بعد وفاة إليزابيث ريدل بتلك الطريقة، اختفى إدوارد هاميلتون من وجه العالم، في الوقت الذي فقد فيه اهتمام العامة.
كان آرثر لوزنديل، وهو يسير في الطريق، أو يعدو تحت المطر، أو يلهث باحثًا بانشغال عن خيط يقوده إلى حلٍّ لقضية ما، يجد نفسه أحيانًا غارقًا في شعور غريب كلما تذكّر تلك الحقيقة.
المدة التي قضياها في حياته لم تكن طويلة، بل لعلّ من الأدق القول أنها كانت قصيرةً للغاية، إذ لم يعرفهما سوى فصلٍ واحد فحسب.
ومع ذلك، لم يستطع نسيانها مهما مرّت السنين، أو ربما كان الأصح أنه لم يقدر على النسيان.
أشعل آرثر شمعةً أضاءت الغرفة المظلمة للحظة وجيزة، وفي تلك اللحظة عاد طيف تلك المرأة إلى ذهنه مرة أخرى.
وجهها الذي استُهلك من فرط ما استدعاه في ذاكرته حتى بات بالكاد يتذكّره.
لم يستطع حضور جنازة إليزابيث ريدل، إذ لم تكن علاقته بها تسمح بذلك.
ولو كان الأمر يُقاس بما يحمله القلب وحده، لكان أول من نثر حفنة تراب وزهرة فوق نعشها، لكنه لم يجد سبيلًا يُثبت به ذلك.
و كان يخشى أن يلطّخ سمعة الراحلة إن اعترف أن قلبه كان يحبّ امرأةً مرتبطة بغيره.
سيكون كاذبًا لو قال أنه لم يشعر بالمرارة، لكنه كان يعلم أيضًا أنه لم يكن بوسعه فعل شيء، لذا لم يكن في نفسه غصّة.
في يوم جنازتها الماطر، أوقد شمعةً واحدة تخليدًا لذكراها، واكتفى بذلك.
كان يظن أنه لن يستعيد صورتها بعد ذلك أبدًا، أو على الأقل إلا بعد مرور عقودٍ طويلة. غير أنه وجد نفسه يستحضرها أكثر مما توقّع.
تلك الصورة لظهرها المضاء بشذرات شمس متكسّرة، أو نظرتها التي التقت بنظره للحظة قبل أن تطرف عيناها بخجل وتشيح عنه، أو تلك اللحظة التي بدا فيها على وجهها إحساسٌ غامض لم يستطع تفسيره.
زفر آرثر زفرةً طويلة وهو يضع على الطاولة ورقةً بيضاء وقلمًا وزجاجة حبر، ثم جذب الكرسي وجلس، وراح يرتّب في ذهنه الجمل التي كانت تسبح في ضباب أفكاره.
كان قد أوصى فتى التوصيل الذي يجلب له الصحف بأن يأتي صباح الغد برفقة الطبيب.
لالموت كان يقف عند عتبة الباب. و لو رآه الصبي ميتًا وحده، لخاف كثيرًا.
جسد آرثر الهرم المتداعي كان متكئًا على الكرسي، وبينما كان يسترجع ما مضى من عمره، أمسك القلم أخيرًا.
غير أنه ما إن حان وقت كتابة الاسم، حتى توقف مترددًا.
بأي اسمٍ يناديها؟ ولماذا يحتار هكذا في رسالةٍ لن يراها أحد؟
ربما لأن ما يكنّه لها في قلبه لم يكن شعورًا خفيفًا.
أطبقت جفونه الواهنة مرتين على عينيه، وبعد صمتٍ طويل لم يحرّك فيه ساكنًا، وحين تقلص ضوء الشمعة حتى كاد ينطفئ، وضع سنّ القلم فوق الورق.
[لقد مرّت سنواتٌ طويلة، ومع ذلك ما زلتِ أنتِ وحدكِ باقيةٌ في الذاكرة، لم تطمسكِ طبقات الزمن.
لا أدري كيف أُعرّف ما كان بيننا، غير أني قضيتُ لياليَ طويلة ساهرًا على أفكاري بكِ، أنتِ التي لم تربطكِ بي أي علاقةٍ أو وعد.
والآن، لم يبقَ لي من يمكنني أن أترك له كلماتي الأخيرة سواكِ.
ذات يوم كانت ألسنة الناس تتناقل حكايتنا، أما الآن فقد طواها النسيان، وأنا آخر من يحتفظ بذكراكِ، وما إن أرحل، لن يبقى من يذكركِ بعدي. لهذا أظن أن الوقت قد حان لأعترف.
أحيانًا أسترجع ما مضى، وأكتب هذه الرسالة العقيمة بعد عشرات السنين إلى عنوانٍ بلا صاحب، فقط لأنني لم أقدر على الفكاك من حنيني.
وربما كنتِ تظنين ذلك منذ البداية. لقد تجرأت واحتفظت في قلبي بعاطفةٍ لا تفسرها كلمة “المودة” وحدها.
ولعلّ هذا هو السبب في أنني لم أستطع إطفاء كراهيتي لإدوارد هاميلتون حتى بعد موته.
و كم يبدو مضحكًا أن قلبي لا يزال يرفض التخلّي.]
إليزابيث.
لم يكتب آرثر الاسم على الورق، بل توقّف، ومرّر الاسم على طرف لسانه.
كان غريبًا عليه بعدما نطق به لأول مرة منذ زمنٍ بعيد، ومع ذلك شعر بنبضٍ مألوفٍ، كأن المسافة بين الماضي والحاضر لم تكن موجودةً أصلًا.
أدهشه أن مجرد اسمٍ قادرٍ على إيقاظ تلك الأحاسيس. فأغمض عينيه محاولًا أن يستحضر ابتسامتها، لكن ذاكرته خذلته، فخفض رأسه خيبةً.
لم يستطع تذكّرها. ولعله أدرك أنها لم تكن تبتسم كثيرًا أصلًا.
راح يطرق بطرف أصابعه على الطاولة في بطء، ثم استسلم وتخلى عن محاولة التذكر.
كانت إليزابيث في أغلب أيامها حزينةً أكثر مما كانت باسمة. ولم تتح له الحياة فرصة أن يعرف ما الذي كان يثقلها بتلك الهموم.
كانت تخشى شيئًا ما دومًا، وفي غضون بضعة أشهر فقط، غدت متعبةً و منهكة لا تستطيع إخفاء شحوبها.
حتى ذلك الحين، لم تشأ أن تُشركه في ما يؤرقها، ثم في تلك الليلة التي أمطرت بغزارة، رحلت إلى الأبد.
[أفكر أحيانًا أنه ربما كان عليّ أن أتكلم في ذلك اليوم، في تلك اللحظة بالذات.
لكنني لا أظن أن حكمي كان خاطئًا، لقد فكرت في الأمر عشرات المرات، وما زلتُ أرى أنه كان القرار الأفضل الممكن.]
لم يكن آرثر يخلو من تلك الفكرة بين حينٍ وآخر؛ ماذا لو أنه، في ذلك اليوم حين ذهب ليخبرها بأن آخر الضحايا ربما كان هنري هاميلتون، اعترف بما يشعر به من ذنب؟
لم تكن تلك الفكرة غريبة عنه، بل وحتى في الآونة الأخيرة ظل يتساءل عن الأمر نفسه.
ومع كل مرة تعود إليه، كان ينتهي دومًا إلى النتيجة ذاتها: أن امتناعه عن الكلام كان هو الصواب.
ومع ذلك، لم يستطع أن يتخلّص من تلك الشوكة العالقة في صدره، حتى وهو يعلم تمامًا أن شيئًا لم يكن ليتغيّر لو فعل.
بعد أن تردّد طويلًا بوجهٍ شاحبٍ يكسوه التردد، حرّك آرثر قلمه من جديد، في اللحظة نفسها التي أخذت فيها شعلة الشمعة تتراقص على وشك الانطفاء.
[لستِ من أسرتي، ولا حبيبتي، وقد رحلتِ عن هذا العالم قبلي، لذا فلن يأتي يومٌ تتلقين فيه هذه الرسالة.
حتى فكرة إحراق الورق تؤرقني، فأنا أخشى أن تمتطي الرسالة دخاناً وتصل إليكِ. لذا، يبدو أن دفنها معي هو الحل الوحيد الذي أملكه.
لقد أوشكت حياة الشمعة على نهايتها، لذا عليّ أن أختصر.]
تغشّى الضباب عينيه، ولم يكن السبب الشمعة وحدها.
[أتمنى من أعماقي أن نلتقي مجددًا.]
بقي سنّ القلم ساكنًا طويلًا عند آخر جملة من تلك الرسالة القصيرة، كأنه يرفض أن يفارقها.
انتظر آرثر حتى جفّ الحبر، ثم قرأ سطورها الأخيرة مرة أخرى ببطء، قبل أن يضع القلم جانبًا بيدٍ مرتجفة.
ثم طوى الورقة بعناية حتى غدت صغيرةً لدرجة لا يمكن قراءة محتواها دون فتحها عمدًا، ثم خبّأها في أعماق صدره.
وما إن أنهى آخر مهامه، حتى شعر بأن قواه تتسرب منه، وأن ثقله لم يعد يحتمل الجسد. فأسند ظهره إلى المقعد، واستسلم لذلك النعاس اللطيف الذي اجتاحه كنسمة راحةٍ أخيرة.
ثم هبّ نسيمٌ خافت، لا يدري من أين تسرّب، أطفأ الشمعة، وغرقت الغرفة الصغيرة في ظلام تام.
غير أنه لم يشعر بالخوف، ولا بالوحدة. بل أحسّ بدفءٍ غريب، كأنه غارقٌ في بطّانية ناعمة تحميه من العالم.
زفر نفسًا طويلاً، وفي تلك اللحظة أحسّ أن أحدًا يقف بجواره. وبانحرافٍ خفيف لعينيه لمح طرف فستانٍ أبيض ملوثٍ بالدم، ينسدل بهدوء في طرف رؤيته.
لم يجرؤ على رفع بصره إلى وجهها؛ فلم يكن مستعدًا لاحتمال خيبةٍ لو لم تكن هي من انتظرها.
فاكتفى بأن قلب كفّه إلى الأعلى، عارضًا راحته في صمت. وحين لامستها يدٌ بيضاء خفيفة، كجناح فراشة، ارتسمت على وجهه المتهدّل من السنين ابتسامةٌ هادئة.
نهض متخلّصًا من جسده الذي كان يثقله كدمية طينية، وأمسك بيد تلك المرأة بإحكام.
كانت أصابعه التي استعادت دفء الشباب قد أخذت ترتجف بفرحٍ غريب، كأنه يتذوق الإحساس بالحياة من جديد.
ثم سمع ضحكتها، رقيقةً كرنّة جرسٍ فضي، فلم يستطع إلا أن يبادلها الابتسام بوجهٍ يغمره الانفعال.
وأخيرًا، جاءت إليه، ربيعه الأبدي.
___________________________
المهم خلاص احسني متأكده هو البطل خاصه يوم قال مسكها🤏🏻
ادوارد يحزم بس لو يطلع هو بيسبب لها رعب كل ماتذكرت وش سوا لها منب ناقصه توكسك
المهم الفصل الجاي عن ادوارد الظاهر كأني شايفه اسمه ثم الي بعده بنشوف من الي جا ومسك اون كيونغ🫂✨✨
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 44"