ولتفادي البرد القارس الذي تجمّد له الأنف، لفت أون كيونغ وشاحًا سميكًا حتى أسفل أنفها، وبدأت تمشي بخطواتٍ سريعة تعبر الشارع المتجمد.
كان لا يزال أمامها متّسعٌ من الوقت قبل موعد اللقاء، لكن القلق تسرّب إلى صدرها لأن من ستقابله معروفٌ بوصوله المبكر دائمًا.
دائمًا يقول لها أن الأمر لا بأس به، و أنه يرتاح حين يصل قبلها، لكن إلى متى يمكن أن يتكرر ذلك؟
تجعد جسر أنفها في انزعاج. لم ترد أن يتكرر المشهد مجددًا، فقررت أن تخرج اليوم أبكر من المعتاد بكثير.
‘لا يمكن أن يكون قد وصل قبل الآن أيضًا، صحيح..…؟’
رفعت وتيرة خطواتها أكثر، وحين وصلت إلى المقهى الذي اتفقا على اللقاء فيه، مالت قليلًا نحو الزجاج الكبير تتفقد الداخل بعينين متلهفتين.
و لحسن الحظ، لم يكن قد وصل بعد. فابتسمت في ارتياحٍ ودخلت. واندفعت أنفاسٌ دافئة جافة تفوح من المدفأة، تتخللها نغمات الكارول المبكرة التي تسربت من باب المقهى المفتوح.
‘هل أطلب الشراب أولًا؟’
نظرت إلى الساعة سريعًا، ثم إلى زاوية المقهى وهي تفكر. غالبًا سيصل أبكر من الموعد كعادته، فلو طلبت الآن، فسيكون الشراب جاهزًا حين يدخل.
كان يطلب في كل مرة أمريكانو ساخنًا، لذا لا بأس أن تطلب له الشيء نفسه هذه المرة أيضًا.
ما إن اتخذت قرارها بسرعة وأنهت طلبها، وهمّت بإخراج بطاقتها للدفع، حتى سمعت صوتًا خلفها.
“ادفعي بهذه البطاقة من فضلكِ.”
امتدت من خلفها يدٌ كبيرة ناولت الموظفة بطاقةً قبلها بثوانٍ فقط.
“اليوم كنتِ أنتِ من وصل أولًا يا أون كيونغ.”
تجمدت في مكانها من شدة الدهشة حتى لم تستطع إخراج صوت.
و التفتت ببطء نحو مصدر الصوت، فرأت رجلاً يرفع يده ليمسح بعجلةٍ شعره المبعثر كمن جاء مسرعًا، وما إن التقت عيناه بعينيها حتى ابتسم.
بدا واضحًا أن أطراف أذنيه بدأت تحمرّ تدريجيًا، كمن انتقل لتوه من صقيع الخارج إلى دفء الداخل.
“لقد أفزعتَني حقًا.”
“آه، أعتذر.”
حين رمقتْه بعينين نصف مغمضتين ووبخته بلطفٍ لا يخلو من الدلال، سارع إلى الاعتذار.
وحين رأت ملامحه المرتبكة وكأنه لم يبتسم قبل لحظات، أطلقت أون كيونغ ضحكةً قصيرة وتذمرت مازحة.
“كنتُ أنا من سيتكفل بالدفع اليوم..…”
“لقد جعلتُكِ تنتظرين ولو للحظة، فمن الطبيعي أن أدفع أنا.”
“إذًا، لماذا كنتَ في كل المرات السابقة تسبقني بالدفع وتنتظرني؟”
عجز الرجل عن الرد، ولم يجد ما يقوله سوى أن يفتح فمه ثم يغلقه بخجل، قبل أن يشيح بنظره عنها بتوتر.
قادها بصمتٍ إلى مقعدٍ جانبي هادئ، وأجلسها في الداخل، ثم تمتم بعذرٍ واهٍ عن ذهابه لجلب المشروبات وغادر على عجل.
ظلت تحدق في ظهره برأسٍ مائل، ثم انفجرت في ضحكةٍ خفيفة. فلم يكن منطقيًا أن تكون المشروبات التي طلباها قد خرجت بهذه السرعة.
كان الرجل يتجول بالقرب من صندوق الدفع، وحين التقت عيناه بعينيها، ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خجولة بالكاد تُرى.
اتكأت بذقنها على يدها وهي تراقبه متوترًا لا يهدأ، وأغمضت عينيها ببطء.
الخريف الماضي، حين جلسا وجهًا لوجه لأول مرة وتبادلا الحديث، لم يستطع هو أيضًا إخفاء توتره الشديد.
“أنا هونغ دونغ هْيون. آه، كما تعلمين، أؤدي في المسرحية دور آرثر…..”
تذكرت بوضوح كيف كان يوشك أن يُكمل تعارفه، لكنه تدارك أن الطرف الآخر يعرفه بالفعل، فابتلع كلماته على عجل.
حتى ذلك الوجه المفعم بالحرج لا يزال مطبوعًا في ذاكرتها بوضوح، تمامًا كما هو الآن.
شعر دونغ هيون بأن نظراتها تثقل عليه، فحوّل عينيه عنها قليلًا، ثم عاد لينظر إليها من جديد.
وحين اتسعت عيناها مستفسرة، أشار نحو واجهة العرض وسألها،
“هل ترغبين ببعض الكعك أيضًا؟”
“سأتكفل أنا بذلك.”
نهضت أون كيونغ وهي تمسك ببطاقتها، وأخذت تتأمل القطع المرتبة من الكعك بعناية، ثم اختارت قطعة تشيز كيك وقطعة موس كيك ودَفعت ثمنهما.
بدا أن دونغ هيون لم يَطِبْ له الأمر لكونه لم يتمكن من الدفع، لكنه أدرك أنه لو فعل، لشعرت أون كيونغ بالحرج وربما بعدم الارتياح، ولهذا لم يمنعها.
وحين وصلت المشروبات التي كانا ينتظرانها، جلسا متقابلين يتذوقان ما أمامهما في صمتٍ لطيف، ثم بعد مضيّ بعض الوقت، بدأ الحوار بينهما ببطء.
“يبدو أننا لم نلتقِ منذ زمنٍ طويل.”
“صحيح، فكلانا كان منشغلًا بالعمل.”
“قلتِ أنكِ تعملين في الرسم، أليس كذلك؟”
أومأت أون كيونغ وهي تأخذ لقمةً كبيرة من كعكة الموس.
في الواقع، لم يمضِ وقتٌ طويل منذ أن عادت إلى العمل مجددًا. فقد مرت بأيامٍ شاقة قبل أن تتمكن من الإمساك بالقلم من جديد.
ومنذ بدأت تلتقي دونغ هيون بين حينٍ وآخر وتتبادل معه الحديث، وجدت في نفسها الشجاعة لتعود إلى العمل أخيرًا.
بدأ لقاؤهما في أواخر الربيع من هذا العام، أي أنها كانت قد ابتعدت عن العمل لفترةٍ طويلة، ومع ذلك فقد كانت تشعر بالارتياح لأن إحساسها السابق بدأ يعود إليها تدريجيًا.
ابتسم دونغ هيون ابتسامةً مشرقة، وانعكست في عينيه سعادةٌ صادقة حين سمع جوابها.
ثم تردد قليلًا وأصدر صوتًا خافتًا يشبه الأنين قبل أن يتكلم بنبرة حذرة.
“لكن…..في الحقيقة، هذا شيءٌ كنتُ أريد أن أسألكِ عنه منذ مدة.”
“ما هو؟”
“لماذا ما زلتِ تنادينني بـ(الممثل)؟”
ارتجف جسده قليلًا وكأنه يخجل من لفظ اللقب بنفسه، وثبّت نظره عليها.
لم يكن السؤال صعبًا، لكنه مع ذلك عقد لسانها فلم تستطع الرد.
ظلّت أون كيونغ تعبث بمقبض الشوكة في يدها لبرهة، ثم وضعتها بهدوءٍ على الطاولة تفكر في جوابٍ لائق.
لقد مضى أكثر من عامٍ على معرفتهما، وكان من الممكن أن يتبادلا ألقابًا أكثر ودًّا، دون تلك الرسمية الباردة.
كانت تدرك تمامًا أن من الطبيعي أن يتساءل عن سبب تمسكها بمسافةٍ لفظية بينهما. لكن كيف يمكنها أن تجيبه بأنها ببساطة لم تكن مستعدةً بعد لأن تقترب منه أكثر؟
عضّت أون كيونغ شفتها بصمت. ومع امتداد لحظة الصمت، بدأت الأجواء اللطيفة الدافئة بينهما تبرد تدريجيًا وتتحول إلى شيءٍ من التوتر.
ورغم إدراكها لذلك، لم تستطع إخراج أي كلمة، مما زادها شعورًا بالذنب نحوه والأسف على عجزها عن الرد.
“لكن، في النهاية، ليس للألقاب أهميةً كبيرة، أليس كذلك؟”
قال دونغ هيون ذلك متعمدًا أن يبدو صوته خفيفًا وهو يرفع كتفيه بلا مبالاة ظاهرة.
“كان لديّ صديقٌ مقرّب كنت أناديه بلقب (سينباي) لمدة ثلاث سنواتٍ كاملة.”
تابع كلامه بنبرةٍ بدت مازحة، لكن أون كيونغ أحست بأن صوته يحمل توترًا خفيًا.
كانت تعرف أنه ليس من النوع الذي يجيد كسر الصمت أو التحدث بخفة، لذا أدركت كم كان يحاول جاهدًا تلطيف الأجواء.
و عندما لاحظ هو أنها فهمت ذلك، سعل بخفةٍ ليخفي حرجَه.
“همم، لست معتادًا على التحدث بهذه الإطالة…..لذا لستُ متأكدًا إن كنت أوصلت ما أردت قوله جيدًا. كنت فقط أود أن أقول أنك لستِ مضطرةً لأن تشعري بالأسف تجاهي. في الواقع، لا أرى أن هناك ما يستحق الأسف أصلًا.”
ثم أضاف مبتسمًا،
“وهذا أيضًا، تناولي منه المزيد.”
ودفع نحوها طبق الكعك الخاص بها، ثم قال أنه تلقى اتصالًا واضطر لمغادرة المكان قليلًا، وغادر إلى خارج المقهى.
كانت أون كيونغ تعلم أن ذلك ليس صحيحًا؛ فمنذ التقيا، لم يخرج هاتفه من جيبه ولو مرةً واحدة.
كان واضحًا أنه أراد فقط أن يخفف من توتر الجو بينهما ويمنحها بعض الوقت لترتيب أفكارها ومشاعرها.
نظرت إلى المقعد الفارغ أمامها، ثم بدأت تقطع الكعك ببطءٍ وتضعه في فمها، تفكر في كلماته.
كان دونغ هيون حقًا رجلًا طيبًا. حتى قبل أن تتعرف إليه على الصعيد الشخصي، كانت تعرف أنه إنسانٌ جيد، فقد كان معروفًا بوفائه لعمله وإخلاصه واجتهاده في كل ما يقوم به.
أما بعد أن عرفته عن قرب، فقد اكتشفت أنه أفضل مما كانت تظن بكثير. وهكذا، وجدت نفسها دون أن تشعر، تضعه في قلبها شيئًا فشيئًا.
لم تكن تراه بصفته آرثر، ولم يكن السبب ذكرياتُها مع آرثر التي خالجتها بالمشاعر. بل كان إحساسًا تراكَم عبر سنةٍ كاملة من المواقف الصغيرة واللقاءات والحديث الصادق.
لكنها لم تملك الشجاعة لتخطو الخطوة الأولى نحوه. فقد كانت تفتقر إلى الثقة، ويكبّلها خوفٌ شديد.
كانت تملك ألف سببٍ لتحبه، لكنها لم تجد سببًا واحدًا يجعله يحبها بالمقابل.
ذلك الشك، وتلك الحيطة التي وُلدت منه، كانت تمنعها في كل مرة من التقدم نحوه.
‘ماذا لو أن المودة التي يُظهرها لم تكن موجهةً إليّ أصلًا؟’
‘أنا لست إليزابيث…..أنا شخصٌ آخر تمامًا.’
وضعت أون كيونغ الشوكة من يدها، ورفعت رأسها تنظر إلى الخارج عبر النافذة.
هناك، على الرصيف، كان دونغ هيون يمسك بهاتفه قرب أذنه متظاهرًا بالحديث بجدية مع أحدهم، لكنه التفت فجأة، فالتقت عيناهُ بعينيها، وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ محرجة مرتبكة.
لم يبدو أنه ينوي العودة إلى الداخل بعد، وكأنه شعر أن عليه أن يمنحها وقتًا أطول قليلًا.
فقطعت أون كيونغ خيط أفكارها المبعثرة، وعبست بقلقٍ خفيف. ذلك الاحمرار الذي لاح على خديه من البرد، كان يزعجها وكأنه شوكةً علقت في أصابعها.
صحيحٌ أنها بحاجة إلى وقتٍ لترتيب مشاعره، لكنها فكرت أنه ليس من اللائق أن يظل واقفًا في البرد القارس من أجل ذلك.
أصلحت ملامحها، ونهضت بهدوء، ثم خرجت من المقهى بخطواتٍ حذرة.
كانت تخشى أن تكون فعلاً تقطع عليه مكالمةً حقيقية، لكن قلقها زال سريعًا حين رأته واقفًا بصمت، و شفتيه مطبقتان دون أن ينطق بكلمة.
كان غارقًا في أفكاره، يحدق في الأرض بشرود، ثم رفع رأسه مصادفة، فوقع بصره عليها، وبدت على وجهه دهشةٌ خفيفة ممزوجة بالارتباك.
“آه، أمم، أعني..…”
“الجو بارد، ادخل بسرعة.”
وما إن دسّ الهاتف بخفة في جيب معطفه حتى ازداد احمرار خديه، ولعله لم يكن بسبب البرد فحسب.
تبعها إلى الداخل، وجلسا من جديد، لكنه ظل صامتًا لبرهة وكأن الخجل قد عقد لسانه، ثم تمتم بتلعثمٍ خفيف،
“أعني…..قبل قليل كنت قد أنهيت المكالمة للتو فقط.”
“لا داعي لتبرير نفسكَ..…”
انخفض رأسه أكثر، ولم يزد على احتساء قهوته التي كادت تبرد تمامًا.
و حين رأت أون كيونغ ذلك المنظر، لم تستطع كتم ضحكتها الصغيرة.
عبثت بكوبها قليلًا، ثم تحدّثت بصوتٍ خافت وقد خبت من نبرتها آثار الابتسام،
“شكرًا لكَ.”
ابتسم دونغ هيون بخفة عند سماعها.
وغمرهما صمتٌ مريح كأن شيئًا من الحرج السابق لم يكن، واستقر الهدوء الدافئ بينهما على الطاولة.
كان المقهى صغيرًا يقع في حيٍّ سكني هادئ، ويومها كان يوم الاثنين، كما أن الوقت لم يكن مزدحمًا عادة، فلم يكن هناك الكثير من الزبائن.
وفي تلك اللحظة القصيرة التي توقفا فيها عن الحديث، بينما كانا ينهيا ما تبقى من الكعك ويرشفان مشروبهما، التقطت أون كيونغ فجأة لحنًا مألوفًا من الموسيقى في الخلفية، لم تكن قد انتبهت إليه أثناء حديثهما.
استغربت لماذا جذبها الصوت رغم انخفاضه، فأرهفت السمع قليلًا، لتدرك أن الأغنية التي تُعزف كانت من أغانيها المفضلة.
دون قصد، بدأت تدندن بنغمتها بخفة، فالتفت إليها دونغ هيون مبتسمًا وسأل إن كانت أغنيتها المفضلة، ثم طلب منها أن تخبره بعنوانها، فعادت بينهما أجواء الحديث.
بدأ الحوار من الحديث عن الموسيقى التي يحبّانها، ثم انساب من موضوعٍ لآخر حتى ابتعد تمامًا عن الموسيقى، واستمر حتى مالت الشمس نحو الغروب، وحان وقت الوداع.
بعد أن رتبا مقعديهما وغادرا المقهى، سارا معًا بصمتٍ نحو محطة القطار، كلٌّ منهما غارقٌ في أفكاره الخاصة.
كانت أون كيونغ تشعر أنه من الأفضل قول شيءٍ ما، وكلما اقتربت لحظة الافتراق ازداد داخلها توترٌ خفيف، حتى نطقت فجأة،
“غدًا أيضًا لديكَ عرضٌ مسرحي، أليس كذلك؟”
وفور أن لفظت كلمة “عرض”، بدت لها الكلمة غريبةً وثقيلة، فأطبقت شفتيها بأسى.
كان مؤلمًا أن تدرك أن شيئًا أحبّته يومًا وعاشته كل يوم، أصبح الآن غريبًا عنها إلى هذا الحد.
_______________________
ياناس كيوتييييييين 🤏🏻 دونغ هيون طالع اهطف اكثر من ارثر نفسه😭
حلو انهم ماطروا المسرحيه الي دخلوها بس ودي اعتف هو يتذكر كل شي زيها ولا؟
المهم ليته يقولها هو اول انه يحبها هي نفسها اون كيونغ عشان ترتاح و تعترف وونشوف رخص 😭
باقي ثلاث فصول✨
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 46"