عند ذلك السؤال الوقح، حدّقت كيسا في ميليسا بنظرة غاضبة.
“ألا تعلمين حقًا لماذا أنا غاضبة؟”
“هل لأنني تحدثتُ عنكِ أمام الأميرة؟”
“أحسنتِ، تمامًا.”
“لقد سمعتِ بنفسكِ ما حدث قبل قليل. لم يكن بوسعي رفض طلب الأميرة حين رغبت في معرفة الأمر.”
“لا تتذرّعي بالأميرة. أنتِ من أثرتِ فضولها أولًا، ولهذا سألت عني.”
“كل ما في الأمر أن الأميرة كانت قلقة بشأنكِ، فأردت فقط—”
“قلتُ لكِ لا تختلقي الأعذار!”
عندما علت نبرة كيسا، أغلقت ميليسا فمها أخيرًا وغيّرت ملامح وجهها. فبعد أن كانت تبدو مظلومة قبل لحظات، أصبح وجهها الآن عابسًا غاضبًا.
“ألستِ تبالغين؟ هل التحدث إلى صديقة بشأن أمر يزعجها يُعدّ مشكلة كبيرة؟”
“ماذا؟ التحدث؟”
“نعم. كنتِ متضايقة بسبب مسألة دانيال، وأردتُ أن أساعدك بطريقتي. ثم سألتني الأميرة صدفةً إن كنتما لا تزالان على ما يرام، وقالت إنها قلقة لأنك لم تراسليها كثيرًا كما في السابق.”
“لقد كنتُ مشغولة بمشكلة دانيال فقط، ولهذا قصّرت قليلًا.”
“ولهذا أخبرتها بما يحدث، لتقول شيئًا يرفع من معنوياتكِ.”
“من أجلي، تقولين؟”
أطلقت كيسا ضحكة جافة، بينما أومأت ميليسا ببرود وثقة.
“نعم، كان ذلك لأجلكِ.”
وبينما كانت تحدق فيها، اجتاح كيسا إحساس بالفراغ واليأس. كم يبدو مثيرًا للشفقة أنها اعتبرت مثل هذه الإنسانة صديقتها المقرّبة لأكثر من عشر سنوات.
“أنتِ دائمًا تقولين إنك تفعلين كل شيء لأجلي. لكن لسانكِ لا يثقل إلا عندما يتعلق الأمر بي.”
لم تكن كيسا تجهل تمامًا هذا الجانب من ميليسا. فمنذ صغرهما، كانت ميليسا تستغل أحاديث كيسا لتثير اهتمام الآخرين وتسيطر على مجريات الحديث.
ولو أنكرت أن ذلك كان يضايقها، فسيكون كذبًا. ومع ذلك، لم تحاول كيسا يومًا أن توقفها.
“صديقتي الجميلة، كيسا فانسفيلت.”
كانت ميليسا تقول ذلك في كل مرة تجعل من كيسا محور الحديث. كان الأمر يربك كيسا بعض الشيء، لكنها اعتقدت أنه نوع من الفخر بصديقتها لا أكثر.
في طفولتها، كانت كيسا شديدة الخجل، وميليسا هي التي بادرت بالتقرّب منها بلطف. لكن تبيّن أن تلك “اللطيفة” يمكن أن تستغل جمال صديقتها أو همومها لتكسب ودّ الأميرة إن لزم الأمر.
“ألستِ راضية أنتِ أيضًا؟”
قالت ميليسا بنبرة تبرير وهي تراقب كيسا التي عضّت شفتها بصمت.
“الكل يهتم لأمرك، حتى الأميرة في صفّك. لم يعد عليك أن تخافي من تصرفات دانيال الطائشة بعد الآن.”
تنهدت كيسا بمرارة، لا تكاد تصدق ما تسمع.
“ولهذا كشفتِ عيوبي على الملأ؟”
“كلمة (كشفتِ) قاسية بعض الشيء، يا فتاة. قلتُ لك، كان حديثًا عن مشكلة لا أكثر.”
“ناقشي مشاكلكِ أنتِ إذن. ولا تنشري هموم الآخرين.”
“متى نشرتُ شيئًا؟ متى أشعتُ الأخبار كما تزعمين؟”
“الناس علموا بالأمر، وسرعان ما سينتشر أكثر. (دانيال لوينز يخون خطيبته)، و(كيسا فانسفيلت عاجزة عن كسب قلب رجلها).”
حدقت ميليسا بعينين متوعدتين، وكأنها تقول: “توقفي عن قول الهراء.”
“هل تعنين أن بقية الفتيات لن يكتمن الأمر؟ لماذا لا تثقين بصديقتك؟”
“صديقة؟! أي صداقة هذه؟”
تعبير رفيقة اللعب التي ترضي الأميرة يبدو أنسب بكثير.
كلمة واحدة أطلقتها كيسا ببرود جعلت ميليسا تصرخ بدهشة:
“كيسا! كيف تقولين ذلك؟!”
نظرت إليها كيسا بهدوء، غير متأثرة بانفعالها.
كانت تعرف أن ميليسا ليست بالسذاجة التي تجعلها تصدق أن سرًا فُضح أمام جمعٍ من الناس سيبقى طي الكتمان. هي فقط لا تريد أن تُلام.
“ما بك حقًا؟ لماذا تقولين كلامًا لئيمًا كهذا؟ كنت فقط أحاول رفع معنوياتكِ…”
بدأ صوت ميليسا يرتجف، وامتلأت عيناها بالدموع، مما جعل كيسا تفقد رغبتها في مواصلة الجدال. كان الحوار معها كالتحدث إلى جدار.
لقد أخفت “من أجل كيسا” خيانة دانيال، ثم باحت بها “من أجل كيسا” أيضًا أمام الأميرة. سواء كان ذلك نتيجة لتبرير ذاتها أم لا، فقد كانت ميليسا تبدو مقتنعة تمامًا بأنها محقة.
“كفى. لا أرى فائدة في متابعة الحديث.”
“إن كان هناك سوء فهم، لنحله بالكلام.”
“لن يجدي. مجرد مضيعة للأنفاس.”
“… كما تشائين إذًا!”
أطبقت ميليسا شفتيها باستياء، ولم تجد كيسا سببًا يدفعها لمواصلة الحديث معها. وفي صمتٍ ثقيل، تابعت العربة سيرها حتى وصلت أخيرًا إلى قصر عائلة دوس.
“كيسا.”
قبل أن تترجّل من العربة، التفتت ميليسا نحو كيسا وقالت:
“أؤمن بأنه سيأتي يومٌ تدركين فيه مشاعري. ردة فعلكِ الحادة الآن، لا بد أنها بسبب ما تمرّين به مع دانيال، إذ لم يعد في قلبكِ متّسع للهدوء.”
لم تُجب كيسا بشيء. رمتها ميليسا بنظرة ضجرٍ مكتومة، ثم نزلت من العربة واتجهت إلى داخل القصر.
في طريق العودة نحو منزل عائلة فانسفيلت في المدينة، نظرت كيسا عبر نافذة العربة، وخطر ببالها فجأة: أليست ميليسا هي الابنة المثالية التي لطالما تمنّاها الكونت فانسفيلت؟
فهي لا تُطلق لسانها لتُفسد زيجات العائلات الأخرى باسم “الاهتمام بالصديقات”، وتبذل جهدها لتكون مصدر سرورٍ للأميرة.
ربما كان الكونت يأمل في أن تقتدي ابنته بميليسا، ولهذا عرّفها على ابنة صديقه وطلب منها أن تكون رفيقتها المقربة.
نعم، عند التفكير في الأمر، لم يكن لكيسا إرادة حقيقية في أن تكون صديقة لميليسا.
بل إن لقائها بداينيال وخطوبتها أيضًا تمّا بإرادة الكونت.
فهل كان شعورها نحوه مختلفًا؟ هل يمكنها القول حقًا إنها أحبّت دانيال بإرادتها؟
كان فتاً في مثل سنّها، اعتاد زيارة القصر مرارًا بدعوةٍ من الكونت، في أكثر مراحل حياتها وحدةً ووحشة.
ثم إن دانيال في ذلك الحين كان مطيعًا لأبيه، يحاول أن يُظهر لكيسا معاملة حسنة. كان طبيعيًا أن تولد في قلبها مشاعر أول حبٍّ بريء نحوه.
وحين وصلت إلى هذا التفكير، انقبض صدرها فجأة. حياتها، منذ بدايتها وحتى هذه اللحظة، كانت مرهونة بيد الكونت فانسفيلت.
ها هو الآن يتجاهل رغبتها في فسخ الخطوبة كما لو أنها لا تملك حقّ القرار.
ما دامت لا تستطيع الإفلات من قبضته، فحتماً سينتهي بها الأمر إلى الزواج من دانيال قريبًا.
لكن لسوء حظها، لم يكن بيدها أي وسيلة لتغيير مصيرها.
حدّقت كيسا بشرود في يديها الشاحبتين.
كل ما تملكه اليوم، من ممتلكاتٍ أو علاقات، إنما وُضع بين يديها بإرادة الكونت، ولا شيء منه حقًا ملكًا لها.
“لا، هذا غير صحيح…”
هناك شخصٌ واحد… شخصٌ لم تكن له أي علاقة بإرادة الكونت، التقت به مؤخرًا بالصدفة البحتة.
“توقف، توقف قليلًا!”
باندفاعٍ مفاجئ، فتحت كيسا نافذة العربة ونادت السائق بصوتٍ مرتفع. توقفت العربة على جانب الطريق، وأسرعت مارشا الجالسة على المقعد الأمامي نحو الباب، فتحته وأطلّت بوجهها القَلِق.
“ما الأمر يا آنسة؟”
“تذكرتُ شيئًا عليّ فعله. أريد الذهاب إلى المكتبة الملكية. غيّري الاتجاه.”
“عفوًا؟ الآن حالًا؟”
“نعم.”
“لكن إن تأخرتِ في العودة مثل المرة الماضية…”
“لا تقلقي، سأخرج قبل أن يتأخر الوقت.”
بدت مارشا مترددة — فلو كان الأمر في الظروف المعتادة، لاعترضت بشدة. لكنها كانت قد سمعت الجدال بين كيسا وميليسا، وتخشى أن تنالها نيران غضب سيدتها.
وفي النهاية، اختارت مسايرتها كما يبدو.
“حسنًا، كما تشائين. لكن يجب أن تعودي قبل أن يعود السيد الكونت إلى المنزل.”
وهكذا، غيّرت العربة مسارها متجهة نحو الحي الذي تقع فيه المكتبة الملكية.
دخلت كيسا قاعة القراءة الخاصة بالنبلاء — للمرة الثانية — لكنها لم تجد الرجل هناك. لم تكن تتوقع وجوده حقًا، ومع ذلك، أحست بخيبة خفيفة حين وجدت القاعة خالية كما في المرة السابقة.
“صحيح، لا أحد يُلزم طالب الكلية بالبقاء في المكتبة طوال الوقت.”
تمتمت كيسا بخفوت، ثم وضعت كتابًا على الطاولة أمامها.
نظرية الملكية — تأليف الفيلسوف بارت، الذي أوصى به ساييرد عندما التقته آخر مرة.
ومنذ ذلك الحين، رغبت في قراءته بشدة. بحثت عنه في مكتبة الكونت الخاصة، فوجدت بعض كتب بارت الأخرى، لكن هذا الكتاب تحديدًا لم يكن بينها.
ولم يكن إرسال أحدٍ لشرائه فكرة جيدة أيضًا؛ فلو وصلت أخبار طلبها إلى الكونت، لما أعجبه اهتمام ابنته المفاجئ بهذه المواضيع الفكرية.
“لا بأس، كنتُ أريد قراءة هذا الكتاب أصلًا.”
الرجل الذي قال لها كلماتٍ منحتها القوة الحقيقية… أرادت أن تراه مجددًا، لكنها جاءت في المقام الأول لتستعيد ذكرى ذلك اللقاء.
وكان ذلك وحده كافيًا لتشعر بأن أنفاسها تختفي منها قليلًا، وأن صدرها يخفّ بعد ضيق الأيام الماضية — إذ كانت تلك اللحظة في قاعة القراءة أفضل ما حدث لها في الأيام الأخيرة.
جلست في المقعد نفسه كما المرة السابقة، وفتحت كتابًا أنحف هذه المرة على الصفحة الأولى.
حقًا، بدا أن ترشيح ساييرد كان صائبًا؛ فالمفردات والتعبيرات هنا أسهل بكثير من تلك التي في مؤلفات بارت الأخرى.
بما أنني وصلت إلى هنا، فلأنهيه بالكامل.
قالت ذلك في نفسها بعزيمة، وبدأت تتبع الكلمات بعينين متحمستين.
لكن… كانت هناك عقبة.
لم تمضِ سوى صفحتين حتى بدأت جفونها تثقل.
تذكّرت أنها لم تنم ليل أمس، فقد قضته قلقة من اضطرارها للقاء ميليسا.
لا، لا يمكنني أن أغفو الآن… لا أريد أن أضيع هذه الفرصة الثمينة.
ومع ذلك، أخذ رأسها يميل شيئًا فشيئًا وهي تغالب النعاس.
الجو الدافئ المعتدل داخل المكتبة والهدوء المحيط جعلا من الصعب مقاومة النوم.
أسندت مرفقها إلى الطاولة وسندت جبينها بكفّها. لكن رؤيتها أخذت تتشوش شيئًا فشيئًا، وبدأ وعيها يتلاشى.
ثم، عندما تراخت ذراعها وسقط رأسها للأمام — آه! — أحست بقوةٍ ما تسند جبينها، مانعةً إياه من الارتطام بالطاولة.
“تبدين مرهقة جدًا، سيدتي.”
قال الرجل الجالس أمامها بابتسامةٍ هادئة.
كان ساييرد.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 10"