في لحظة، تبدّد النعاس تمامًا من عيني كيسا، فرمشت بعينيها وهي تحدّق به.
“نعم، إنّه أنا.”
ذلك الصوت الجميل الذي تتذكّره جيدًا… لم يكن حلمًا، بل كان ساييرد حقًا.
“أه، متى جئت إلى هنا؟!”
لكن عندما رأته يضع سبابته على شفتيه، تذكّرت فجأة أن هذا المكان هو مكتبة يجب التحلّي فيها بالهدوء. فسارعت كيسا إلى خفض صوتها وهي تسأله:
“منذ متى وأنت هنا؟”
أجاب ساييرد بهدوء مألوف:
“منذ عشر دقائق تقريبًا؟”
يا إلهي… كل هذا الوقت؟! رغم أنها كانت نصف نائمة، فهي لم تشعر بدخوله إطلاقًا. والأسوأ من ذلك أنّه رآها في هيئة مخجلة.
“……لماذا لم تخبرني بأنك هنا؟”
“أكان ذلك سيُريحك؟ أعتذر، بدوتِ غارقة في النوم فلم أشأ أن أزعجك.”
على ما يبدو، هو لم يظن أنها كانت تستريح، بل رآها نائمة حقًا. شعرت كيسا برغبة في أن تبتلعها الأرض، فغطّت وجهها بكلتا يديها.
“انسَ ما رأيت قبل قليل، أرجوك.”
“ولِمَ ذلك؟”
“لأنّه… مُحرج.”
“أبدًا. النعاس أمر طبيعي، إنه ظاهرة جسدية لا عيب فيها.”
لكنها كانت تعلم أن ما حدث لا يليق بسيدة من عائلة نبيلة. خصوصًا وهي التي تلقت تربية محافظة على يد الكونت فانسفيلت.
ومع ذلك، لم تعرف لم، لكن عندما قال ساييرد كلماته تلك، بدا الأمر فعلاً أقلّ إحراجًا مما ظنّت. كان ذلك غريبًا بحق.
“كنتِ تقرئين في كتاب نظرية الملكية إذن.”
قال ساييرد بصوت خافت وهو يلقي نظرة على الكتاب.
“لا أظن أنّ ما فعلتُه يُسمّى قراءة، بالكاد تجاوزت صفحتين قبل أن أغفو.”
ومن وجهة نظره، كانت مجرّد شخص استعار كتابًا بناء على توصية ثم قرأ صفحتين وغلبه النعاس. يا لها من فضيحة.
لكن ساييرد قال بلطف وهو ينظر إلى كيسا التي احمرّ وجهها:
“لا بأس. كما يُقال: البداية نصف الطريق. مجرّد أنكِ جرّبتِ شيئًا غير مألوف، فهذا بحدّ ذاته خطوة كبيرة.”
“……شكرًا على كلامك.”
إنّه شخصٌ طيّب فعلًا. حين تلقّت تشجيعها من الأميرة النبيلة، شعرت فقط بالبرودة في صدرها، لكن كلمات ساييرد هذه جعلت قلبها يدفأ.
“هل جئتَ لتقرأ أيضًا؟”
بدافع الرغبة في إطالة الحديث، ألقت كيسا سؤالًا سخيفًا جدًا. يا لغبائها، ماذا يفعل المرء في مكتبة إن لم يكن ليقرأ؟
لكن إجابته كانت غير متوقعة:
“لا، كنت أتمشى فقط لأصفّي ذهني، وانتهى بي الأمر أمام هذه المكتبة.”
“أفهم.”
لمحت في وجهه للحظة تعبيرًا متعبًا سرعان ما تلاشى، فأحسّت بشيءٍ من الألفة نحوه. حتى ساييرد، الذي بدا دائمًا قادرًا على حلّ أي مشكلة بذكائه، كان لديه هموم أيضًا… مثلها تمامًا.
“آه، كما أنّي دخلت لأراك أنتِ أيضًا.”
“ماذا؟”
“عندما رأيت المكتبة من الخارج، شعرت فجأة أنكِ قد تكونين هنا.”
“……هل تمزح؟”
“أنا جادّ.”
ابتسامته الهادئة جعلت كيسا تشعر بالارتباك.
هل… هل يحاول إغرائي؟ تساءلت في نفسها، لكنها لم تجد جوابًا واضحًا.
كانت معتادة على الإغراءات، إلى حدّ الملل تقريبًا. فلو قال ذلك رجلٌ آخر، لحكمت فورًا بأنه يحاول مغازلتها وابتعدت عنه.
لكن أسلوب ساييرد كان مختلفًا. لم تكن فيه تلك النظرات المتكلّفة أو التلميحات المبطّنة، بل كان بسيطًا وصادقًا بشكلٍ أربكها.
بعد لحظة تفكير قصيرة، قررت كيسا أن تعتبر كلماته مجرّد لطف عابر.
بل لعلها رغبة شخصية في أن يكون الأمر كذلك.
لم تعرف السبب، لكنها كانت تريد أن تبقى علاقتها به ذكرى نقية نشأت من لقاء عابر بريء.
“هل تودّين الخروج قليلًا لإستنشاق الهواء؟ سيساعدك ذلك على طرد النعاس.”
أرادت أن تصدّق أن اقتراحه هذا أيضًا بدافع المودة لا أكثر. فنظرت من النافذة التي أشار إليها وقالت بابتسامة: “حسنًا.”
غادر الاثنان المكتبة من الباب الخلفي نحو الحديقة الخلفية.
في الحقيقة، كانت كيسا ممتنّة لأن ساييرد اقترح ذلك الطريق، إذ لو خرجا من الباب الرئيسي لربما صادفتهما مارشا.
“واو، لا أحد هنا غيرنا.”
“طبيعي، فهذه الحديقة الخلفية ليست كالرئيسية، لقد أُنشئت لمجرد شكليات.”
كما قال، كانت الحديقة الخلفية صغيرة ومظللة بسبب مبنى المكتبة الذي يحجب الشمس عنها.
وفوق ذلك، كان الوقت ظهيرة يومٍ من أيام الأسبوع، والطلاب الجامعيون –وهم الروّاد الرئيسيون للمكتبة– لا يزالون في محاضراتهم، لذا كانت المكتبة شبه خالية.
“يبدو أنك تزور المكتبة الملكية كثيرًا يا ساييرد؟”
عندما سألته، مرّ على وجهه تعبير غامض وهو يلمس ذقنه.
“ليس كثيرًا في الحقيقة. لم يمضِ وقت طويل منذ جئت إلى العاصمة. حين تجوّلت فيها أول مرة، صادفت هذا المكان وأعجبني، فعُدت إليه بضع مرّات بعدها.”
“آه، إذًا لست من أبناء العاصمة؟”
“ولدتُ فيها، وقضيت فيها طفولتي، لكن لظروفٍ معينة أمضيت معظم سنوات مراهقتي في مقاطعة أخرى.”
“فهمت. لهذا ظننت أنك من هنا، فلك لهجة العاصمة الدقيقة.”
سار الاثنان جنبًا إلى جنب في الحديقة الخلفية الضيّقة، التي لم تكن مزروعة إلا بأنواع قليلة من النباتات. ومع نسمات الهواء العليلة التي هبّت عليهما، تحسّنت نفسية كيسا كثيرًا بعد أن كانت قبل ساعات فقط تشعر وكأنها تتخبّط في الوحل.
“هل عودتك إلى العاصمة كانت من أجل الالتحاق بالجامعة؟”
“للأسف، لم ألتحق بالجامعة قط.”
“ماذا؟”
عندها فقط أدركت كيسا أنها كانت تفترض من تلقاء نفسها أنه طالب جامعي.
“آسفة، يبدو أنني كنت مخطئة.”
“لا بأس، لا داعي للاعتذار. هل نجلس قليلًا هنا؟”
قادها إلى مقعد بدا وكأنه وُضع هناك لمجرّد الزينة على أطراف الحديقة الخلفية.
إذا لم يكن طالبًا، فماذا يكون إذًا؟
تردّدت في ذهن كيسا أسئلة كثيرة حول الرجل الجالس إلى جانبها، لكنها لم تجرؤ على طرحها؛ فليس من اللائق أن تسأل أحدًا عن أموره الخاصة، خاصة في علاقة سطحية كهذه.
لكن ساييرد سبقها بالحديث.
“هل لديكِ أسئلة تودّين طرحها عليّ؟”
تلاقت نظراتهما.
“يمكنكِ أن تسألي ما تشائين. ما رأيك أن نجعلها متبادلة؟ سؤالٌ واحد لكلٍّ منّا، بالعدل.”
“سؤالٌ واحد لكلٍّ منا؟”
“نعم، وإن شئتِ أكثر فلا مانع.”
“قلتَ قبل قليل إنّ لديك ما يشغلك… هل لي أن أسأل ما هو؟”
اتسعت عيناه قليلاً، وكأنه لم يتوقّع السؤال. بل حتى كيسا نفسها فوجئت بأنها نطقت به قبل أن تفكر فيه. أهذا ما يُقال عنه إن الفم سبق العقل؟
“آه، لا، ما قلتُه الآن—”
كانت تنوي التراجع عن كلامها، لكن ساييرد بادر بالجواب:
“الأمر يتعلّق بالزواج.”
ولأنّه كان نفس ما يقلقها، أصغت كيسا بانتباه أكبر دون أن تشعر. تابع ساييرد بابتسامة مريرة:
“بسبب ظروف العائلة، عليّ الزواج من امرأة لا أميل إليها أبدًا. أبحث بكل الطرق عن وسيلة أتخلّص بها من هذا الزواج، لكن الأمر أصعب مما ظننت.”
يا للغرابة… لم تتخيل كيسا أبدًا أنه يعاني المشكلة ذاتها التي تعانيها هي. كان هذا التشابه المعجز كأنه أضفى عليها شيئًا من الشجاعة، فتكلمت بحذر:
“أنا أيضًا في وضع مشابه. أُجبرتُ على زواج لا أريده.”
وبدا على ساييرد الذهول هو الآخر.
“أنتِ أيضًا؟”
“نعم، أبي رتّب لي خطبة، ولا أرى سبيلًا للهرب منها.”
“……إذن، هل كان بكاؤك يوم التقينا أول مرة له علاقة بهذا الأمر؟”
سألها بنظرة جادّة نافذة.
“في ذلك الحين قلتِ إنك كنتِ تبكين لأنك لم تفهمي مبدأ بارت، لكن بصراحة لم أقتنع أن هذا هو السبب الكامل.”
لم تستطع كيسا الردّ، فاكتفت بتحريك شفتيها بصمت.
“هذا هو سؤالي الواحد.”
شعرت فجأة أن في عينيه البنيتين الحمراوتين شيئًا من الهيبة الفطرية، هيبة الشخص الذي اعتاد أن يُطاع طيلة حياته.
“كيسا، هل تجيبينني؟”
كان ذلك أكثر طلب لإجابة تهذيبا سمعته في حياتها، ومع ذلك حمل نصفه الآخر نغمة رقيقة من الإصرار.
“نعم، صحيح. لقد قال لي خطيبي كلامًا جارحًا ذلك اليوم. واكتشفتُ أيضًا أنه كان على علاقة أوثق بامرأة أخرى أكثر مني.”
كان أمرًا يصعب تصديقه… أن تعترف بما لم تكن لتجرؤ على البوح به أمام أي أميرة أو سيدة من طبقتها. ومع ذلك، انسابت الكلمات من فمها بسهولة غريبة، وكأنها كانت تتمنى في قرارة نفسها أن يسألها أحد.
“قال لي خطيبي إنني غبية، لأنني حتى لا أفهم ما هي نظرية بارت. ومن شدّة الغيظ، قررتُ أن أقرأ عنها بنفسي… ولهذا جئتُ إلى المكتبة…”
وبينما كانت تتحدث، غمرها التأثر شيئًا فشيئًا. ومع أنها توقفت بين الحين والآخر لتلتقط أنفاسها، فإنها تابعت الكلام بلا توقف.
“لا أعرف ما الذي يجب أن أفعله. الأشخاص الذين كانوا أعزّ ما أملك ابتعدوا عني فجأة، لكن عندما أفكر بالأمر… أظن أنهم كانوا دائمًا هكذا، وأنا وحدي من توهّم غير ذلك.”
وأخيرًا، تجمّعت الدموع في عينيها. تلك الدموع التي لم تذرفها أمام دانيال ولا أمام ميليسا، ذرفتها الآن أمام رجل لم يمضِ على معرفتها به سوى وقت قصير.
وربما لهذا بالذات استطاعت البكاء أمامه.
لأن ساييرد لم يرَ فيها كيسا فانسفيلت النبيلة، بل مجرد كيسا التقته صدفة في مكتبة.
ناولها منديلا بصمت.
“لا بأس، أنا بخير.”
مدّت يدها لتُخرج منديلها الخاص حتى لا تلوّث منديلا يخصّه، لكن ساييرد أصرّ ووضع منديله في يدها بنفسه.
وعندما لامست يداه يدَيها لأول مرة، شعرت بخشونة خفيفة سببها التقرّحات والجلد المتصلّب. لم تتوقع أن يمتلك يدين كهذه بينما اعتقدت انها لن تفعل شيئا سوى تقليب صفحات الكتب.
شعرت بالحرج من رفضه، فمسحت دموعها بمنديله.
تسلّل إلى أنفها عبير البرغموت البارد الذي يملأه.
وبعد لحظات قليلة، ساد الحديقة صوت كيسا وهي تشهق أنفها برفق بعدما هدأت.
لكنّ الخجل عاد فجأة وبقوة، طاغيًا على كل شعورٍ آخر بالارتياح.
“كيسا، إذًا…”
قال ساييرد فجأة وهو يلتقي بنظراتها مباشرة:
“هل تتزوجينني؟”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 11"