كانت قوة العائلة الإمبراطورية تتجلّى عبر النظرة والصوت. لم يكن يهم إن كان الهدف واعياً أم لا؛ فطالما امتلك حواساً تعمل، كان ذلك كافياً.
غاص بصري داخل عقله. إجبار شخص على الخضوع دون موافقته لم يكن مهمة سهلة. وفي الظروف العادية، كان من المستحيل أن أُخضِع بطلاً يُلقّب بكنز مملكة لوهنغرِين. لكن جسده، وعقله، وحتى جوهرة المانا خاصته، كانت جميعها في حالة خراب كامل الآن.
“هُـوو…”
حتى بعد سكب الجرعة السحرية، ظل سائل يتساقط من عينه اليسرى. ربما كانت تلك الدمعة الجسدية الشكل الوحيد من المقاومة الذي استطاع حشده. لوهلة، ظهر شعار صغير في عينه اليسرى قبل أن يختفي.
رفعت يدي عن جفنه ومسحت دموعه برفق. “انتهى الأمر الآن. لقد تحملتَ الأمر جيداً.”
ثم همست:
“أنا آسفة.”
بالتأكيد، سوف يكرهني. لكن عندما كان أكبر تهديد له هو نفسه، لم أجد وسيلة أفضل.
لأول مرة، أعطيتُه أمراً:
“ابقَى على قيد الحياة… ريغن.”
✦
ريغن هارت لوهنغرِين. الأمير الثالث لمملكة لوهنغرِين، والركيزة الأساسية لقوة التحالف الشرقي. كانت ساحة معركته الأخيرة الوادي العظيم المغطى بالثلوج. منحدرات شاهقة أطبقت عليه من كلا الجانبين، مانعةً أي هروب، وخلفه الحصن الأخير بأبوابه الحديدية المغلقة بإحكام. وهناك لقد خاض معركته الأخيرة، في مواجهة قوات الإمبراطورية.
“صاحب السمو ريغن، التعزيزات ستصل خلال يومين فقط. تحمّل ليومين رجاء انتظر فقط يومين.”
المتحدث كان أقرب أصدقائه، العبقري الاستراتيجي الذي حمى مملكتهم حتى ذلك الحين. لقد أدرك مدى خطورة الوضع، لدرجة أنه لم يستطع حتى ابتكار استراتيجية أفضل.
“هذا هو أفضل إجراء يمكننا اتخاذه في الوضع الحالي.”
“وإن صمدتُ يومين… هل لدينا فرصة؟”
“أنت تعرفني. لا أختار إلا الخيار الأفضل.”
لم يكن هناك الكثير من الفرسان القادرين على القتال. أما الجنود العاديون، فكانوا بلا قيمة تقريباً في معارك الفرسان.
قرر ريغن أن يتجه للمعركة وحيداً. لم يهمه الأمر. كأمير، كان دوماً يؤدي واجبه. عاش بإيمان أن حماية الضعفاء والمستضعفين هي دعوته. بل إن فكرة أنه لن يضطر لرؤية أحد من رفاقه يموت بجانبه جلبت له شيئاً من الراحة الغريبة.
لمدة يومين كاملين، حارب رجل واحد فيلقا بأكمله. لم تنفع عبقرية استراتيجيي الإمبراطورية ولا خططهم الماكرة. قوته الجبارة تخطت حدود التكتيك، وجعلت كل خططهم بلا جدوى.
“سفّاح لوهنغرِين!”“مُـت! اااه!”
كان يُعرف بأنه كنزٌ في مملكته، لكن الأعداء كانوا يعتبرونه شيطانًا. كأنما مدفوعًا بغريزته، لوّح بسيفه مراتٍ لا تُحصى، قاطعًا أعناق أعدائه. كزهور بريةٍ انتزعتها رياح الشتاء القارس، تساقط جنود الإمبراطورية بالعشرات. تساقط الثلوج من السماء لتكفن الجثث بردائها البارد.
البرد كان قاسياً كأنه يجمد الدم في عروقه، بينما حرارة قلبه المنهك تصهر جسده. وعندما بدأ جسده المستنزَف يعلن بلوغه حدوده، ظهرت راية عبر العاصفة الثلجية. ظنها التعزيزات. لكن حين دخلت في مجال رؤيته، تعرّف على شعار الإمبراطورية—النسر الأزرق.
وما حطّم روحه تماماً لم يكن ذلك… بل حين فتح الحصن أبوابه فجأة، دون تفسير أبوابه.
“لااا!”
لقد حارب حتى الموت دفاعًا عن تلك البوابة. والآن، كل هذا الجهد ذهب سدى.
ومن تلك البوابات، خرج شخص مقيّد بحراس الإمبراطورية – شخص اخذ من العائلة الملكية رهينةً.
“كان يجدر بك أن تموت قبل أن تشهد هذا العار، يا صاحب السمو.”
كان هذا أقرب أصدقائه. الاستراتيجي الذي وثق به أكثر من أي أحد.
“ماذا فعلت…”
“أنت تعرفني. دائماً أختار الخيار الأفضل.”
“هل… هذا هو الأفضل؟”
“أعترف أن وجهات النظر تختلف. ببساطة أنا فقط اخترتُ خياري الأفضل، لا خيارك. وخياري الأفضل الآن هو…”
انغرزت سيفه في صدر ريغن الأيمن.
“الخيانة.”
بعد أسبوع، أُعلن رسمياً موت الأمير الثالث لمملكة لوهنغرِين.
✦
حين فتح ريغن عينيه، أول ما خطر بباله: ما زالت لدي عينان أفتحهما؟ كانت إحدى عينيه سليمة تماماً، كما لو أنها لم تُصب أبداً ورؤيته حادّة كما كانت.
ادار عينيه يتفحص المكان حوله. سقف مزخرف بلوحات، ستائر فاخرة، جدران مزينة بنقوش أنيقة، مزهريات من الورود هنا وهناك. كل شيء بدا غريباً عنه.
ولأول مرة منذ زمن طويل، كانت أفكاره صافية. عذاب المعركة والتعذيب الذي تعرض له كان قد تركه هائماً بين الوعي واللاوعي. لكن الآن، عقله لم يكن فقط صافياً، بل حاداً بشكل مخيف.
بدأت ذاكرته، المبعثرة كفسيفساء مكسورة، تعود تدريجياً. الوادي العظيم، يومان من القتال، خيانة صديقه، الأسر، التعذيب، مراسم الإعدام. وعند تلك اللحظة، تساءل: لماذا أنا ما زلتُ حيّاً؟
فإبادة الدم الملكي كانت آخر خطوة في أي غزو كامل. لو كانت الإمبراطورية عاقلة، لما تركت أميراً حياً. ومع ذلك، ها هو رأسه ما زال على كتفيه.
حاول أن يتذكر كيف نجا، لكن صداعاً حاداً كقطعة جليد في دماغه أوقفه. افترض أنه أثر جانبي من التعذيب.
بصرف النظر عن أجزاء ذاكرته التي بدت وكأنها مُقطّعة، بدأت شظايا منه تعود إليه. كعبد، سُحِبَ أمام الإمبراطور، وكاحلاه مقيدتان بأغلال سجناء آخرين. تذكر بشكل غامض سماعه كلمات مثل غنائم الحرب، والهدايا، وأصوات النساء. من بينها، ذكرى واحدة برزت بوضوح أكثر من غيرها…
“أنتَ… لي.”
سرت قشعريرة في عموده الفقري كما لو أن شيئًا ما قد حفر عميقًا في جسده.
“هل استيقظت؟”
“…”
جذبه الصوت نحو ذكرياته، فالتفت برأسه. خلف ستارة شفافة، ظهرت ظلال امرأة. بخطوات رشيقة، أزاحت الستار، كاشفة عن نفسها.
ذكرته المرأة بالرمال البيضاء الجميلة التي رآها في طفولته.
امرأة ذات شعر بلاتيني طويل كالحرير يلمع كالرمال البيضاء تحت الشمس، وعيون زرقاء باهتة باردة كالثلج الذائب. هدوؤها وملامحها الخالية من الانفعال جعلتها أشبه بشاطئ شتوي أبيض. تلك كانت انطباعاته الأولى عنها.
وبمجرد أن انتهت تلك اللحظة، عاد عقله للتفكير. امرأة بهذه الجمال الفريد، وسط قلب القصر الإمبراطوري، لا بد أن تكون إما إحدى عاشقات الإمبراطور، أو واحدة من الأميرات الثماني الباقيات على قيد الحياة.
“من… أنتِ؟” خرج صوته مبحوحاً كحجر يخدش حلقه.
صبت المرأة الماء بلطف في كوباً من الكريستال وسلمته له.
ابنة الإمبراطور المجنون. لم يتفاجأ كثيراً بكلماتها، كما لم يتفاجأ بمدّها الكوب كما لو كان تحية عابرة. جلس ببطء، وارتشف قليلاً لترطيب حلقه. فصار صوته أوضح.
“أنتِ… من مُنحت له ملكيتي.”
“…لن يكون من الخطأ أن تتذكر الأمر على هذا النحو.”
كان في نبرت الأميرة شيء غريب، لكن ليس كافياً ليثير فضوله.
نهض من سريره. وعندما حرك ساقيه، لم يشعر بأي ألم. جسده كان قد تعافى تقريباً باستثناء عينه اليمنى.
ترك الكوب الفارغ على الطاولة، وأخذ يتجول في الغرفة متظاهراً بأنه يتأمل زخارفها. أما هي، فارتشفت شايها بلا مبالاة، لم تحاول منعه أو مراقبته.
“هذه أول مرة أدخل فيها جناح أميرة إمبراطورية.”
“وهذه أول مرة أجلب فيها رجلاً إلى جناحي.” قالتها ببرود لدرجة انه لم يستطع قراءة نواياها.
بموافقتها الصامته، خرج إلى الشرفة. أمامه امتدت حديقة مزخرفة ونافورة تتدفق في وسطها، وإلى يمينه قصر ضخم يُرجح أنه القصر الرئيسي.
قبض على الدرابزين، فهبت ريح باردة، تبعثر شعره الأبيض. ريح الشتاء القادمة من الوادي العظيم، حيث اراق الكثير من الدماء، ما زالت تحمل رائحة حديدية خافتة.
ظل يتأمل المشهد طويلاً. ومن الجانب، بدا وكأنه رجل أدرك لتوه أنه في قلب الإمبراطورية.
“…الطابق الثاني.”
“نعم، فقط الطابق الثاني.”
ردها السريع جعله يلتفت إليها. جلست تشرب شايها بهدوء، ولم ترفع عينيها نحوه وهي تقول:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات