رفع أونهو رأسه نحو السماء بملامح يختلط فيها البكاء بالابتسام. بينما لامست أضواء المسرح التي انهمرت من الأعلى خصلات شعره المبتلة.
هتافات الجمهور وتصفيقهم الغامر غمرت القاعة، وأرواح الذين قتلهم في العرض عادت لتسير فوق الخشبة من جديد.
التفت إلى جانبه، فالتقت عيناه بعيني امرأةٍ ترتدي فستانًا أبيض.
كانت ترتدي ثوبًا ما تزال بقع الدم عالقةً به، و بابتسامة يملؤها خليطٌ من الراحة والحنين تعلو وجهها، وقد رمقته بنظرةٍ متسائلة. فاكتفى هو بابتسامةٍ هادئة، وكتم ما أراد قوله في صدره.
وفجأة دوّى في أذنه صوتٌ كالرعد يهدر، غير أنه أدرك على الفور أنه ليس سوى صدى وهمٍ من صنع خياله.
فمنذ الثالث عشر من أكتوبر، كلما صعد خشبة مسرح “الكابوس”، كان يسمع في كل عرضٍ دون استثناء صوت المطر الغزير وهو يضرب النوافذ.
الهواء المشبع برطوبة خانقة، ولهيب المدفأة الذي يتراقص بتهديد، والبروق التي تشقّ الظلام إربًا…..
“إدوارد.”
و بذلك النداء المرتجف الخارج من شفتي المرأة التي كانت تنظر إليه بعينين تملؤهما الخوف والعزم، كان يستفيق في كل مرة من اندماجه العميق، كما لو كان يفيق مذعورًا من كابوس.
لطالما كان يغوص بعمقٍ في أدواره فوق المسرح، لكن بعد الثالث عشر من أكتوبر، صار ذلك الغوص أشد وأقسى.
وبعد كل عرضٍ يستمر ثلاث ساعات، كان يخرج منه مستنزفًا إلى حدّ أن السير على قدميه يصبح مشقة.
ومع ذلك، كان يعلم أن بعد اليوم لن يسمع تلك الأصوات الوهمية مرة أخرى.
“مرحبًا، أنا بارك أونهو، الذي جسّد شخصية إدوارد في مسرحية <الكابوس>. يبدو أن العرض الأول من الموسم الرابع كان بالأمس فقط، وها أنا اليوم أودّعكم بعد انتهاء آخر عرض.”
انتهت المسرحية، وسرعان ما سيُفكك مشهد شوارع لندن الكئيبة المنصوبة فوق الخشبة.
“أودّ فقط أن أقول…..شكرًا من القلب..…”
وما إن انحنى رأسه حتى انهمرت عليه كلمات المديح كالمطر الغزير.
ترى كم سنةً ستنقضي قبل أن يصعد إلى الخشبة من جديد باسم “إدوارد”؟
على الأقل سيمر عامان، وربما أكثر. فهل سيتمكن حينها من التمثيل دون أن تلاحقه الهلاوس والأصوات الوهمية؟
لم يكن أونهو واثقًا من ذلك.
كلما جثت الممثلة التي تؤدي دور إليزابيث أمامه باكية، كان وجهٌ آخر يلوح أمام عينيه فوق وجهها الباكي، كأن ظلال شخصٍ آخر تنسج ملامحها على ملامحها.
وفي كل مرة كان عليه أن يتظاهر بطعنها بخنجره، كانت دموعه تنهمر دون إرادةٍ منه.
لم يكن ذلك هو إدوارد الذي اعتاد الجمهور رؤيته، بل نسخةٌ أخرى أكثر هشاشة، وكان يعلم أن هناك من سيشعر بخيبة أملٍ لذلك.
لكن الأمر كان أقوى من قدرته على التحكم. في أول عرضٍ بعد الثالث عشر من أكتوبر، بكى على الخشبة حتى تركت دموعه أثرًا واضحًا على وجهه، حتى أن الممثل الذي وقف أمامه مازحه بدهشة قائلاً أنه لم يتوقع أن يراه يبكي هكذا، غير أن أكثر من شعر بالارتباك في تلك اللحظة لم يكن أحدًا سواه.
و حين سُئل “لماذا بكيت؟” لم يجد إجابة، فاكتفى بابتسامةٍ صامتة. ثم لمح وجه “دونغ هيون” في المرآة، وفي تلك اللحظة أدرك من دون أي كلمةٍ تُقال أنه هو الآخر مرَّ بالكابوس ذاته.
لم يحتج إلى تفسير، كأن أحدهم همس له بالحقيقة في أذنه.
ربما كانت تلك النظرة في عينيه السبب. فكر أونهو بذلك وهو يتحدث عرضًا مع أحد الممثلين الآخرين.
كانت تلك نظرةً تحمل مزيجًا غريبًا من الكراهية والشفقة، كأنها عينا شخص يرى أمامه خصمه الأبدي، وفي الوقت نفسه يشفق عليه.
لم يكن ممكنًا ألّا يقرأ ما وراء تلك النظرة. ومع ذلك، رغم إدراكه لكل شيء، لم يقترب من دونغ هيون ليبوح له بما في صدره. و اكتفى بإخفاء مشاعره خلف قناعٍ هادئ، وربّت على كتفه بنبرةٍ ودّية،
“لقد تعبت كثيرًا، أحسنتَ العمل.”
تردد دونغ هيون لحظةً قصيرة، ثم استجاب للعبة الصمت، وتبادل معه التحية وكأن شيئًا لم يكن. و قد التقت نظراتهما للحظةٍ قصيرة ثم تباعدتا في صمت.
حين خرج من المسرح، كان الليل قد أرخى ستاره. فتوجّه أونهر إلى المكان الذي اعتاد فيه تبادل التحية مع الجمهور بعد كل عرض.
و كانت هناك مشاهدةٌ دائمة الحضور، لكنها اختفى منذ الثالث عشر من أكتوبر، ولم تعد تظهر بعدها.
ولن يكون صادقًا لو قال أن ذلك لم يحزنه.
بعد أن أنهى شكر الحاضرين وتهرّب مازحًا من سؤالهم عن عمله القادم، مرت أمامه صورة وجهها في ذهنه للحظة.
‘لو كنتُ أملك الشجاعة لأتصرف كما فعلتِ أنتِ، فهل كنا سنجد في النهاية طريقةً لنتعايش؟ ربما كنتِ ستعودين إلى الواقع دون أن تشعري بتلك الوحدة القاتلة….أو ذلك الخوف الرهيب.…’
لقد كرر هذا الافتراض البائس في رأسه مراتٍ لا تُحصى، لا لشيءٍ إلا لأن الندم كان ينهشه على ذنبٍ لم يقترفه هو أصلًا.
ابتسم أونهو أخيرًا، وانحنى في تحيةٍ ختامية، ثم لوّح بيده حتى آخر لحظة قبل أن يصعد إلى سيارته.
ابتعد المسرح سريعًا خلفه، وظل أونهو يحدّق من نافذة السيارة بوجهٍ يملؤه أمارات الإرهاق.
لم يكن ينظر إلى شيءٍ بعينه، بل تائهًا بين الأضواء التي تتلألأ خلف نوافذ المباني المتفاوتة الارتفاع، تمرّ أمام عينيه كخيوطٍ من الضوء تتلاشى في العتمة تاركةً خلفها أثرًا باهتًا.
عادت إلى ذاكرته تلك اللحظة القصيرة التي فرّ فيها من مارجريت غيلفورد.
من نهاية زقاقٍ ضيق لم يجد فيه مفرًّا، كان يمشي بخطًى ثابتة نحو امرأةٍ تحت مصباحٍ واهنٍ يتراقص ضوؤه، عازمًا على سلب حياتها.
وها هي قطرات المطر التي كانت تبلل عنقه، وملامح الوجه الشاحب الملتوي بالألم، تخرج من أعماق ذاكرته كفقاعاتٍ تصعد من قاعٍ مظلم.
اختفت تلك الصور سريعًا مع المباني التي لا يدري لأي غرضٍ شُيّدت، لكن الشعور الكريه الذي استيقظ معها بقي يثقل صدره ويجعل فمه جافًا.
أطلق تنهيدةً مكتومة وأدار وجهه مبتعدًا عن النافذة. و رفع رأسه نحو السقف المنخفض ثم أغمض عينيه بقوة.
إن فكرة “النهاية” وحدها كفيلةٌ بأن تجعل الإنسان شديد الحساسية. ولعل كثرة الافتراضات التي تدور في رأسه الآن سببها أن هذا اليوم كان يوم العرض الأخير.
خرج من السيارة محاولًا أن يقطع حبل أفكاره، لكنه ما لبث أن شعر بالخذلان حين أدرك أنه لم يفلح، فمسح بطرف أصابعه الزاوية الملتهبة من عينيه.
حين دخل بيته المظلم، وقف عند المدخل بلا حراك، لا يشعل ضوءًا ولا يصدر صوتًا، ثم ما إن انطفأ الضوء الشاحب الذي تسلل من الخارج حتى بدأ يمشي ببطءٍ نحو غرفة المعيشة.
لم يُضئ المصباح هناك أيضًا، فبعض الأفكار لا يمكن للإنسان أن يواجهها إلا في العتمة، حين يكون وجهه مخفيًا حتى عن نفسه.
أما عند أونهو، فكانت تلك الأفكار تتعلق دومًا بمسرحية “الكابوس”. أو بالأحرى، بالشخص الذي لم يتمكن حتى النهاية من معرفة اسمه.
كان يحتاج إلى الظلام حين يفكر فيها، رغم أنه كان قد قرر هذه الليلة أن يضع حدًا لكل ذلك.
استسلم لخياله للحظة، مغمورًا بشيءٍ من الأسى، و أخرج ببطء ما تبقّى من مشاعر لم يجرؤ على لمسها من قبل.
‘ماذا لو كانت قد ظهرت في المسرح اليوم؟ ما الذي كنت سأفعله؟’
على غير عادته، لم يطل تفكيره هذه المرة. فقد جاءت الإجابة واضحةً وسريعة، لأنها كانت الأمل الذي ظلّ يختبئ في زاويةٍ من قلبه منذ الثالث عشر من أكتوبر.
صحيحٌ أنها لم تأتِ اليوم، لكنه ظل يؤمن حتى آخر عرضٍ أنها ربما تظهر غدًا.
دفن أونهو خيبته العالقة في أعماقه، وأطلق تفكيرًا عابرًا دون اكتراث.
لو كانت الفرصة قد سنحت، لتمسّك بها بالتأكيد. لبذل جهده كي لا ينقطع الخيط الواهي الذي جمع بينهما يومًا، علّه يحافظ على بصيصٍ من الأمل ببدايةٍ جديدة، لا يدري ما شكلها بعد.
لكن الآن، “الكابوس” قد انتهى. هو، ودونغ هيون، وربما هي أيضًا، ما زالوا جميعًا عالقين في شِباك المسرحية، إلا أن الديكور انهار، والممثلين تفرّقوا، ولم يبقَ إلا أن يُدفن كل ذلك في الماضي كما يليق بالأحلام المنقضية.
قرر أن يعتبر كل ما حدث حلمًا طويلًا. فالأحلام، مهما كانت غامضة، تجعل المرء يعيش مشاعر لا يعرف سببها.
وحين أغمض عينيه من جديد، كان يتمنى أن يترك خلفه كل ما تبقّى من حنينٍ وألمٍ وذكرى، وأن يتلاشى ذلك ببطء حتى ينساه مع الزمن.
وبأنفاسٍ طويلةٍ متهادية، تحرر أونهو أخيرًا من كابوسه.
_______________________
أونهو هذا ادوارد زي منتو شايفين و دونغ هيون هذا آرثر🤏🏻
المهم ذي تُعبر اظن نهاية قصة ادوارد 😔 مره حلوه مشاعره حلوه احبه بس مايستاهل اون كيونغ😭
المهم قوه نشوف ارثر واون كيونغ✨✨✨✨
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 45"