حتى كيسا نفسها، التي عاشت طوال حياتها تحت سقفٍ واحد مع والدها الكونت، لم ترَ ذلك القدر من الذهول على وجهه سوى مراتٍ معدودة.
“أليس هناك خطأ ما؟”
قفز السكرتير واقفًا ردًّا على سؤال ربّ عمله.
“إنه صحيح تمامًا! لقد تأكدت بعينيّ هاتين وقرأته عدّة مرات!”
“هذا كلامٌ لا يُصدَّق… كيسا قد كانت بالفعل…”
توقّف الكونت فجأة عن الكلام وحدّق في ابنته، ثم قطّب حاجبيه.
“كيسا، اذهبي الآن.”
“نعم؟”
“اذهبي وافعلي ما عليكِ فعله.”
“لكن، أبي، لقد قلتَ للتوّ—”
“قلتُ اخرجي.”
كان صوته حازمًا صارمًا لا يترك مجالاً لأيّ اعتراض، فاضطرّت كيسا إلى مغادرة مكتب والدها.
“ما الذي يحدث بحقّ السماء…؟”
لم تستطع أن تخمّن سبب تغيّر سلوك والدها فجأة. ما الذي جاء به السكرتير من خبرٍ جعله على تلك الحال؟
وبما أنه ذكر اسمها دون قصد، كان واضحًا أن الأمر يتعلّق بها، غير أنّها لم تستطع أن تخمن كيف.
“حسنًا، إن كان له علاقة بي، فربما سأعرف عاجلًا أو آجلًا.”
على الأقل، لن تضطر في الوقت الراهن إلى إرسال رد مجاملة لا تريده إلى ميليسا. اكتفت بتلك الفكرة لتواسي نفسها، ثم عادت إلى غرفتها.
لكن الكونت اقتحم غرفة كيسا في صباح اليوم التالي المتأخر من دون أيّ إنذار.
كانت كيسا تعزف الكمان لتخفّف عن نفسها كآبتها، ففزعت حين رأت والدها.
“أبي؟ ما الذي أتى بك؟”
كان والدها دائمًا يستدعيها إليه إن كان لديه أمرٌ ليقوله، لا أن يأتي بنفسه، لذا بدا الأمر غريبًا للغاية. كان في نظراته شيء غير مألوف، كأنه يفتّش عن شيء في ملامحها.
“سمعتُ أنك ذهبتِ إلى دار الأوبرا قبل أيّام.”
بدأ الكونت الحديث بمقدّمة لم تكن متوقعة. ومع أنه كان صارمًا، إلا أنّه لم يكن ليوبّخها لمجرّد حضورها الأوبرا، وهو أمر يستمتع به معظم النبلاء. فهل أدرك، يا تُرى، شيئًا بشأن مصدر التذاكر؟
إن علم بأنها التقت في مكتبة القصر الملكي برجل غريب مرتين، وأنه هو من أهداها تذاكر الأوبرا، فلن يبقى صامتًا بكل تأكيد.
لذلك أجابت كيسا بحذر، حريصةً على ألا تسبّب أيّ سوء فهم:
“نعم، هذا صحيح.”
“هل حدث هناك أمرٌ مميّز؟”
استعادت ذاكرتها للحظة، لكنها لم تجد شيئًا يستحق أن تذكره له.
“لا، ليس حقًا.”
“إذًا، لم تلتقِ بدوق هيلان؟”
دوق هيلان؟! لمعت عيناها دهشة. أجل، تذكّرت أنه كان في الأوبرا أيضًا.
“سمعت أنه حضر، لكنني لم ألتقِ به. كان المكان مزدحمًا جدًا ولم تتح لي الفرصة.”
تأمّلها طويلًا قبل أن يدير ظهره. يبدو أنه لم يجد في تصرّفها ما يثير الريبة.
“انتظر، أبي!”
لكن كيسا لم تستطع تركه يذهب هكذا.
“لِمَ تسألني عن هذا؟ هل له علاقة بما قاله السكرتير بالأمس؟”
“ليس هذا من شأنك.”
قطع سؤالها ببرودٍ قاسٍ وغادر الغرفة كما دخلها، من دون أيّ تمهيد أو تفسير. تُركت كيسا وحدها، عاجزة عن فهم ما يجري.
ما علاقة دوق هيلان بالأمر فجأة؟ أيمكن أن تكون عائلة الدوق قد اشتكت لأنّها لم تُلقِ عليه التحية في الأوبرا؟ لم تجد تفسيرًا آخر غير هذا السخيف.
لكن الحيرة لم تتوقف عند ذلك الحدّ.
في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، وصلت إلى بيت فانسفيلت في المدينة علبة كبيرة نوعًا ما. وما إن رأت اسم المرسِل حتى انكمش وجه كيسا. في استياء.
“دانيال روينز…”
“يا إلهي!” صاحت المربية التي كانت تقف بجانب كيسا وهي تنظر داخل الصندوق بدهشة.
“يا للعجب، يا له من فستان جميل!”
كان داخل الصندوق فستان سهرة أزرق فاتح بلمعانٍ رقيق، ومعه قفازاتٌ وحذاءٌ متناسقان.
“لابد أن السيد دانيال هو من أرسلها! يبدو أنه يودّ رؤية الليدي وهي ترتديها.”
لم تُجب كيسا، بل انتزعت مظروف الرسالة المرفقة بالصندوق بحدة ومزّقته دون تروٍّ.
“أوه، سيدتي! استخدمي سكين الأوراق على الأقل!”
تجاهلت ملاحظات مربيتها وبدأت تقرأ الرسالة. كانت قصيرة للغاية:
“عزيزتي كيسا، لقد اقترب موسم حفل البارون هافرتس الخيري ككل عام. أرسلت لك بعض ما يناسبك، فأتمنى أن ترتديها وتُظهري جمالك كما يليق بكِ.
من خطيبك المحبّ، دانيال.”
ملاحظة:
لعلّك ما تزالين غاضبة لما حدث في ذلك الوقت؟ لا بأس، فذلك الوجه الغاضب لطيفٌ أيضًا، لكنّي أحبّ وجهك حين تبتسمين أكثر.
صرّت أسنانها بشدّة. يا له من مجنونٍ وقح!
بل إنّ كلمة “وقح” لا تكفي لوصفه. كيف يمكن لإنسان أن يكون بهذا القدر من التبجّح؟
كان حفل البارون هافرتس الخيري يفرض اصطحاب شريك بالضرورة، وكانت كيسا تحضر هذا الحفل كل عام منذ بضع سنين برفقة دانيال، إذ كانت زوجة البارون هافرتس عمّته.
بمعنى آخر، فإنّ دانيال الذي كان يتجاهل خطيبته طوال الوقت، تذكّرها الآن فقط حين احتاج إليها، وكأنّ شيئًا لم يكن بينهما من خلاف.
أتظنّ أنّني سأذهب؟
قبضت كيسا على رسالة دانيال المقيتة وجعدتها، ثمّ أشارت إلى الصندوق الذي يحتوي على الفستان وهي تلتفت إلى مربّيتها.
“تخلّصي منه.”
شهقت المربية.
“ماذا؟! لِمَ ترمينه؟ إنه فستانٌ رائع!”
“لا يعجبني.”
“كيف لا يعجبك؟ سيدتي، أنتِ تحبين هذا الطراز من الفساتين عادةً! يبدو أنّ السيد دانيال اختار لكِ بعناية.”
“… لم أكن أرتديها لأنّني أحبّها.”
بل لأنها كانت تُرضي دانيال. كانت ترتدي ما يحبّه هو، لتبدو جميلة في عينيه.
“حقًّا؟ حسنًا، حتى لو كان الأمر كذلك، لا يمكننا رمي فستان جميل كهذا. سأضعه في غرفة الملابس، وإن غيّرتِ رأيكِ لاحقًا، جرّبيه.”
قالت المربية ذلك، وحملت الصندوق بين ذراعيها وغادرت الغرفة، متجاهلةً أمر سيدتها تمامًا.
صحيح، لم يكن ذلك غريبًا. رغم أنّ المربية كانت بمثابة أمّ ثانية لكيسا، إلا أنّها في النهاية تبقى خادمة تابعة للكونت فانسفيلت، عيّنها الكونت ويدفع لها أجرها.
أدركت كيسا مجددًا أنه لا أحد في هذا القصر يضعها فوق مصالح الكونت نفسه. جلست على السرير منهكةً تمامًا.
في تلك الأيّام، لم تكن كيسا قد عرفت بعد مضمون الخبر الذي حمله سكرتير والدها في ذلك اليوم المشؤوم، وبسبب تكتّم مربيتها، لم تستطع حتى التخلّص من الفستان.
وذات يوم، بينما كانت عائدة من نزهتها في الحديقة الخلفية، وقعت عيناها على عربة توقفت عند بوابة القصر الأمامية.
كانت عربة سوداء فخمة لا يظهر عليها شعار العائلة، لكنها لا تشبه بأيّ حال عربات العمّال أو المورّدين الذين يجلبون المؤن إلى المنزل. بدا واضحًا أنّ أحد ضيوف الكونت قد وصل.
لم يكن أمر زيارة الضيوف نادرًا أو مريبًا، إذ لم يكن الكونت يُعلمها دائمًا بقدومهم.
لكن لسببٍ ما، شعرت كيسا بقلقٍ غامض تجاه ذلك الزائر المجهول.
من غير وعي منها، وجّهت خطواتها نحو مكتب والدها، حيث من المحتمل أن يكون يستقبل ضيفه. وهناك، التقت بالرجل الذي كان يتسكّع أمام الباب — سكرتير الكونت.
“آه، ليدي كيسا.”
لمحها السكرتير للحظة، فتجمّد وجهه بارتباك واضح. شعرت كيسا في الحال أن الزائر خلف ذلك الباب له علاقةٌ بها بطريقة أو بأخرى.
“الكونت يستقبل الآن ضيفًا، لذا—”
“من يكون؟”
“عفوًا؟”
“قلت: من الزائر؟ هل هو شخص أعرفه؟”
“عذرًا، لأسباب تتعلّق بالعمل لا أستطيع أن أصرّح بذلك…”
لكن قبل أن يُكمل جملته، اقتربت كيسا من الباب، وبدأت تسمع خفوتًا لأصوات تتبادل الحديث من الداخل.
كان صوت الكونت هو الأعلى، وقد سمعت بوضوح أنه ذكر اسمها. كان يقول إنّ كيسا لديها بالفعل خطيبٌ محدّد.
ثمّ ردّ عليه الزائر بشيء، لكن صوته الهادئ جعل من الصعب تمييز كلماته. ومع ذلك، بدا مألوفًا بطريقة غريبة، كأنها سمعته من قبل.
“سيدتي، هذا تصرّفٌ لا يليق، أرجوكِ.”
حاول السكرتير منعها حين ألصقت أذنها بالباب أكثر لتصغي.
“انتظر قليلًا فقط.”
“ارجعي إلى غرفتكِ فورًا، وإلا سأضطر لإبلاغ الكونت.”
“أهذا تهديد؟”
وبينما كانت تتجادل معه، حدث ما لم تتوقّعه — الباب انفتح فجأة، ففقدت توازنها وكادت تسقط أرضًا.
لكنها لم تصطدم بالأرض؛ فقد أمسكها أحدهم من الداخل قبل أن تقع.
كانت ذراعاه قويتان، تشدّانها من كتفيها، ومنه ينبعث عطرٌ منعش يشبه رائحة الحمضيات. رائحةٌ مألوفة على نحوٍ غريب.
“أوه… هل أنتِ بخير؟”
رفعت كيسا رأسها ببطء لتواجه صاحب العطر. كانتا عيناها الزرقاوتان ترتجفان بعنف غير مسبوق.
“هل أصبتِ بأذى؟”
كان صوته هادئًا نبيلاً وهو يتفقد حالها — صوتٌ تعرفه جيدًا، لأنها التقته منذ مدةٍ وجيزة في المكتبة.
كان ساييرد.
لكن… ما الذي يفعله هنا؟
“كيسا!”
خلف كتف ساييرد، ظهر وجه الكونت فانسفيلت الغاضب. كانت نظراته حادّة كالسيف.
“أتراكِ كنتِ تتنصّتين على حديثنا؟!”
لكن قبل أن ينفجر غضبًا، تدخّل ساييرد قائلاً بهدوءٍ وسلاسة:
“سيدي الكونت، أيمكن أن تمنحني شرف تقديم نفسي إلى السيدة؟”
“… آه، نعم.”
على نحوٍ غريب، خمد غضب الكونت فجأة.
أمسك ساييرد بيد كيسا المرتبكة ورفعها بخفةٍ إلى شفتيه، ليضع قبلة خفيفة بالكاد لامست بشرتها.
“تشرفتُ بلقائكِ، ليدي كيسا فانسفيلت.”
رفع عينيه بابتسامة دافئة وأكمَل:
“أنا ساييرد هيلان.”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 14"