وصل إدوارد إلى دار الأيتام في ساعةٍ متأخرة من الليل، واستنشق نفسًا عميقًا. فها هو ذا يعود أخيرًا إلى جحيمه.
وقف أمام المبنى صامتًا، محاولًا تقدير الوقت، ثم استدعى من ذاكرته صورة المكان وطرق الباب.
إن كانت ذاكرته صحيحة، وإن كانت مارغريت غيلفورد ما زالت على عادتها تنزل إلى الطابق السفلي قبل أن تنام لتتأكد أن الأبواب أُقفلت، فلا بد أنها الآن تقف خلف هذا الباب، وستشعر بوجوده وتفتحه.
“…..من هناك؟”
تمامًا كما توقع. ظهر وجه عجوزٍ تلفّ حول كتفيها شالٌ باهت، تطلّ بحذرٍ من الباب الموارب.
وبينما كانت ترفع شمعةً ذائبة لتتأمل وجه الزائر المجهول بعينين مرتابتين، اتسعت عيناها فجأة حين عرّفها إدوارد بنفسه بابتسامةٍ لطيفة.
“أوه، نعم، نعم…..تفضل بالدخول يا بُني.”
لا شك أن هذا الترحيب لم يكن لوجهه، بل لأنه الابن بالتبني للسيد “هنري هاملتون”.
سار خلفها في الممر المعتم، يراقب مؤخرة رأسها بصمت، حتى وصلا إلى مكتبها. وما إن أغلق الباب وراءهما بهدوء حتى تحدّث بصوتٍ منخفض،
“صار المكان أكثر هدوءًا مما أذكر.”
“لم أعد سوى أنا وحدي أعتني به.”
“لا بد أنه مرهقٌ لكِ.”
“همم، لا مفر من ذلك…..المسألة تتعلق بالدعم المالي أيضًا.”
ثم رمقته من طرف عينها بنظرةٍ توحي بالأمل، وكأنها تتساءل إن كان سيساعدها ماديًا.
‘امرأةٌ جشعة.ى
ضيّق إدوارد نظرته في مكرٍ خفي، إذ ضحك في نفسه بسخرية؛ كيف تتخذ من “نقص الدعم” ذريعةً لمشاكلها؟
لم يكن معقولًا أن جميع الداعمين قد انسحبوا. فالدار من الخارج تبدو في حالٍ لا بأس به. و الأرجح أنها لا ترغب في مشاركة الأموال التي تصلها مع الآخرين.
بينما يسخر منها في سرّه، سألها بنغمةٍ هادئة سلسة،
“…..والأطفال؟”
“كلهم نيامٌ بالطبع. وكنت أنا على وشك أن أخلد للنوم أيضًا. لقد جئتَ في ساعةٍ متأخرة…..كنت أظن أننا اتفقنا على الغد.”
لا موظفين، ولا أطفال مستيقظين. وهذا يعني أن لا أحد غير مارغريت غيلفورد مستيقظٌ الآن داخل الدار.
خطا إدوارد نحو العجوز التي كانت تدير له ظهرها، وأخرج خنجره من صدر معطفه. بينما كانت منشغلةً بغلي الماء وإعداد الشاي، غير مدركةٍ لما يحدث خلفها.
رأى الكوب المزخرف بورودٍ حمراء—ذلك الذي لا تخرجه إلا عند استقبال الزوار المهمين—يلمع تحت الضوء الخافت، وكأن فيه انعكاسًا لجشعها.
“تذكرتُ الآن، كنتُ أريد أن أقول..…”
لكن بقية كلماتها لم تخرج قط. فقد خرج من حلقها صوتٌ مبحوح، تائهٌ عن موضعه، يسيل مع الدم الذي نبع من الجرح الجديد في عنقها.
تطايرت قطراتٌ صغيرة من الدم على فنجان الشاي، وبدأت تمتزج بالماء الساخن ببطء.
ثم رمشت مارغريت غيلفورد في دهشة، كأن عقلها لم يستوعب بعد ما حدث، ثم رفعت يدها تتحسس عنقها. و تحركت شفتاها محاولةً قول شيء، قبل أن يترنح جسدها ويميل جانبًا، يسقط بثقلٍ صامتٍ على الأرض.
هل أرادت أن تصرخ؟
ربما أرادت طلب نداء استغاثة، أو ربما كانت محاولةً لسؤاله عمّا يحدث بالضبط.
لكنّ الإجابة على ذلك لن تُعرف أبدًا.
إدوارد، الذي ظلّ فمه مطبقًا بصمت، حدّق طويلًا في جثة مارغريت غيلفورد قبل أن يستدير ببطء.
وما إن غادر دار الأيتام ودخل الزقاق، حتى توقفت خطواته التي كانت تزداد سرعةً شيئًا فشيئًا، لأنه تعرّف على الوجه الواقف في نهاية نظره.
انطفأ الضوء المنبعث من مصباح الشارع الذي كان يضيء وجه المرأة الأبيض.
وبينما كان واقفًا كتمثال متجمّد في مكانه، بدأت قطرات المطر تتساقط على رأسه. ثم ما لبث أن انهمر مطرٌ غزير أشبه بالطوفان، ومع ذلك ظلّ إدوارد واقفًا بلا حراك، تمامًا كما كانت المرأة الواقفة أمامه.
شعر بأن الدم العالق على خديه ويديه يُغسل ببطء، وكان الأمر أشبه بحلم. و تمنّى لو أنه لم يكن سوى حلم.
وفي اللحظة التي اختفت فيها عيناها البنيّتان تحت رموشها المرتجفة، أخيرًا خطا إدوارد خطوةً إلى الأمام.
وحين اقتربت منه المرأة المغمضة العينين ثلاث خطوات، شدّ قبضته على الخنجر أكثر.
ما زال الشعور بالواقع غائبًا عنه، و كل ما تمناه أن يفتح عينيه فيجد نفسه قد عاد إلى الماضي.
***
كان يعلم أن لا أحد مستيقظ في تلك الساعة، ولذلك بدا قتل مارغريت غيلفورد هذه المرة أسهل من المرات السابقة.
ظلّ إدوارد ينظر إلى جثتها وهو يُرخِي ذراعه التي تحمل السكين، ثم ترنّح خارج دار الأيتام.
وأمام الشوارع المظلمة، أغمض عينيه قليلًا ليستعيد تركيزه، وبعد أن استعاد بعض هدوئه، تابع سيره بخطواتٍ واثقة دون أدنى تردد.
سار في الزقاق نفسه الذي سلكه في المرة الماضية، لكن لم يرَ أثرًا للمرأة. من الطبيعي ألا تسلك الطريق ذاته، فهي أيضًا تتذكر الماضي.
تُرى، هل جاءت هذه المرة برفقة آرثر لوزنديل؟
تساءل إدوارد في نفسه وهو يُلقي نظرةً عابرة نحو مصباح الشارع الذي قتلها تحته.
إن كان لوزنديل معها، فلا بدّ أنه سيعثر قريبًا على رسالته. وحينها، سيأتي رجال الشرطة للبحث عنه.
أما إن مضت أيامٌ ولم يطرق أحدٌ بابه، فذلك يعني أن المرأة قد أخفته عنهم.
وحتى لو جاء رجال الشرطة، فكل ما عليه قوله في يوم اللقاء الموعود هو بضع كلمات معتذرة: يؤسفني ما حدث لذلك الشخص. ولن يكون في ذلك ما يثقل كاهله أبدًا.
عاد إدوارد إلى لندن وانتظر بصمتٍ أن يأتي أحدٌ للبحث عنه. لكن الأيام مرّت دون أن يطرق أحد ٌباب قصر عائلة هاميلتون، فأيقن أخيرًا أن خطيبته قد أخفت الرسالة.
ورغم شعوره بالرضا، إلا أنه لم يفهم السبب وراء فعلها. فالمرأة كانت ترتجف كلما واجهته، وتراه مخلوقًا مرعبًا، وكان هو نفسه يقتلها في كل مرة.
حدّق إدوارد بورقةٍ موضوعة أمامه، ورسم بعينيه نظرة تلك المرأة فوقها.
هل سيعرف الجواب حين يراها مجددًا؟
أمسك قلمه من جديد بعد أن كان يطرقه بخفة على سطح المكتب، وانحنى قليلًا ليكتب.
خرجت من طرف قلمه جملةٌ أنيقة، رسالةٌ مهذبة يطلب فيها لقاءها.
كان يشعر ببعض الانزعاج لأنه لم يجد عذرًا مناسبًا يبرر فيه رغبته بلقائها، لكنه رأى أن مقابلتها فورًا أهم من البحث عن ذريعةٍ منمّقة.
قبل أشهرٍ فقط، ما كان ليجرؤ حتى على التفكير في أمر كهذا.
استند إدوارد إلى كفّه متأملًا. و لو لم يكن لديه ما يشغله، لما خطر بباله لقاء خطيبته، لكنه الآن، يحدّد الموعد بنفسه وينتظر اليوم بفارغ الصبر.
كيف وصل إلى هذا الحد؟
ابتسم ابتسامةً باهتة وهو يسترجع انطباعه الأول عنها، الذي لم يكن سارًّا على الإطلاق.
لو عاد أحدٌ ليُخبر ذلك الإدوارد السابق عن حاله الآن، لاعتبره مجنونًا لا محالة.
طوى الورقة بأطراف أصابعه، مطلقًا ضحكةً قصيرة امتزجت بسخريةٍ خفيفة. و تردّد قليلًا قبل إرسالها، لكنه في النهاية أرسل الرسالة كما هي دون أن يكتب سبب الزيارة.
كان يظن أنه سيتمكن لاحقًا من ابتكار عذرٍ مناسب، ولم يدرك كم كان غروره ساذجًا إلا بعد أن حان موعد اللقاء، وركب العربة المتجهة نحو قصر عائلة ريدل.
كان يفكّر، بقليلٍ من التوتر، بما يجب أن يقوله أولًا حين يقف أمامها، وفجأةً شعر بوجودها خلفه، فالتفت ببطء.
“مرّ وقتٌ طويل منذ التقينا، أليس كذلك؟”
كلاهما كان يعلم أن هذا غير صحيح، لكن إدوارد تظاهر بالجهل، وردّد عبارته بنبرة ودودة.
ارتسمت على وجه المرأة ملامح الارتباك، وقبل أن تنطق بشيء، ابتسم هو بلطفٍ من جديد.
“تبدين وكأنكِ نحفت قليلًا.”
وعند سماع تلك الكلمات التي حملت في طياتها شيئًا من القلق، بدا وكأنها استجمعت شجاعتها لتفتح فمها أخيرًا.
“وأنتَ أيضًا…..تبدو أنحف قليلًا.”
“لكن ليس بقدركِ على ما أظن. فأنتِ….حقًا..…”
تلاشى صوت إدوارد في منتصف الجملة، وكأنه فقد كلماته فجأة.
لقد مرت أمام عينيه صورة لقائه الأول بها، لحظة كان وجهها فيها أكثر حيويةً وإشراقًا. وحين تخيّل ملامحها القديمة وقد ارتسمت فوق وجهها الحالي، أطبق شفتيه بصمت.
ربما كان هو السبب الأكبر في تغيّرها، الى هذا الوجه الذي بهتَ بوضوح، وفي تلك الملامح التي باتت تلوح فيها رغبةٌ مكبوتة في البكاء.
“ما الذي جاء بكَ؟”
سألت المرأة، قاطعةً حبل أفكاره.
و كانت تلك اللحظة هي أكثر ما كان يخشاه، لحظة اضطراره للإجابة عن سبب زيارته.
“أنا فقط…..”
بحث إدوارد في ذهنه عن عذرٍ مناسب، لكن بينما كان يرفع بصره نحو عينيها، وجد الجواب هناك، في نظرتها بالذات.
تردّد قليلًا، ثم ابتسم ابتسامةً صغيرة مستسلمة وقال في نفسه، ‘السبب بسيط، ولا يحتاج إلى زخرفة.’
“لأنني أردتُ رؤيتكِ.”
اتسعت عيناها بدهشة، وتقلص حاجباها بارتباك، ثم سرعان ما هزت رأسها بعدما أدركت أنه كان يقولها بنبرة تمزج الجدّ بالمزاح.
“نحن مخطوبان…..لكن أليس وجهكِ يشبه وجه من سمع شيئًا لا يليق؟”
“لم أكن أتوقع أن أسمع تلك الكلمات منكَ، هذا كل ما في الأمر.”
كانت حجتها ضعيفة، لكنه لم يرغب في التدقيق، خاصةً وقد رآها تبتسم بهدوء. فهي التي كانت دومًا كئيبة في حضرته، ابتسمت الآن ابتسامةً خفيفة، وانحنت عيناها الرقيقتان بنعومة.
“لكن….مع ذلك، أشعر بالسعادة. فأنا أيضًا…..اشتقت إليكَ.”
حتى لو كانت تلك الكلمات مجرّد مجاملة، فذلك لم يهمّه، فقد كانت كافيةً بالنسبة له.
ابتسم إدوارد بصمت وهو يحتسي من كوب الشاي، بينما تخيّل بين يديه باقة زهور زاهية تضمّها هي بين ذراعيها.
لم يستطع أن يجد باقةً من الزهور الصفراء التي تليق بها، وقيل له أنه لن يتمكن من الحصول على النوع الذي يريده قبل قدوم الربيع، فقرر أن يؤجل الأمر إلى حينها.
ذلك القدر من الانتظار، ظنّ أنه ما زال يملكه.
ابتلع قلقه مع آخر رشفةٍ من الشاي. أما هي، فكانت تنظر إليه بين حين وآخر بنظراتٍ يملؤها الشك، غير قادرةٍ على إخفاء ارتيابها في سبب قدومه.
شعر هو أن الطعم المرّ الذي ملأ فمه لم يكن من الشاي ذاته، فوضع الكوب نصف الممتلئ على الطاولة.
“…..أعتقد أن عليّ الذهاب الآن.”
فإن بقي أكثر، فسيزداد ارتباكها بلا شك.
نهض إدوارد يستعد للرحيل، وألقى عليها نظرةً أخيرة. و رأى على وجهها بادرة ارتياحٍ خافتة، فشعر بوخزٍ مؤلم في صدره، لكنه تجاهل ذلك الألم وتحدّث بهدوء،
“أتمنى لكِ دوام السلامة والأمان.”
ولم يُضف بصوتٍ مسموع ما تمتم به في قلبه، ليتني لا أراكِ حين يحين الوقت لقتل هنري هاميلتون بعد أيام.
ثم انحنى، وطبع قبلةً خفيفة على جبينها، متجاهلًا القلق الذي بدأ يتسرّب إلى أعماقه، كقطرة ماءٍ باردة تسلّلت إلى قلبه دون أن يجرؤ على الاعتراف بها.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 42"