تمتمت كيسا في سرّها بالاسم الذي نطق به الرجل، تتذوقه على لسانها ببطء: ساييرد هيلان، ساييرد هيلان، ساييرد… هيلان؟ بدا لها اسم العائلة مألوفًا وغريبًا في آن واحد، ملتصقًا باسم وديّ تعرفه.
“دوق هيلان.”
لم تدرك كيسا أن الاسم الذي نطق به الكونت فانسفيلت يعود إلى واحدة من أعرق العائلات في البلاد، إلا بعد أن سمعت اللقب بصوت والدها.
بل، مهلاً… هل ناداه والدها حقًّا بدوق هيلان؟ أتُراه هو؟
حدّقت فيه بملامح تملؤها الحيرة، فابتسم ساييرد قليلاً وأشار بيده نحو الأريكة.
“لِنجلس ونتحدث أولًا، ليدي فانسفيلت.”
لكن الكونت اعترض بنبرة حادّة:
“لا داعي لذلك. هذه الفتاة ستعود حالًا إلى مكانها الطبيعي.”
رمق ابنته بنظرة آمرة تطلب منها المغادرة، غير أن ساييرد تحرّك بهدوء، واقفًا بين الأب وابنته كمن يقطع تلك النظرة.
“غريب، أليس كذلك؟ كيف يمكننا مناقشة أمر كهذا من دون وجود المعنيّة بالأمر؟”
“المعنيّة بالأمر…؟”
“بالتأكيد. لقد تقدّمتُ بالزواج من الليدي فانسفيلت، لذا أرغب في سماع رأيها مباشرة. أما رأي والدها، فقد استمعتُ إليه بما فيه الكفاية.”
زمّ الكونت شفتيه طويلاً في صمتٍ ثقيل، ثم استسلم أخيرًا وقال:
“كيسا، اجلسي.”
جلست كيسا إلى جوار والدها وهي لا تزال عاجزة عن استيعاب ما يجري. ساييرد هو دوق هيلان؟ وزواج؟ ما الذي يحدث هنا بالضبط؟
وما إن جلست حتى قال ساييرد، بابتسامة لطيفة، إن فنجان شاي إضافيًا سيكون مناسبًا.
فوجئت كيسا بوالدها يلتفت إلى سكرتيره القريب من الباب ويأمره بإحضار الشاي، مطيعًا لرغبة الضيف على غير عادته. لم يسبق أن رأته بهذا الشكل من اللين.
دخلت خادمة بعد قليل، تضع فنجانًا آخر أمام كيسا. وبينما كانت تراقبها، وجدت نفسها تتأمل ساييرد عن كثب. كان مختلفًا عن الصورة التي انطبعت في ذهنها عنه في المكتبة، في أمرين رئيسيين.
أولًا: كان يرتدي سابقًا ملابس بسيطة مريحة، أما الآن فهو يرتدي بدلة رسمية محافظة إلى حدّ التزمت، لكنها تليق به تمامًا، بل وتزيده هيبةً وأناقة. كانت قد لاحظت من قبل أن ملامحه تحمل شيئًا من الجمال القديم، وها هي ملابسه تؤكد ذلك الانطباع العجيب.
ثانيًا: كان شعره من قبل يتدلّى طبيعيًّا على جبينه، أما الآن فمرتّبٌ بعناية، كاشفًا عن جبهة واضحة تزيد من نضارته. بدا أكثر نضجًا أيضًا؛ فبدلاً من هيئة الطالب الجامعي التي عرفته بها، كان الآن رجلاً بالغًا في تمام رشده.
وقد سمعت أنه توأم الدوق الراحل، مما يعني أن مظهره الحالي هو ما يليق بسنّه الحقيقية.
… إذًا، ساييرد كان دوق هيلان حقًّا.
الآن فقط فهمت. نعم، يشبه أخاه الراحل إلى حدّ التطابق، كما تقول الشائعات. صحيح أن سلوكهما مختلف تمامًا — فذلك الدوق كان جامد الملامح حتى وهو برفقة الأميرة خطيبته — لكنّ ملامحهما متطابقة على نحو مدهش.
‘كم أنا حمقاء! كيف لم أدرك ذلك من قبل؟ من الغريب أن تُحدث الهيئة وطريقة الكلام هذا التحوّل الكبير في الانطباع.’
حتى الآن، وهي تراه يبتسم ابتسامةٍ دافئة موجّهة إليها، يصعب عليها تصديق أن هذا الرجل هو نفسه الذي وُلد في اليوم ذاته مع ذلك الرجل البارد.
“تنظرين إليَّ بتركيز شديد يا سيدة، حتى إني بدأت أشعر بالحرج.”
احتاجت كيسا لحظة لتستوعب أن هذا الكلام موجّهٌ إليها.
“آه، أعذرني… لم أقصد أن أسيء الأدب.”
لوّح ساييرد بيده مطمئنًا.
“لا، لا، لم أقصد اللوم أبدًا. على العكس، إنه لشرفٌ عظيم أن تحظى بنظرة من حسناء مثلك. لا شك أن الكونت فانسفيلت فخورٌ بابنته.”
أجاب الكونت، بنبرةٍ متحفّظة:
“نعم، حسنًا… يمكن القول ذلك.”
شعرت كيسا بنفور طفيف. هل كان ساييرد يتحدث بهذا الخفّة دائمًا؟ الرجل الذي عرفته كان لبقًا، نعم، لكنه لم يكن يومًا بهذه اللامبالاة.
“على كل حال…”
قال ساييرد وهو يعقد ساقًا فوق الأخرى، مسندًا ذقنه إلى كفه في وضع بدا غير رسميٍّ على الإطلاق.
“السيدة فانسفيلت… أو بالأحرى، بما أننا تبادلنا التعارف، فربما يجوز أن أناديكِ السيدة كيسا. أليس كذلك؟ يبدو الاسم أقرب إلى القلب.”
التعارف، قال؟ في الحقيقة، لم يحدّثها سوى عن اسمه. أما هي فلم تعرّف بنفسها أصلًا.
“هل تسمحين لي بذلك؟ ممتاز، سيدة كيسا…”
لم يمنحها فرصة للجواب، بل تابع بنظرة متألقة:
“ما رأيكِ بي؟ هل تودّين قبول عرضي بالزواج؟”
“عَ– عرض الزواج؟!”
نعم، لقد قالها قبل قليل فعلاً، لكنها كانت منشغلة بالصدمة حين علمت أنه دوق هيلان حتى نسيت الأمر.
زواجه منها؟ سرعان ما خطر ببالها العرض القديم الذي سمعته في المكتبة، حين تحدّث عن زواج تعاقدي لأغراضٍ سياسية، لكنها شعرت أن الأمر مختلف هذه المرة. فساييرد الآن يتصرّف كما لو أنه يلقاها للمرة الأولى أمام والدها، محافظًا على مظهر رسميٍّ يليق بالمقام.
“أنا… في الحقيقة، أنا…”
تلعثمت وهي تحاول ترتيب كلماتها، فتدخّل الكونت قائلًا:
“لم أُخبر ابنتي بعد.”
أبدى ساييرد دهشة مصطنعة، رفع حاجبيه وقال:
“لم تخبرها؟ هذا قاسٍ يا سيدي. لقد أرسلتُ رسالة رسمية لطلب يدها بنفسي.”
رسالة طلب زواج؟! لم تسمع بهذا قط. رمقت والدها بعينين متسائلتين، لكنه تجاهل نظرتها تمامًا.
قال الكونت بنبرةٍ جافّة:
“في الأصل، تلك الرسالة كانت تنطوي على بعض الإشكاليات، يا دوق.”
“حقًّا؟ لقد التزمتُ بكل الصيَغ الرسمية كما ينبغي.”
“ليست المسألة مسألة شكلية. فعادة ما تُرسل رسالةُ الخطبة بعد أن يجري بين الطرفين بعض الحديث المبدئي، أما أن تُرسل رسالةَ خطبةٍ وحسب، فذلك—”
“آه، إذًا يمكننا إجراء ذلك الحديث الآن، أليس كذلك؟ الحديث بين الطرفين.”
قطع كلامَه، فانعقد حاجبا الكونت فانسفيلت في امتعاض، غير أن ساييرد لم يُبالِ، بل حوّل نظره مباشرة نحو كيسا.
“سيدة كيسا، منذ أيامٍ قليلة، في دار الأوبرا، وقعتُ في حبّك من النظرة الأولى. فهل تتفضلين بالزواج مني؟”
شهقت كيسا مندهشة دون قصد. كانت تعلم تمام العلم أن كلماته ليست عن صدق، ومع ذلك كان صوته وتعبير وجهه حين تقدّم بالخطبة حلوين إلى حدٍّ مربك.
تماسكت بصعوبة. يبدو أنه افترض أنه رآها أول مرة في دار الأوبرا. بدأت معالم السيناريو الذي وضعه بنفسه تتضح شيئًا فشيئًا.
‘ظننتُ أنه تراجع في ذلك اليوم، لكنه لم يفعل.’
يبدو أن عرض الزواج التعاقدي الذي تقدّم به ساييرد في مكتبة القصر ما زال قائمًا. واذا تذكرت جيدا، لم يقل يومًا بوضوح إنه سيتراجع عن ذلك العرض.
شدّت قبضتها على طرف تنورتها. هذه فرصة. فرصة مثالية لفسخ خطبتها من دانيال. معجزة ربما لا تتكرر أبدًا.
ولحسن الحظ، تناول الكونت تلك المسألة بنفسه.
“دوق هيلان، لقد قلتُ لك مرارًا، إن لابنتي بالفعل خطيبًا.”
“في زمنٍ تُكسر فيه الزيجات، أليس من الممكن كسر الخطوبات أيضًا؟”
“……هذا تجاوز في القول. أمور الزواج والخطوبة تُقرر داخل العائلة.”
“أنا لا أفرض شيئًا، يا سيدي. حتى في هذه اللحظة، إنما أسأل السيدة كيسا عن إرادتها، أليس كذلك؟”
“لا حاجة للسؤال. كيسا—”
“سأقبل.”
التفتت أعين الرجلين نحوها في آن واحد. حاولت كيسا أن تتحدث بوضوح قدر المستطاع، حتى تُعبّر عن نيتها هي، دون أي لبس.
“دوق هيلان، أقبل عرض زواجك.”
تشنّج وجه الكونت فجأة، بينما رسم ساييرد على العكس ابتسامة آسرة.
وحيث إن الكونت نظر إليها كما لو كانت مجنونة، قررت كيسا أن تمضي في هذا الدور حتى النهاية.
“آسفة، ولكنني حقًا أريد الزواج بهذا الرجل. لا بد أن يحدث هذا الزواج، مهما كلّف الأمر.”
“ولِمَ ذلك؟”
“لقد وقعتُ في حبّه من النظرة الأولى.”
في مواجهة هذا السبب السخيف، عجز الكونت عن مواصلة الحديث للحظة. أما كيسا، فوجهت نظرة خفيفة نحو المقعد المقابل، تنتظر من ساييرد أن يواكبها في التمثيل.
‘ها؟’
لكن المفاجأة أنه لم يفعل سوى أن رمش بعينيه في ارتباكٍ واضح، وبدا الاضطراب جليًا على وجهه الهادئ عادةً.
هل قلتُ شيئًا غريبًا إلى هذا الحد؟ كانت تفكر في ذلك حين نهض ساييرد فجأة من مقعده، وسار بخطى سريعة نحوها، وأمسك بيديها كلتيهما.
“إنه لشرفٌ عظيم، سيدة كيسا. أعدكِ، لن تندمي أبدًا على هذا القرار اليوم.”
مهما شاهدته، كان تمثيله متقنًا لدرجة تُضاهي أفضل الممثلين المسرحيين.
“اخرجي من هنا.”
وأخيرًا، وقد استعاد الكونت فانسفيلت وعيه، طرد كيسا من مكتبه. ولو كان الأمر بيدها، لبقيت هناك، لكنها شعرت أنه من غير اللائق الإصرار، خاصة وأن الحديث الذي سيجري الآن بين رؤساء العائلات.
ولأن ساييرد لم يحاول منعها، انسحبت بهدوء.
لكنها لم تستطع أن تتجاهل القلق الذي يعصف بها. كانت تتوق لمعرفة ما يدور بينهما في الداخل، وتخشى في الوقت نفسه أن يُصرّ والدها على رفض فسخ الخطوبة.
في الواقع، كان رد فعل الكونت المتحفّظ تجاه عرض ساييرد مفهومًا إلى حدٍّ ما. فمع أن عائلة روينز لا تُقارن بعظمة هيلان، فإن المصالح المتشابكة في هذه الخطوبة كانت أعقد من مجرد مقارنة مكانة اجتماعية.
أولًا، كان عليهم مراعاة رغبة الملك، الذي حاول سابقًا تزويج أصغر بناته من الدوق الراحل. كما أن عائلة روينز كانت على صلة وثيقة بعائلة فانسفيلت منذ زمن بعيد.
وفوق ذلك، فإن طبيعة الكونت الحذرة تجعله يتحفظ من التعامل مع الدوق الجديد الذي لا يعرفه بعد. لذا بدا أن المسألة كلها تتوقف على ما إذا كان ساييرد قادرًا على إقناعه.
‘ليت الأمور تسير على ما يرام.’
حاولت كيسا التنصت على ما يجري في المكتب، لكن سكرتير والدها كان يراقبها بنظراتٍ صارمة، فلم تجد بُدًّا من العودة إلى غرفتها.
وطبعًا، لم تستطع هناك تهدئة نفسها أيضًا. ظلت تمشي جيئة وذهابًا داخل الغرفة، والوقت يمر ببطءٍ لا يُحتمل.
وبعد فترة بدت طويلة للغاية، طرق أحدهم الباب ثلاث مرات منتظمة. فتح الكونت الباب، وبدا على وجهه الإرهاق.
“كيسا، دوق هيلان يرغب في التحدث معك قليلًا قبل أن يغادر.”
ومن خلفه، ظهر ساييرد. يبدو أن الحديث بينهما انتهى أخيرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 15"