في تلك اللحظة، لم تصدّق كيسا أذنيها. شعرت وكأن كلمات مذهلة خرجت للتوّ من فم ساييرد، لكنها تساءلت إن كانت قد أخطأت السمع.
“عذرًا… ماذا قلتَ الآن؟”
غير أن ساييرد أعاد الجملة نفسها دون أن يغيّر تعابير وجهه قيد أنملة.
“هل تتزوجينني؟”
يا إلهي… ما الذي يقوله هذا الرجل؟
ولأنه شعر ربما أن كلامه غامض، أوضح مقصده بمزيدٍ من التفصيل.
“لا أقصد زواجًا عاديًا.”
“إذن ماذا تقصد؟”
“أنتِ تريدين الهروب من زواجٍ وشيك، وأنا كذلك.”
“صحيح.”
“منذ زمنٍ بعيد، كان هناك حلٌّ تقليديٌّ يتّبعه من يقعون في مثل هذا الموقف.”
“لا يمكن أن تكون تقصد…”
“نعم، أن يسبق المرء بخطوة ويتزوج شخصًا آخر. آه، هل خطر ببالك الآن؟ أنك لا ترين فرقًا بين زواجٍ متسرّع كهذا وزواج مفروض لا ترغبين به؟”
لم يكن ذلك بعيدًا عن تفكيرها فعلاً. فالزواج من شخصٍ آخر كان أحد الحجج التي استخدمتها كيسا لتقنع الكونت بالعدول عن فرض الزواج عليها، لكن المشكلة أن لا أحد يملك مكانةً وشروطًا أفضل من دانيال.
“لكن يمكن تجاوز تلك السلبيات إن عقدنا اتفاقًا مسبقًا.”
“اتفاقًا؟”
“نعم، بأن نحدّد مدةً زمنيةً للزواج. وبعد انقضاء تلك المدة، يصبح كلٌّ من الطرفين حرًّا.”
“……أي أنك تتحدث عن الطلاق؟”
الطلاق؟ إنه أسوأ من فسخ الخطبة! صحيح أن هناك من خاطروا بسمعتهم وسلكوا طريق الطلاق، لكنهم لم يسلموا من نظرات الناس القاسية.
“يمكنكِ أن تقولي ذلك، نعم. وإن كانت الظروف الاجتماعية تجعل الطلاق مستحيلاً، فبوسعنا التفكير في بدائل مثل الانفصال المؤقت أو غيره.”
وبينما كان ساييرد يميل برأسه متأملاً في الأمر بجدية، أدركت كيسا متأخرة أنها تجاوزت حدود الحديث. لقد سألته أسئلة لم يكن يجدر بها طرحها أصلاً، إذ إن ما يقترحه أمرٌ لا يمكن تحقيقه.
“ساييرد، فهمت تقريبًا ما ترمي إليه.”
“حقًا؟”
“نعم، تقصد نوعًا من الزواج التعاقدي، أليس كذلك؟ سمعت عنه كثيرًا في الروايات الرومانسية. لكن هذا مستحيل.”
“ولماذا هو مستحيل؟”
“……لأن والدي لن يسمح بذلك أبدًا.”
لم يكن من السهل أن يرضى الكونت فانسفيلت بأي شخص كصهر العائلة.
حتى من مظهر ساييرد وطريقة حديثه، كان واضحًا أنه من الطبقة العليا.
لكن ذلك وحده لا يكفي. فوالدها الذي قضى عمره يحافظ على سمعته الصارمة، كان ينوي أن يبيع ابنته الجميلة بأعلى ثمنٍ ممكن.
ولم تحتج كيسا لأن تشرح أكثر؛ فقد بدا أن ساييرد فهم مقصدها تمامًا من كلماتها القليلة. وبعد لحظة صمت، قال معتذرًا
“أعتذر، يبدو أنني تمسّكتُ برأيي أكثر مما ينبغي.”
“لا تقل هذا! كان اقتراحك نابعًا من حرصك عليّ.”
“مع ذلك، أظن أنني أفزعتك قليلاً.”
“ربما قليلاً، نعم. لم أكن لأتخيل أبدًا أن ساييرد سيفكر في أمر كهذا.”
بدت عليه الحيرة وهو يمرر يده على شعره.
“في الحقيقة، كنت أبحث عن شريكة مناسبة منذ فترة، لكن الأمر صعب للغاية، فبدأت أفكر بطرق مختلفة. لا بد أن يكون للطرف الآخر ما يكسبه من الزواج بي، وإلا فلن يقبل أحد.”
أدهشها أن شخصًا جذّابًا مثله يواجه صعوبة في الزواج، لكنها سرعان ما أدركت أنه، مثلها، مقيدٌ باعتباراتٍ عائليةٍ ومكانةٍ اجتماعية.
فمن الطبيعي أن يكون عليه، مثلها تمامًا، أن يختار شريكة تناسب مكانته ونسبه. والآن، لم يعد من السهل العثور على شخصٍ غير مرتبطٍ تتوافر فيه تلك الشروط.
تأملت كيسا الرجل الجالس بجوارها بصمت. بعد أن عرفت أنه يواجه قلقًا إنسانيًا مشابهًا لقلقها، أحست نحوه بقربٍ لم تشعر به من قبل.
“ساييرد…”
“نعم، كيسا؟”
لم يتغيّر شيء فعليّ في وضعهما، لكن الجوّ بدا أخفّ وطأة بكثير. وابتسمت كيسا للمرة الأولى منذ وقتٍ طويل ابتسامةً صادقة.
“علينا أن نصمد كلانا، أليس كذلك؟ من يدري، لعلنا نجد في النهاية الشريك المناسب.”
كانت كلماتٍ بلا دليل، وربما بدت ساذجة أو غير مسؤولة، لكنها خرجت من القلب. فجاءها الرد بهدوء:
“كلامك صحيح. لا بد أن نجد في النهاية شريكنا المثالي.”
ابتسم ساييرد قليلاً، ثم أضاف بعد لحظة صمت:
“أنا… وأنتِ أيضًا.”
***
لعل من حسن الحظ أن الكونت فانسفيلت لم يعلّق بكلمة على زيارة كيسا إلى المكتبة الملكية، رغم أن مارشا لا بد أنها أبلغته بالأمر لاحقًا. ربما لأن كيسا عادت إلى المنزل في وقتٍ أبكر من المرة السابقة.
أو ربما لأن الكونت كان منشغلاً بأمر آخر: دوق هيلان الجديد الذي ورث اللقب بعد وفاة أخيه الأكبر.
مرّ ما يقارب الشهر منذ تولّيه اللقب، ومع ذلك لم يظهر في أي من تجمعات الطبقة الراقية، وهو ما أثار فضول الجميع.
دوق هيلان…
شخصٌ بهذا القدر من الأهمية لا بد أن الكونت، الذي لا تفوته أخبار الساحة السياسية، يراقبه عن كثب. أما كيسا، فلم يكن ذلك يعنيها بشيء.
فالدوق، من جهة الأخ الأصغر، لم تره قط، ومن جهة الأخ الراحل، لم يكن بينهما أي تواصل يُذكر. سمعت أنهما كانا توأمين، لكن حتى التوأم الراحل لم يكن يشارك في المجتمع الأرستقراطي إلا نادرًا.
صحيح أن كيسا التقت به مرةً أو مرتين من قبل، عندما قدّمه لها أحد الأمراء أثناء إحدى المناسبات، وتبادلا التحية، لكنها لم تتجاوزه أكثر من ذلك.
لكن في كلّ مرة كانت كيسا تتعمّد تجنّب دوق هيلان الراحل. فقد كان ذلك الرجل يملك شعرًا أحمرَ — اللون الذي كانت تُنفر منه — كما أنّ انطباعه الأوّل لم يكن جيّدًا على الإطلاق.
لعلّ ذلك هو السبب في أنّها لا تتذكّر ملامحه بوضوح.
وفجأةً، تذكّرت كيسا لقاءهما الأوّل عندما كانت أصغر سنًّا، في حفلة عيد ميلاد الأميرة أرتا.
كان فيشوك هيلان، كما وصفته الأوساط، أكثر الرجال نبلا في مظهره. باردًا، خاليًا من الرحمة.
كانت الهالة التي تحيط به تشبه إلى حدٍّ كبير تلك التي تحيط بوالدها، الكونت فانسفيلت. لذا، اكتفت كيسا بتبادل تحيّة مقتضبة معه وغادرت المكان على عجل.
لم تكن بحاجة إلى وجود شخص آخر يجعلها تشعر، لمجرّد وجوده، كما لو أنّها ارتكبت ذنبًا.
حقًّا، إنّ الحياة لماكرة. فشقيق ذلك الرجل — الذي كان خطيب الأميرة، وصاحب منزل دوقية هيلان، والمحبوب من الجميع — ورث فجأة كلّ سلطة العائلة وثروتها.
من كان ليتوقّع ذلك، قبل شهرين فقط من وفاة الدوق السابق؟
تساءل الكثيرون عمّا سيكون عليه الدوق الجديد، الذي أمضى نصف حياته في الدير.
باستثناء كيسا. فقد كانت مشغولة بما يكفي بمشاكلها الخاصّة.
“سيدتي، هل تُريدين رمي هذا؟”
“نعم.”
أومأت كيسا وهي تحدّق في الرسائل الملقاة في سلّة المهملات. كانت الرسائل مزيّنة بشرائط وأزهار مجفّفة وألوان زاهية، تختفي الآن بين القمامة.
كان قرارًا قاسيًا منها، هي التي كانت تحتفظ دائمًا بكلّ الرسائل المتبادلة مع معارفها في صندوق بريدها الخاص.
“هذه رسائل الليدي ميليسا، أليس كذلك؟”
سألت مربّيتها بنظرة قلقة وهي تعدّل ثيابها.
“ما الذي حدث؟ هل تشاجرتما حقاً؟”
“يمكنكِ قول ذلك.”
“لا أعلم ما الذي جرى، لكنّ رميكِ لرسائل كتبتها صديقتكِ بإخلاص لا يشبهكِ يا سيدتي.”
لو كان الإخلاص يعني إرسال عدّة رسائل مليئة بالأعذار وتبرير الذات بعد ارتكاب الخطأ، لما كانت المربّية مخطئة.
ومع ذلك، في كلّ مرّة تصل فيها رسالة من ميليسا، كانت كيسا تكتفي بإلقاء نظرة عابرة عليها ثمّ ترميها في سلّة القمامة.
“يا سيدتي، ما الذي جرى لكِ هذه الأيام؟ هل أصابتكِ مراهقة متأخّرة؟”
تركت كيسا مربّيتها تتنهّد بعمق، واتجهت إلى المرآة.
ارتدت فستانًا من الحرير الورديّ الفاتح، تتخلّله تطريزات دقيقة لزهور بلون أعمق.
دارت كيسا حول نفسها دورة كاملة، فأُعجبت بانعكاسها. كانت في نظرها مثاليّة.
“يا إلهي، سيدتي! تبدين رائعة الجمال!”
حتى المربّية التي كانت تتنهّد منذ لحظات، صفّقت مبهورة.
التعليقات لهذا الفصل " 12"