والتفكير في الأمر جعل كيسا تدرك أنها كانت تشعر منذ قليل باضطراب غريب يسود المكان. لم يكن مجرد ضجيج سببه ازدحام الزوار، بل إحساسٌ مختلف تمامًا.
حين أصغت جيدًا، خُيّل إليها أنها تسمع من ينادي بلفظٍ مهيب: “يا صاحب السمو الدوق”.
“ماذا؟ دوق هيلان؟ الأخ الأصغر؟”
اتسعت عينا الرجل الذي كان يضايق كيسا، بينما أومأ أحد مرافقيه بعنف مؤكدًا.
“نعم، التوأم. يُقال إنهما متشابهان لدرجة لا تُصدق. الجميع يُلقي التحية الآن، فلنذهب بسرعة!”
كان في عيني الرجل ترددٌ واضح، إذ نظر إلى كيسا ثم إلى رفاقه بالتناوب.
“تشرفتُ بلقائكِ، ليدي فانسفيلت. آمل أن أستضيفكِ في مكانٍ أفضل في المرة القادمة.”
وبعد لحظةٍ قصيرة من الحيرة، حسم أمره وانحنى بتحية متسرعة قبل أن يهرع للحاق برفاقه. لعله كان متضايقًا لتفويت هذه الفرصة، لكن رغبته في الظهور أمام الدوق الجديد كانت أقوى.
كان ذلك من حسن حظ كيسا؛ لم تكن تتوقع أن يُنقذها من الموقف وجودُ الدوق هيلان الغامض، الذي كانت الأقاويل حوله أكثر من الحقائق.
لم يكن يُعرف السبب الذي جعله يظهر في هذا المكان بعد أن اعتاد تجنّب كل المناسبات الرسمية، لكنها في الحقيقة لم تهتم كثيرًا.
فإن كان يشبه شقيقه إلى هذا الحد، فلا شك أنه من النوع الذي يصعب عليها أن تُطيقه.
نظرت سريعًا إلى المنطقة المكتظة بالناس. لا بد أن الدوق هناك في الوسط، لكنها لم تستطع رؤيته بسبب الحشد.
من دون تضييع وقتٍ إضافي، اتجهت نحو الدرج، مستغلة انشغال أنظار الجميع لتتسلل إلى داخل القاعة.
“أوه، هنا مقعدان!”
تمتمت كيسا وهي تدخل إلى القسم المخصص لها في الشرفة بالطابق الثاني. كانت المساحة رحبة، ولا يوجد فيها سوى مقعدين اثنين.
من الواضح أن سعر هذه المقاعد مرتفع للغاية، ناهيك عن موقعها الذي يطل مباشرة على المسرح.
أن يملك شخصٌ مثل ساييرد القدرة على حجز مقعدين كهذين… فلا بد أنه من عائلة ثرية حقًا.
كانت قد ظنت سابقًا أنه ربما ليس ميسور الحال، لأنه يستعير الكتب من المكتبة العامة، لكنها كانت مخطئة على ما يبدو.
والآن بعد التفكير، لم تسمع شيئًا عن عائلة ساييرد أصلاً.
كل ما تعرفه أنه وُلد في العاصمة، ثم انتقل إلى منطقةٍ أخرى قبل بلوغه سن المراهقة، وعاد مؤخرًا إلى المدينة.
كانت قد سمعت منه بعض التفاصيل البسيطة في ذلك اليوم، لكنها لم تحصل على أي معلومةٍ تُمكّنها من تخمين أصله أو طبقته الاجتماعية.
لا شك أنه امتنع عن ذكر ذلك مراعاةً لها، لأنها أيضًا لم تفصح عن اسم عائلتها. يا له من رجلٍ لطيف… لو أن دانيال يشبهه ولو بالنصف فقط.
ارتجفت كيسا فور أن أدركت ما فكرت به، وهزت رأسها بقوة لتُبعد هذه الفكرة الغريبة.
فهي التي رفضت اقتراحه بالزواج — وإن لم يكن عرضًا رسميًا — فكيف تفكر بمقارنته بدانيال الآن؟
لم ترغب أصلاً في تذكر ذلك الرجل الوقح في يومٍ خُصّص للراحة.
اقترب موعد بدء عرض الأوبرا، فالتقطت منظار الأوبرا الذي جلبته معها. اليوم لن أدع الأفكار المزعجة تفسد عليّ الاستمتاع بالمسرحية.
كان العرض يفوق التوقعات في روعته.
“قلعة اللورد” — كما يوحي العنوان — تدور أحداثه في قصرٍ خيالي لأحد اللوردات، وتحكي قصة حب بين الحاكم القاسي الذكي والمرأة الأسيرة التي تقع في قبضته.
تمامًا كما قالت إحدى السيدات في حفلة الشاي، كانت أداءات المغنين دقيقة ومعبّرة، والعزف الأوركسترالي في مستوى رفيع.
لكن الأجمل كان موضوع العمل ذاته: معنى الحب الحقيقي، الذي أثار في نفس كيسا مشاعر شتى.
لكن النهاية… لم تستطع تقبّلها تمامًا.
خرجت من القاعة وهي لا تزال غارقة في أجواء العرض، إلا أن ملامحها ما لبثت أن تعكّرت حين رأت الحشود المتجمعة مجددًا في مكانٍ واحد كما في السابق. يا له من دوقٍ محبوب فعلًا.
“سيدتي! أنا هنا!”
وبينما كانت تتساءل عن كيفية مغادرة المكان، لمحت مارشا، التي كانت بانتظارها بالخارج، تركض نحوها وقد عقدت حاجبيها.
“الناس كثيرون جدًا، سيدتي. من الأفضل أن نغادر سريعًا قبل أن تنخرطي وسطهم دون قصد.”
“ن-نعم.”
سمحت كيسا لمارشا بأن تقودها إلى الخارج، ثم ركبت العربة.
ومن نافذتها، نظرت إلى دار الأوبرا التي تبتعد تدريجيًا مع سير العربة، وشعرت بغصّةٍ صغيرة في قلبها.
في النهاية… لم تلتقِ به، ساييرد.
كانت تأمل أن تصادفه بعد العرض، لكن الأمر بدا مستحيلًا.
لم يكن بوسعها رفض يد مارشا لتبقى هناك؛ فربما ظهر ذلك الرجل المزعج مجددًا وأصرّ على الحديث معها، ولن يتركها قبل أن ينتزع وعدًا بلقاءٍ جديد، وهو ما كانت تكرهه بشدة.
ومع ذلك، كانت تتمنى لو سنحت لها فرصة لقاء ساييرد لتتبادل معه الحديث حول العرض.
كانت تريد أن تسأله تحديدًا عن النهاية التي وجدتها غير مقنعة.
ترى، ما رأيه؟ كيف شعر وهو يشاهدها؟
ذلك الرجل الذي كان يشرح لها بلطفٍ كل سؤال يخطر ببالها عندما كانت تقرأ نظرية الملكية — ماذا عساه يقول عن هذه المسرحية؟
حسنًا، لا بأس.
قالت في نفسها مطمئنةً: سأتحدث معه عنها في المرة القادمة.
لكنها ما لبثت أن أدركت شيئًا مهمًا — هل ستكون هناك “مرة قادمة” أصلًا؟
فهي لا تعرف حتى ما هو لقبه، ولا أين يسكن، ولا متى يزور المكتبة.
وحين استرجعت آخر لقاءٍ بينهما، أدركت أنهما لم يتواعدا على لقاءٍ جديد.
فخلال نزهتهما، كانت مشغولة بعرض الزواج المفاجئ، وعندما عادا إلى قاعة القراءة، انشغل كلٌّ منهما بدوره كقارئ ملتزم بصمت المكتبة.
ثم تفرّقا بعد أن تلقّت تذكرة الأوبرا كهدية.
إذا حالفها الحظ، فقد تلتقي ساييرد مجددًا في المكتبة، غير أنّ تردّدها المستمر على مكانٍ لم تكن تقصده عادةً سيُثير شكوك الكونت عاجلاً أم آجلًا.
ومع رقابة الكونت الصارمة، فإن الخروج خلسةً يكاد يكون مستحيلاً، أما أن تصادف ساييرد مصادفة حسنة فذاك أقرب إلى المعجزة.
“……ألن أراه مجددًا؟”
كان الحماس الذي ملأ صدرها قبل قليل إثر الأوبرا يتلاشى بمرارةٍ تدريجيًّا.
وبعد مرور أربعة أيام على عرض الأوبرا، استُدعيت كيسا إلى مكتب الكونت. ظنّت أنه سيوبّخها على ذهابها إلى المكتبة، لكنّ الكونت فانسفيلت نطق بكلماتٍ غير متوقّعة:
“هل تشاجرتِ مع ابنة الكونت دوس؟”
منذ ذلك الحين، أرسلت ميليسا رسالتين أو ثلاثًا، لكنها لم تردّ على أيٍّ منها.
“ولِمَ تسأل، يا أبي؟”
رفع الكونت نظره عن الأوراق على مكتبه، ونظر إلى ابنته التي أجابت بسؤال مقابل لسؤاله.
“ذهبتُ أمس إلى منزل الكونت دوس لأمر ما، فقالت لي ابنته إنها أغضبتك لأنها لم تكن كافيةَ اللطف والحرص، وإنها تودّ إصلاح علاقتكما، لكنها لم تتلقَّ منك أيّ ردٍّ على رسائلها. هل هذا صحيح؟”
“……صحيح أنني ابتعدتُ عن ميليسا في الآونة الأخيرة.”
“تصالحا.”
لم يقل أكثر من ذلك، لا زيادةً ولا نقصانًا؛ جوابٌ بالغ البساطة لا يتضمّن حتى سؤالاً عن سبب الخلاف. كانت كيسا، في العادة، تطيع والدها طاعةً عمياء في شؤون علاقاتها الاجتماعية، لكنها هذه المرّة لم تفعل.
“آسفة يا أبي، لا أستطيع.”
ظهر خطٌّ دقيق على جبين الكونت.
“ولِمَ لا؟”
“لقد ارتكبت ميليسا خطأً لا أستطيع التسامح معه، وحتى في رسائلها لم أرَ اعتذارًا صادقًا، بل مجرد تبريرات. ما دامت لا تنوي التغيّر، فلن أعود للتقرّب منها أبدًا.”
تنفّس الكونت بعمق ونزع نظارته التي لا يضعها إلا عند قراءة الوثائق.
“ألا تعلمين أن عائلتنا على علاقةٍ وثيقةٍ بعائلة دوس منذ أجيال؟”
“حتى لو ساءت علاقتي بميليسا، فلن تسوء علاقة العائلتين، أليس كذلك؟ يمكن لجوليان أن يبقى صديقًا لأختها الصغرى بدلاً مني.”
قطّب الكونت حاجبيه بوضوح حين سمع اسم ابنه الذي يدرس في الجامعة خارج المدينة.
“لو كنتِ أيضًا على علاقةٍ طيبةٍ بها، لكان ذلك أفضل في توطيد الروابط بيننا.”
“آسفة يا أبي، لا أستطيع.”
“ولمَ لا؟ إنها مسألة بسيطة، لو أنكِ فقط تغضّين الطرف هذه المرة.”
“إن فعلتُ ذلك، فسترتكب ميليسا الخطأ ذاته مجددًا. أنا أعرفها.”
“أتظنين أنني سأظل أتحمّل تلميحات اللوم من الكونت دوس وابنته؟”
“سأتكفّل أنا بإبلاغ ميليسا ألا تُقحمك في شؤوننا الخاصة.”
“كيسا!”
انفجر صوته أخيرًا.
“ألم تعودي طفلة بعد الآن! إلى متى ستضجّين لأمورٍ تافهة؟!”
لكن بالنسبة إليها، لم يكن الأمر تافهًا البتة. ولهذا شعرت بغصّةٍ رغم أنها تعرف برودة طبع والدها منذ زمن.
“يبدو أنكَ غير مهتمٍّ حتى بمعرفة السبب الحقيقي لخلافي مع ميليسا، أليس كذلك؟”
“أتُحمّلينني اللوم الآن؟ لقد كبرتِ بما يكفي، فلمَ تتصرّفين كالأطفال؟”
“الابتعاد عن صديقٍ أمرٌ يحدث للكبار أيضًا، يا أبي.”
“لا تتحدثي بوقاحة! أقولها لكِ للمرة الأخيرة، تصالحي مع ابنة الكونت دوس فورًا.”
“آسفة يا أبي، لا أستطيع.”
“أنتِ حقًّا…….”
كان الكونت يزفر غاضبًا من ابنته التي لا تقول سوى الجملة ذاتها كالببغاء، حين سُمع طَرقٌ سريعٌ على الباب من الخارج.
التعليقات لهذا الفصل " 13"