كتمت بصعوبة الرغبة في سؤاله عمّا جرى على الفور. كان هناك الكثير من الأمور التي ينبغي أن تناقشها مع ساييرد على انفراد، لذا كان من الضروري أولًا أن تأخذَه إلى مكانٍ لا يوجد فيه أحد.
قال الكونت فانسفيلت لابنته موجهًا إليها أوامره:
“خُذيه إلى الحديقة الخلفية.”
ثم التفت إلى ساييرد وقدّم له تفسيرًا مختصرًا:
“قد لا تُضاهي حديقة دوقيتكم، لكن حديقة فانسفيلت تستحق المشاهدة أيضًا.”
كان ذلك، بالطبع، مجرّد سببٍ ظاهري. فمكتب الكونت يطلّ مباشرة على الحديقة الخلفية، ما يعني أنه كان ينوي مراقبتهم حتى لا يقوما بأي تصرفٍ متهوّر وهما بمفردنا.
رد ساييرد بأدب:
“أشكرك على كرمك. أتوق لرؤية مدى جمالها.”
وربما كان ساييرد، بذكائه، قد أدرك نواياه، لكنه قَبِلَ اقتراحه دون اعتراض.
قالت كيسا بعد أن تبادلت نظرة سريعة مع والدها:
“من هذا الاتجاه، يا دوق.”
وفي طريقهما، اعترضتهما بعض الخادمات.
“أوه، آنستي، إلى أين تذهبين؟”
“إلى الحديقة الخلفية قليلاً.”
“آه، حسنًا، رحلة موفقة!”
وكلّ من التقوه في الطريق كان يُلقي نظرة خاطفة على ساييرد قبل أن ينحني احترامًا. يبدو أنّ الكونت قد أحكم كتمان الأمر حتى أنّ أحدًا لم يَشُكّ في هويته الحقيقية.
‘لهذا السبب جاء بعربة بلا شعار إذًا.’
حين خطرت لها تلك الفكرة، كانا قد وصلا إلى الحديقة. أخذ ساييرد يطوف بعينيه على ألوان الزهور الربيعية المتنوّعة التي رحّبت بهما.
قال مبتسمًا:
“إنها حديقة جميلة فعلاً، يا كيسا.”
وليس الآنسة كيسا — ما يعني أنّه لم يعُد يتظاهر بعد الآن. أدركت كيسا أن لا أحد يراقبهما، فثبتت نظرها عليه وسألته
“كيف جرى الحديث مع أبي؟ هل وافق على زواجنا؟”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة.
“ألقيتُ الطُعم فحسب، لكن من الصعب التنبؤ بما ستكون عليه ردة فعله.”
“طُعم؟”
“شيء من هذا القبيل.”
سألته عدّة مرّات، لكنه كان يتفنّن في تحويل الحديث كلّ مرة. وربما، فكّرت كيسا، أنّه عرض على عائلتها شيئًا يعود عليهم بالنفع مقابل الموافقة على الزواج — أرضًا ربما، أو مالاً. وأقلقها الأمر كثيرًا.
قالت برجاء
“ألن تخبرني بماهية ذلك؟”
“ليس بالأمر الجلل. اقترحت فقط أن تُقدّم هيلان بعض المساعدة الطفيفة في أعمال أسرة فانسفيلت.”
مساعدة طفيفة، قالها ساييرد، وإذا قال ذلك فهو يقصد ما يقول. لم يكن بحاجة إلى دفع ثمن باهظ من أجل زواج سياسي في النهاية، فالعلاقة قائمة على المنفعة المتبادلة.
قال بهدوء
“على أي حال، فلننتظر. والدك بدا مترددًا، وذلك يعني أن هناك أملاً.”
هل يعني هذا أنّ هناك فرصة؟ شعرت كيسا بالارتياح وسرعان ما زفرت بعمق، فابتسم لها الرجل واقترح أن يتجولا قليلاً ليبدو الأمر كأنهما في نزهة حقيقية، حتى لا يُثيرا شكوك الكونت.
سارا جنبًا إلى جنب على الممرّ المحاط بالأزهار. وبعد أن أزيحت أهمّ التساؤلات من بالها، انتقلت كيسا إلى ما هو أعمق.
“كيف حدث هذا كلّه؟ أيمكن أن تكون ساييرد… لا، عذرًا، قصدت يا دوق…”
ابتسم قائلاً
“يمكنك مناداتي ساييرد كما من قبل.”
“هكذا إذًا؟”
“نعم، أُفضّل ذلك حقًّا. لأكون صريحًا، لم أعتد بعد على لقب الدوق ذاك.”
“آه، هذا مفهوم. على أي حال، لم يخطر ببالي مطلقًا أن يكون ساييرد هو دوق هيلان نفسه.”
خفض بصره كما لو كان يعبّر عن ندم.
“أعتذر. لم تكن نيّتي أن أخدعك أبدًا.”
“أعلم ذلك. أنا من أراد إخفاء أصلي، وقد سايرتَني في ذلك.”
“صحيح. بالإضافة إلى ذلك، خشيتُ أنكِ قد ترفضين عرض الزواج لو علمتِ بمقامي الحقيقي أو بالظروف المحيطة بي.”
“أنا؟”
“لقد سمعت أنكِ قريبة من الأميرة.”
آه، إذًا كان يخشى أن تفضّل صداقة الأميرة على إتمام الخطوبة. لكن ذلك لم يكن ليحدث.
كانت كيسا تحب الأميرة وتحترمها بصفتها من العائلة المالكة، لكنها لم تشعر يومًا بأنها صديقة حقيقية. فالصداقة، في نظرها، تتطلّب قدرًا من الندية بين الطرفين.
لكن علاقتهما لم تكن كذلك أبدًا، بل إنّ الأميرة تجاوزت حدودها ذات مرة أمام الجميع في جلسة شاي، حين كشفت عن أمرٍ شخصي يخص كيسا.
لم تعرف كيسا على وجه اليقين سبب تصرّفها. ربما ظنّت أنّها تفعل ذلك لمصلحتها، وربما كانت تخفي نية أخرى.
لكن ما كانت متأكدةً منه هو أنّها لن تستطيع بعد اليوم النظر إلى الأميرة بالمشاعر نفسها التي كانت تكنّها لها سابقًا.
قالت بابتسامةٍ خافتة:
“لا بأس. من أراد تحقيق ما يريد، فعليه أن يقبل بالخسارة التي ترافق ذلك.”
وهدفها الأسمى الآن هو فسخ خطوبتها من دانيال، ولهذا قررت تأجيل كلّ ما سواه.
“مع ذلك، حين رأيت ساييرد في منزلنا اليوم، كدت أشعر أن قلبي سيسقط من مكانه.”
“أشعر بالحرج لسماع ذلك.”
“لكن، كيف عرفتَ أمر عائلتنا؟ هل أفلتُ منّي تلميح ما دون أن أدري؟”
“في الواقع، رأيت عربة أسرة فانسفيلت في المرتين اللتين التقيتُك فيهما أمام المكتبة. لم يكن هناك كثير من النبلاء الذين يمكثون طويلاً داخلها، لذا لفت الأمر انتباهي.”
“آه، فهمت. بالفعل، تصرّفي كان ساذجًا بعض الشيء، وأشعر بالخجل حين أتذكر ذلك.”
لماذا لم يخطر ببالها أنه ربما رأى العربة التي تحمل شعار العائلة واضحًا على جانبيها؟ احمرّ وجهها خجلاً، فسارعت لتغيير الموضوع.
“على كلٍّ… هل كنتَ تفكر في هذا اليوم منذ اللحظة التي أهديتني فيها تذكرتَي الأوبرا أول مرة؟”
“نعم، أقرّ بأنّ التقدّم لخطبة شخصٍ لم ألتقِ به بعد أمرٌ غريب، لذا كنت أبحث عن وسيلةٍ مناسبة للتقارب أولًا.”
توقّف ساييرد فجأة عن السير، ونظر إلى كيسا بابتسامة خفيفة.
“أليست فكرة مقنعة؟ دوقٌ يافع يذهب إلى دار الأوبرا مصادفة، فيقع أسيرًا أمام أجمل امرأةٍ رآها في حياته، ومن شدّة إعجابه بها يتقدّم لها بالزواج.”
“ماذا؟”
“صحيح أنّه قرار متهوّر ومندفع، لكن بالنظر إلى نشأتي، يمكن تفهّمه. فالقليلون يتصوّرون أني اكتسبت آداب النبلاء من ديرٍ لا من البلاط. ثمّ، كم من رجلٍ في كلّ زمانٍ ومكان اتّخذ قراراتٍ طائشة بسبب امرأةٍ فاتنة…”
لكنّ المسألة لم تكن في ما قاله عن الاندفاع، بل في عبارته السابقة: أجمل امرأةٍ رآها في حياته. لقد قال ذلك ببرودٍ تام، حتى إنّها، للحظةٍ، ظنّت أنّه يتحدث عن شخصٍ آخر.
“ما الأمر، كيسا؟”
سألها ساييرد وهو يميل برأسه مستغربًا صمتها.
“أنتَ قبل قليل…”
“قبل قليل؟”
حرّكت شفتيها دون أن يخرج صوتٌ منها، ثمّ هزّت رأسها بسرعة.
“لا شيء. انسَ الأمر.”
لم تجرؤ على السؤال. مجرّد تذكّر كلماته جعلها تتمنى لو تختفي من الوجود.
لو أنّه عبّر عن إعجابه بها بطريقةٍ مباشرةٍ أو متكلّفة كما يفعل الرجال عادة، لما أربكها بهذا الشكل.
لكن قوله إنّها “أجمل امرأةٍ رآها في حياته” جاء بنبرةٍ صافيةٍ هادئة، خاليةٍ من المبالغة، حتى بدت كأنها حقيقةٌ بسيطة لا غزلاً.
صحيح أنّها التقت سابقًا برجالٍ يتقنون المديح بلُطفٍ خفي، لكنّهم غالبًا ما يستخدمون التلميحات أو المجاز. أما هو، فقد كان صريحًا حدّ الوضوح، بل أقرب إلى الوقاحة لولا أنّ القائل هو ساييرد؛ ولو كان شخصًا آخر، لسخرت منه في سرّها.
“هكذا إذًا؟ حسنًا، فلنُكمل السير.”
تأمّلت كيسا ظهره وهو يتقدّم بخطواتٍ واثقةٍ دون أن تفهم الدافع وراء كلماته، لكنها أيقنت أنّها لن تتمكّن من معرفة ما يخفيه مهما حدّقت.
ثم تبادلا الحديث قليلاً، وكان كلّه حول عقد الزواج، دون أي لمسةٍ من توتّرٍ أو مشاعرٍ رومانسية.
“كيسا، ما رأيك أن نضع المبادئ الأساسية لعقدنا أولاً؟”
وبعد نقاشٍ قصير، توصّلا إلى أربع قواعد رئيسية:
الأولى: يتعيّن عليهما الحفاظ على علاقة الزواج طوال المدّة المتفق عليها.
الثانية: بعد انقضاء المدّة، يحقّ لأيٍّ منهما طلب الطلاق وإنهاء العلاقة.
الثالثة: طالما استمرّت العلاقة، يجب على كليهما أداء واجبات الزوج والزوجة بإخلاص.
الرابعة: لا تشمل تلك الواجبات أي علاقة جسدية أو فعل ذي طابع جنسي.
اتفقا على أن يُناقشا لاحقًا التفاصيل الدقيقة حين يلتقيان لصياغة العقد رسميًّا.
وبعد مرور بعض الوقت، نظر ساييرد إلى ساعته الجيبية وقال إنّ عليه المغادرة.
“إن أطلتُ البقاء، فقد يرسل والدك من يبحث عنك.”
“آه، إذًا سأرافقك إلى الباب الرئيسي…”
“لا داعي. الجوّ باردٌ نوعًا ما.”
أصرّ بأن تعود إلى الداخل أوّلاً، وقال مبتسمًا:
“لا تقلقي يا كيسا، كلّ شيءٍ سيكون على ما يُرام.”
كانت تلك آخر كلماته لها وهي تتّجه نحو مدخل القصر، وردّدتها في نفسها متمنّية أن تكون نبوءةً صادقة، ثمّ عادت إلى غرفتها لتُراقب من النافذة العربة السوداء تغادر ببطء.
وبقيت تحدّق فيها طويلاً.
***
مرّت ثلاثة أيام منذ زيارة ساييرد السرّية، ولم يحدث أيّ تغيّرٍ يُذكر في منزل فانسفيلت.
كان دانيال لا يزال خطيب كيسا، ولم يُبدِ الكونت أيّ رأيٍ أو موقفٍ لابنته حول الأمر.
في إحدى وجبات العشاء، حاولت كيسا استدراجه للحديث بشكلٍ غير مباشر، لكنّه بقي صامتًا، ولم تُفلح في انتزاع كلمةٍ واحدةٍ منه.
إلا أنّ هناك مؤشّرًا إيجابيًّا واحدًا، وهو أنّ الكونت بدا غارقًا في التفكير الجادّ، تمامًا كما قال ساييرد.
فصلّت كيسا بإخلاصٍ أن يُفضي هذا التفكير إلى نتيجةٍ تصبّ في صالحها.
لكنّ شخصًا ما قطع عليها صلاتها.
“آنستي! إلى متى ستتجاهلين هدية السيد دانيال؟!”
كانت تلك مربيتها، التي أرهقتها بالإلحاح منذ أيام لتجربة الفستان الذي أرسله دانيال. تنهدت المربية قائلة:
“وإذا تغيّر مقاسك قليلاً منذ آخر مرة، فماذا ستفعلين حينها؟ يجب أن تقيّسيه الآن لتعرفي إن كان بحاجةٍ إلى تعديلٍ أو استبدال.”
“لا يهمّني. لن أرتديه على أيّ حال.”
“ها أنتِ ثانية! عنيدة كالأطفال! لا أفهم ما الذي جرى لك مؤخرًا!”
شبكت المربية ذراعيها بصرامة وقالت بنبرةٍ حازمة:
“لا مفرّ إذًا. سأخبر الكونت بنفسي.”
“ماذا؟!”
“نعم، يجب أن يعلم الكونت أنّك أصبحتِ تتصرّفين بغرابة في الآونة الأخيرة!”
“لا، لا تفعلي!”
ركضت كيسا خلفها وهي تخرج مسرعة من الغرفة، فقد خشيت أن تُزعج والدها وهو غارقٌ في تفكيره.
لكن لسوء حظّها، كان الكونت نفسه يمشي آنذاك في الممرّ أمام غرفتها.
صرخت المربية فور رؤيته:
“يا سيدي الكونت! يجب أن تسمعني! السيد دانيال أرسل فستانًا للآنسة، لكنها…”
توقّف الكونت ونظر إليها بهدوءٍ شديد بينما كانت المربية تسرد التفاصيل دون توقف، ثمّ قال ببرودٍ بعد أن أنهت حديثها:
التعليقات لهذا الفصل " 16"