحبة الطماطم حين أعود للداخل وأتأكد في مرآتي.
‘بحق هذا العالم!، أيُعقل أن يكون هذا السيد المهووس بهذا البطء؟، لو كنتُ بطلة القصة الأصلية لكنتُ قد قفزتُ خلف السور منذ أمد بعيد.’
أنا الوحيدة التي تملك صبراً لانتظارك، فعليك أن تمتنَّ لذلك.
وبينما كنتُ أتذمر في سري، قررتُ أن أراقب إن كان سيقدر فضلي هذا حقاً، وسأرى ما هو نوع الحلوى التي سيقدمها لي لاحقاً.
“يوجين!”
ظهر وهو يركض نحو السور بهيئة مبعثرة من شدة العجلة، وحين وقع بصره على قدمي المرفوعة فوق السور، قطب حاجبيه بأسى وقال.
“بقاؤكِ هكذا خطر، انزلي بسرعة.”
كان نبرته تشبه نبرة من يتعامل مع قطة تسلقت شجرة، وعلى نحو يثير السخرية، شعرتُ بدفء يسري في داخلي حين رأيتُ وجهه المألوف بعد طول وقوف في البرد.
لعل هذا مجرد ارتباط ذهني؛ فلطالما اقترن وجوده بالمدفأة والشوكولاتة الساخنة اللذيذة!
وبسبب شعور غامض بالحنق، انفجرتُ في وجهه دون قصد.
“لماذا تأخرتَ إلى هذا الحد؟، أتشو—!”
آه، لم يكن هذا ما يفترض بي قوله.
“أنا آسف… اعتذر منكِ بشدة.”
لماذا يرتسم على وجهه ذلك التعبير وكأنه ارتكب ذنباً لا يُغتفر؟، استنثرتُ أنفي وحاولتُ مداراة وجهي المحرج.
‘آه، الجو بارد جداً، يجب أن ألقي كلمات <الحدث> بسرعة وأدخل للداخل، خيارات هذا الحدث كانت…’
أحم… أحم، بينما كنتُ أنحنح لأهيئ صوتي للجملة التالية…
“يوجين.”
اقترب مني ووقف أمامي، ثم قال بصوت يملؤه الأسى وهو يرى وجهي الذي احمرَّ من البرد.
“لماذا خرجتِ إلى هنا؟”
هاه؟، ألا يُفترض أن تكون نبرته هنا باردة للغاية، تشتعل بمشاعر الخيانة والهوس؟
“هل تشعرين ببرد شديد؟”
خلع عباءته ولفني بها بالكامل ليغمرني بدفئها.
عجباً، لم يكن هناك مشهد كهذا في ‘حدث الهروب’ الأصلي.
لكن… يا إلهي، إنها دافئة حقاً…
‘كلا، ليس هذا وقت الاسترخاء!’
كدتُ أستسلم لدفء جسدي الذي تحسن حاله، لكنني استعدتُ رصانتي فجأة، لا يهم إن تغيرت نبرة الصوت أو قام بأفعال لم ترد في اللعبة؛ فهذه تفاصيل ثانوية.
المهم الآن هو اختيار الرد المناسب على سؤاله: “لماذا خرجتِ إلى هنا؟”
“—لأنني سأغادر هذا المكان.”
نطقتُ بالخيار الذي حفظتُه سلفاً بسرعة، ورغم أن نبرتي بدت متكلفة وكأنني أقرأ من نص، إلا أنني لم أبالِ، ففي النهاية، هذه لعبة، وحين أختار الرد الصحيح، لا بد أن يستجيب الطرف الآخر وفقاً لذلك.
“لن أسمح لكِ بالذهاب إلى أي مكان.”
جميل، يسير الأمر تماماً كما في أحداث اللعبة، استمعتُ لرد سيدي الذي يظهر عند اختيار الجواب الصحيح، ثم تابعتُ بقولي الخيار التالي.
“—لا تظن أن بإمكانك احتجازي!”
“الجو بارد هنا، إلى أين تنوين الذهاب دون استعداد…؟ أنا آسف لأنني أشعرتُكِ بالضيق، سآمر فوراً بترتيب خروجكِ غداً للتنزه.”
لــ… لم تكن هناك جملة كهذا!، ثم إنني لا أريد الخروج في هذا البرد القارس!
رغم ارتباكي للحظة، إلا أنني واصلتُ إلقاء جملتي الأخيرة.
“أنا… أنا سأتحرر حتماً!، من هذا القفص الذهبي الفاخر!”
هنا يفترض أن يتصلب وجهه ويقول بصوت مخنوق: “آه، هكذا إذاً”، ثم يتحداني أن أفعل ذلك إن استطعت، ويقتادني عائدةً، لينتهي ‘حدث الهروب من السور’…
“آه، هكذا إذاً.”
نجحت!
“يبدو أن القفص الذي أهديتُكِ إياه المرة الماضية لم ينل إعجابكِ، اعتذر منكِ، سآمر بإزالته من غرفتكِ فوراً.”
ثم سأل بنبرة رقيقة: “إن كنتِ تكرهين الطيور، فهل أحضر لكِ حوض أسماك في المرة القادمة؟”، وبينما كنتُ استمع لصوته الدافئ، بدأتُ أتساءل: أين بدأ يحدث الخلل؟
“أتشو!”
“طبيب القصر!، أحضروا طبيب القصر فوراً!”
… حسناً، الجو بارد جداً، سأؤجل التفكير في الأمر إلى حين دخولي للداخل.
* * *
“طقطق… طقطق…”
تعالى صوت احتراق الحطب المشبع بالزيت داخل المدفأة، انتشر الهواء الدافئ في أرجاء الغرفة ليجعلها ملاذاً وادعاً، وبناءً على إلحاح سيدها، تناولت يوجين الدواء الذي أعده طبيب القصر، والتفت بدثار ثقيل، وبدأت تهذي بكلماتها المسرحية دون كلل بعد أن استرخت في دفء الغرفة.
“—رغم أنك أمسكتَ بي اليوم، فلا تظنَّنَّ أبداً أنك قد أخضعتَ روحي.”
“أجل.”
في الأصل، كان يُفترض بهذه الكلمات أن تُقال بنبرة حاقدة من داخل قفص ضخم، لكن يوجين قررت ألا ترهق نفسها بالتفاصيل الصغيرة؛ فجسدها الذي وقف طويلاً فوق السور كان متجمداً، والدثار الذي لفه سيدها حولها كان دافئاً بشكل لا يُقاوم.
“—سأظلُّ دوماً أطارد الحرية…”
“بالطبع، بالطبع.”
بينما كانت يوجين تكرر حوارات اللعبة بجدية، تلاشت كلماتها وهي تنظر إلى وجه الأمير الذي كان يربت عليها بحنان وهي ملفوفة بالدثار، حتى وهي تلوذ بالصمت، لم تتغير نظراته نحوها، فشعرت بوجيب في صدرها وكأن ريشة تداعب قلبها، أطلقت كلماتها بفظاظة وكأنها تحاول لفظ تلك الريشة الوهمية.
“ما الخطب؟، لِمَ تبتسم هكذا؟”
“همم؟”
“سألتك مابال تعابير وجهك؟”
“لماذا؟، ألا يروق لكِ؟”
لم تستطع يوجين الرد على سؤال الأمير الحذر. ففي الوضع الطبيعي، كان يجب أن يكون ذلك الوجه متصلباً من الغضب والهوس، ونظراته نحو البطلة يجب أن تكون مظلمة ومليئة برغبة بسجنها…
‘لكن لماذا ينظر إليَّ وكأنني كنز ثمين؟’
كانت نظرات الأمير تفيض باللين، عذبة كالعسل الذي يشبه لون عينيه.
“…”
لزمت يوجين الصمت بمشاعر مختلطة، وحين سألها الأمير بقلق وهو يمسح على رأسها إن كانت تشعر بأي انزعاج، اكتفت بهز رأسها نفياً، وأمام صمتها الذي يعبر عن عدم رغبتها في الحديث، اكتفى الأمير بمسح رأسها الصغير المسند إليه بلطف.
وبعد فترة من التربيت الحاني، استقامت يوجين فجأة وكأنها أدركت شيئاً، وتطلعت في وجه الأمير.
‘رغم أنني لم أتوقع هوساً كما في القصة الأصلية…’
لم تكن علاقتهما كعلاقة البطلة الأصلية التي ترفض الموت، وهو الذي يهوِي بها في غياهب الهوس، لكنها كانت تعرف مدى تعلق الأمير بما يخصه، وبالرغم من أنها –دميته المفضلة– قد حاولت الهروب للتو، إلا أنه لم يظهر عليه أدنى علامات القلق، بل على العكس…
“… لماذا يبدو وجهك مشرقاً هكذا؟”
“هاه؟”
“أيسرُّك أنني أحاول الهرب؟”
“مستحيل.”
شابت نبرة الأمير مسحة من الضحك وهو يجيب على سؤالها الذي خرج حانقاً، وحين لاحظت يوجين ذلك، ساء مزاجها فجأة وانمحت داخل الدثار مخفيةً رأسها بالكامل.
“يوجين؟”
“ماذا دهاك؟، اذهب بعيداً.”
وبينما كانت تستمع لصوته الرقيق وهو يترجاها أن تريَه وجهها دون أن تتوقف يده عن التربيت عليها، بدأت يوجين تسترجع مشهد السور في مخيلتها؛ ملامح الأمير حين أمسك بها بعد هروبها.
‘بدا مرتبكاً، لكنه بدا وكأنه مستمتع بنحوٍ غامض…’
بينما كانت يوجين غارقة في حيرتها، اقترب خادم بهدوء – حريصاً على عدم تعكير الصفو السائد بينهما – وجمع كوب الشوكولاتة الفارغ وأطباق الحلوى وغادر الغرفة.
“طق.”
* * *
“آه…”
تنهد الخادم بمجرد خروجه من الغرفة، بعد أن كان يحبس أنفاسه كي لا يفسد الأجواء الحميمة بين الاثنين.
‘لقد عادا لممارسة تلك اللعبة مجدداً…’
كانت هذه الأحداث التي تقع بين الحين والآخر أشبه بالمراسم السنوية، لم يكن هناك من يجهل مشاعر الأمير الجياشة تجاه يوجين، ولكن…
المقصودة بتلك المشاعر المتقدة، فكانت تتصرف ببرود وجفاء، مدعيةً أنها مجرد ‘دمية’ للأمير، وتقابل كل محاولاته للتودد بلا مبالاة.
ثم، لسبب ما… كانت تفتعل مثل هذه الفوضى وتهرب بين الفينة والأخرى، وكأنها تريد اختبار مشاعر حبيبها.
Chapters
Comments
- 2 - الفصل الثاني منذ 4 ساعات
- 1 - الفصل الأول منذ 4 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 1"