1
كان حُبّي الأول محكومًا عليه بالفشل قبل أن يبدأ أصلًا لأنّه كان أميرًا من بلادٍ العدوة.
حدث ذلك حين وقعتُ في الأسر أثناء تنفيذ المرسوم الإمبراطوري الجنوني باستعادة إكسير الخلود. ظنّ العدوّ أنّهم كسبوا ورقة رابحة حين أسروا أميرةً إمبراطورية كرهينة. لكن لسوء حظهم، الأميرة التي قبضوا عليها لم تكن سوى الأميرة السادسة والثلاثين من بنات الإمبراطور عديمة القيمة، لا وزن لها كرهينة.
فالإمبراطور كان قد اجتاح العالم ليستحوذ على أجمل نسائه، يملأ حريمه بعشرات النساء كل ليلة. ومع وجود أكثر من ألف عشيقة، تجاوز عدد الأبناء منذ زمن بعيد المئة. لم يكن ثمّة سببٌ لاهتمامه بأسيرة لا قيمة لها، فضلًا عن كونها ابنة الطاغية الذي أشعل فتيل الحرب.
حبسني الأعداء في قفصٍ حديدي، يعذّبونني بالتهديدات القاسية والحرب النفسية. والأدهى من ذلك أنّهم لم يمنحوني قطرة ماء. ظننتُ أنّ نهايتي قد حانت. ملقاة على الأرض القذرة، أترنّح من الجوع، انتظرتُ الموت كخاتمةٍ محتومة.
ثم، في ليلةٍ يغمرها ضوء القمر الكامل، ظهر أمامي فتى بشَعرٍ أسود كالليل. قرّب قربة ماء من شفتيَّ اليابستين، ومزّق الخبز إلى لقمٍ صغيرة، يطعمُني بها كما لو كان يطعم نفسه.
علمتُ فورًا أنّه كان يخالف القوانين العسكريّة بإنقاذه لي. فلم أنبس بكلمة، ولم أحرّك ساكنًا سوى أنفاسي المتقطّعة، واكتفيتُ بقبول الطعام في صمت. واستمرّت تلك الليالي السرّية زمنًا.
وفي إحدى الأمسيات، تمتمتُ وأنا أترقّبه كطائرٍ في قفص ينتظر طعامه: “قد أُروَّض هكذا.”
تجمّد مكانه. ولعلّها كانت المرة الأولى التي أحدّثه فيها. والمفاجأة أنّه أجاب.
“ماذا تعنين؟”
“كما سمعت. أشعر وكأنني أُربَّى.”
“لا وجود للعبودية في هذه المملكة.”
“أعلم. فذلك المتوحّش لا يوجد إلا في الإمبراطورية.”
سكت كلاهما لحظةً طويلة، صمتٌ ثقيل كأنّه الفراق الأول والأخير. لكن الفتى بدا راغبًا بالحديث أكثر مما توقعت.
“ولماذا أصبحتِ رهينة؟”
“وهل كان لي خيار؟”
“كان لديكِ خيار. كان بإمكانكِ أن تتخذي جنودك دروعًا لتحمي نفسك. لكنكِ استسلمتِ لتُنقذيهم.”
رمقني بعينين ذهبيتين كالشمس الطالعة، نظرة حملت صدقًا جعلتني أجيبه بالحقيقة. لقد أبقاني حيّة، وكان يستحق صدقي.
“إن كنتُ سأموت هنا في النهاية، رأيتُ أن الموت بشرف خير من العيش بعد أن أُضحّي بغيري. فأنا منذ مولدي أحمل خطيئة الدم الذي ورثته من الطاغية.”
ارتجف فمه لحظةً كمن صُدم بجرأتي، ووجدتُ نفسي أحدّق في ملامحه. كان وسيماً على نحوٍ يسرق الأنفاس. جماله لم يكن لأنّه أنقذني فحسب، بل جمالٌ مطلق لا يُنكَر.
قال أخيرًا، وصوته يحمل فضولًا خالصًا: “أيتها الأميرة، أأنتِ تعيشين بعزمٍ على الموت؟ أم أنّكِ تسعين للموت عمدًا؟”
“بل تخطئ فهمي. أنا أخاف الموت… لكنني اخترت ألا أتعلّق بالحياة بجنون.”
“وما معنى ذلك؟”
“كلما ازداد شغفك بشيء، ازدادت مؤامرة العالم لحرمانك منه. لذلك قررتُ ألّا أشتاق إلى الحياة.”
كلماتي هزّته، فأبدى امتعاضًا زاد ملامحه وسامة. ثم قال بمرارة: “سمعت أنّ الإمبراطور يعامل أبناءه كدمى رخيصة… يبدو أنّه حقًا كذلك.”
وما لبث أن أطرق نحو سيفه عند خاصرته.
“أيتها الأميرة.”
“نعم؟”
“أنتِ بلا قيمة كرهينة. فالإمبراطور، من بين أولاده الذين لا يُحصَون، لن يشعر يومًا بعاطفة نحوك.”
تساءلتُ في رُوعي: أهو ينوي قتلي لأنني بلا قيمة؟ لكن حين قبض على سيفه وأغمضتُ عيني، لم يأتِ الألم. إنما قَطع الحبل الذي كان يشد قدميّ.
مدّ يده إليّ رافعًا جسدي الهزيل: “اتبعيني.”
هربنا في الظلال متجنّبين الحرس، حتى تحوّلت خطانا إلى هرولة. ومع ابتعاد عن الاضواء، لم أعد أرى سوى ظهره العريض المستقيم، وأصابعه الممسكة بيدي تقودني في عتمة الغابة.
“لقد اقتربنا.”
وبعد عناء، بلغنا سهلاً بعيدًا عن معسكر المملكة. كان الفجر الوليد ملبّدًا بالغيوم، قاتمًا كقدري، أنا الأميرة السادسة والثلاثين.
عند حافة السهل، ساعدني على النزول عبر منحدر صخري متداعٍ، ممسكًا بيدي كما لو أنّه يرافق سيدة لا رهينة. أحسست أنّها لحظة الوداع الأخيرة. فقلت وأنا أخطو: “ما اسمك، أيها الفارس؟”
“مجرد فارس عادي… لا يستحق اسمي الذكر.”
كذب. فقد كنت أعلم من يكون. إنّه الأمير الثالث لمملكة لوهينغرين. لم يكن حسن الطلعة وحسب، بل كان بارعًا في القتال، نبيلاً في خلقه، محبوبًا من شعبه. سمعته قد بلغت آفاق الإمبراطورية ذاتها.
وهو الذي قتل التنّين البحري وهو في الثانية عشرة، وهزم سيد الأشباح عند الجسر العظيم وهو في الرابعة عشرة، واليوم يصدّ وحده آلاف الجنود الإمبراطوريين عن مملكته. لقد كان جوهرة لوهينغرين الأثمن، وبطلها المتألّق.
لكن بما أنّه أراد إخفاء هويته، غيّرتُ الموضوع: “أمتأكّد أنّه لا بأس بتركي؟ ألا يُعاقب القانون العسكري؟”
“سأكون بخير.”
كذب آخر. فالقانون العسكري في كل الممالك واحد: من يعين العدو يُعاقَب، ولو كان أميرًا محبوبًا.
“ولماذا تُبقيني حيّة إذن؟”
ابتسم ابتسامة غامضة وقال: “لو جعلتني أُفكّر عميقًا في ذلك الآن، قد أغيّر رأيي.”
“إن حدث، فلتفعلها بسرعة… وبلا ألم.”
ضغط على يدي لحظة ثم أفلتها تحذير مبطّن.
ثم التفت إليّ فجأة، عيناه تلمعان بالفضول: “كم عمركِ يا أميرة؟”
“كبيرة بما يكفي… لأدرك ما يلزمني إدراكه.”
تمتم مستنكرًا: “تبدين صغيرة جدًّا.”
فقلت ببرود: “أغلب إخوتي ماتوا قبل بلوغ العاشرة. أما أنا، فعشتُ ما يكفي لأرعى نفسي.”
قال بمرارة: “العائلة الإمبراطورية… مجنونه.”
ثم توقّف، استدار نحوي، رفع يده الكبيرة نحو وجهي. ارتجفتُ من الحركة المفاجئة، لكن بدلاً من الأذى أحسست بلمسة دافئة. كان يمسّد شعري.
ارتبكت، فلم أعهد من قبل مثل هذا الشعور. كأميرة، كان ينبغي أن أنهره، لكن الدفء الذي حمله لمسُه شلّ قدرتي على التفكير.
قال بصوت عميقٍ رقيق: “أنتِ تذكرينني بأختي الصغيرة.”
كلماتٌ عابرة، بلا تكلف ولا بروتوكول. فلم أجد ما أردّ به.
“إذن… لم يكن سوى سبب عاطفي.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 4 - فارسٌ مقيّد بالقيود 2025-08-28
- 3 - الغنيمة الحقيقية 2025-08-28
- 2 - الشرف المستعاد 2025-08-27
- 1 - المقدمة: حبّ محكوم عليه بالفناء 2025-08-27
التعليقات لهذا الفصل " 1"