كانت التشكيلات التي تسد الطريق وكأنها تحاصرها قد اختفت فجأة، وحين أدركت أون كيونغ أن لا أحد حولها كانت قد وصلت بالفعل إلى حافة المنحدر.
إلى جانبها، كان ضوء عمود الإنارة الذي يلمع كأنه لن ينطفئ أبدًا يتمايل ثم خبا بلا قوة. و حلّ سكونٌ مقشعر مكانه ليغمر الطريق.
كانت أون كيونغ تعرف الرجل الواقف هناك محدقًا فيها بثبات من بعيد.
وفي اللحظة التي شعر فيها الرجل أيضًا بأنه تعرف إليها، سقطت قطرة مطر من السماء. و امتلأ الهواء العليل فجأة برطوبةٍ خانقة. و سرعان ما تضاعفت القطرات حتى بللت شعره الأسود.
وفجأة أطلقت ضحكةً خفيفة.
رأت الدماء التي تناثرت على وجنته البيضاء تُغسل وتنحدر مع المطر، ورأت يده التي كانت مصبوغةً بالحمرة تتحول شيئًا فشيئًا إلى بهتان.
ومع ذلك ظل إدوارد واقفًا في مكانه، لا يقترب، و لا يفكر حتى في التقدم نحوها، يحدق فيها وكأنه متجمدٌ في الأرض حتى انمحت كل آثار الدم عنه.
ولم تهرب أون كيونغ هي الأخرى. بل لعل الأصح أنها فقدت حتى إرادة الفرار. و غص حلقها بمرارة مقززة، وامتلأ فمها بطعم حزنٍ لاذع.
لماذا أنا وأنتَ لابدّ أن نصطدم في النهاية؟
لم تكن تخشى مواجهته. فالرعب من الموت لن يزول عنها أبدًا. لكنّ المخيف حقًا أن الاستسلام سبق الخوف ورفع رأسه أولًا.
وفي اللحظة التي ارتعش فيها بصرها، بدأ إدوارد يتقدم نحوها بخطى بطيئة.
كانت قطرات المطر المنحدرة على خده تبدو وكأنها دموع. ورغم أنها تعلم أنه لن يبكي أبدًا لموتها، بينما قد أوشك الأمر أن يخدعها.
رفعت أون كيونغ رأسها بثبات وحدقت في وجهه القاسي، ثم أغمضت عينيها بهدوء حين صار على بُعد ثلاث خطوات منها.
و شعرت بأنفاسه تقترب مصحوبةً ببرودة الهواء.
ولم تكن تلك أنفاسه فقط، بل كانت أنفاس الموت.
**
داعبت أشعة الشمس طرف أنف أون كيونغ.
كان ذلك أول ضوءٍ شمس تستقبله بعد عودتها بالزمن. لقد عادت إلى ليلة ما قبل موتها، واستقبلت صباح يوم موتها بوجهٍ هادئ، وها هي الآن في طريقها إلى الميتم لتقابل من سيموت قريبًا.
“قلتِ أنك خطيبة إدوارد، صحيح؟”
جاءها نفس السؤال كما في المرة السابقة، فأجابت أون كيونغ بابتسامة سلسة.
“نعم، أردتُ أن أعرف بعض الأمور عن إدوارد قبل الزواج به.”
مسحت نظرات مارغريت غيلفورد وجهها بسرعة.
لم يكن استقبالًا سارًا، لكن أون كيونغ لم تُبدِ أي انزعاج، ولم تشوه ملامحها، ولم تعاتب بصوت متبرم.
بوجهها الهادئ لم تستطع مارغريت أن تقرأ شيئًا، وكأنها لم تشكك بها يومًا، فقدمت لها الشاي ببرود ظاهر.
وبينما كانت أون كيونغ ترفع الكوب لتشرب، تساءلت فجأة: هل كانت مارغريت في المرة السابقة تراقبها أيضًا؟
ربما. والإجابة الحقيقية لن تعرفها أبدًا، فالناس لا يتغيرون بسهولة.
وبينما كانت تفكر في الانطباع الذي قد يكون قد تبادر إلى ذهن مارغريت حين رأت وجهها شاردًا، خفضت بصرها.
على أي حال بدا أن الموقف مرّ بسلام، وذلك في حد ذاته أمرٌ مبهج.
“يا إلهي، إدوارد أيضًا سيزورني غدًا…..لمَ تأتِ معه إذاً؟”
“لم يخبرني بشيء، وأنا بدوري جئت خفيةً عنه. فإذا التقيتِ به غدًا، أرجو أن يبقى حضوري سرًا بيننا.”
ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة مع كلماتها.
مقارنةً بالمرة السابقة، كان حديثها هذه المرة أكثر سلاسةً وانسيابًا.
ضحكت مارغريت عند سماعها، ثم أومأت مطمئنةً كأنها تقول: ثقي بي.
“بالطبع، سأفعل. ولو كان لي زوجٌ لكنتُ أنا أيضًا بحثت عن كل من يعرفه لأستجوبه حول طباعه قبل الزواج.”
“أشكركِ.”
كما فعلت في المرة الماضية، قطعت أون كيونغ الحديث عند النقطة المناسبة قبل أن يسود الجو فتور.
كانت مارغريت على وشك الاسترسال، ثم توقفت مذهولةً قليلًا، لكن ما إن التقت عيناها بعيني أون كيونغ حتى محَت بسرعة ارتباكها، وعادت لتقود الحوار إلى موضوعه الأصلي.
“فلنبدأ إذاً بالحديث عن إدوارد…”
كانت تدرك تمامًا أنها كادت ترتكب زلة لسان، وأن هذه الفتاة الجالسة أمامها هي التي أنقذتها منها.
لم تعرف كيف استطاعت أون كيونغ أن تلتقط ما لم تلتقطه هي نفسها، لكنها على أي حال بدت عازمةً على التظاهر بالجهل، وذلك في حد ذاته كان كافيًا لتقرر مجاراتها في الحديث.
“إدوارد هاملتون.”
تمتمت مارغريت غيلفورد وهي تتفوه ببعض عبارات المديح المكررة بينما تحاول استرجاع ما في ذاكرتها.
في الحقيقة، لم يكن يخطر لها شيءٌ يُذكر عنه، ولا حتى بقدر ظفر الإصبع. وانسابن نظراتها إلى النافذة المكسوة بطبقة غبار باهت، ومن خلفها ظهرت أغصان شجرة يابسة.
تمامًا، كان ذلك الفتى هزيلًا كهذه الأغصان.
حاولت جاهدةً أن تستحضر ملامحه من بين الذكريات الباهتة.
شعره الأسود الداكن، وبشرته الشاحبة مفرطة البياض، خرجا من حفرة الذكريات الميتة كأنهما عائدان إلى السطح.
كان ثمة شيءٌ آخر قاب قوسين من أن يتضح، لكنها ظلت تفكر بعينين نصف مغمضتين.
فمنذ أن وصلتها رسالةٌ إليزابيث ريدل، حاولت غير مرة أن تستعيد ما يتعلق به، لكنها لم تجد في خاطرها إلا أن هنري هاملتون تبناه.
“ألم يكن له أصدقاءٌ مقربون؟”
طرحت إليزابيث السؤال كأنها قرأت خواطرها.
أصدقاء مقربون، هاه…..شرعت مارغريت تقلب صور ألبوم ذاكرتها الباهت من جديد، حتى عثرت أخيرًا على شيء يصلح للذكر.
“كان قريبًا من توماس تيرنر. لكن ذاك الفتى..…”
تذكرت للتو أنها سمعت مؤخرًا خبر وفاة توماس تيرنر.
لم تكن صورته حاضرةً بوضوح في ذهنها، لكنها تذكرت أنها رأته بضع مراتٍ برفقة إدوارد هاملتون.
وحتى لو لم يكن كذلك، فما الضرر؟ الرجل مات، ولا سبيل للتحقق بعد الآن.
ارتسمت على وجه إليزابيث ريدل ملامح غامضة يصعب وصفها، لكنها سرعان ما محتها. فلم يكن عجيبًا أن تصدمها فجأة أنباء وفاة.
هكذا فكرت مارغريت وهي تحاول مواساتها، ثم قدمت ما تبقى لديها من ذكرى باهتة، وختمت اللقاء بودّ ظاهر وكلماتٍ ختامية رقيقة.
كان حوارًا مُرضيًا بالفعل، هكذا رأت الأمر. ثم راحت تفكر بما ستقوله لإدوارد حين تراه في اليوم التالي.
لم تعرف سبب رسالته المفاجئة التي يخبرها فيها بنيته المجيء، لكنها رجحت أنه يريد رد جميل ما بذلته لأجله.
غير أن مارغريت غيلفورد لم تصحُ من أحلامها السعيدة تلك، فقد قُتلت في تلك الليلة.
وكان سبب موتها السيف الذي عاد إليها ردًا على معروفها.
**
عادت أون كيونغ مع آرثر إلى المسكن، وكما فعلت سابقًا، خرجت بهدوء من غرفته ثم مضت إلى غرفتها
فوراً.
لم تكن لديها رغبةٌ في الخروج، فقد كان في ذهنها ما يكفي من الهموم.
لماذا إذاً قصد إدوارد مارغريت غيلفورد في الليلة السابقة مباشرة، رغم أنه وعد بزيارتها في اليوم التالي، ليقتلها ثم يلتقي بها وجهًا لوجه؟
إذ لم يَرد في القصة زمنٌ محدد للحدث، فلا أحد يعرف إن كان قد ذهب إليها أبكر من الموعد بدافع نزوةٍ عابرة أم لسبب آخر.
بل إن إرسال الرسالة لتحديد موعد بحد ذاته كان أمرًا مريبًا. أكان يجهل أن ذلك سيجلب التعقيد وربما يجره إلى الخطر؟ محال.
كلما أمعنت التفكير، بدا الأمر كمتاهةٍ لا مخرج لها. و لم تستطع فهم تصرفاته مطلقًا.
هل ظن أن كل ما عليه هو استرجاع الرسالة لا أكثر؟ لكن ماذا لو ذكرت مارغريت الموعد لشخص آخر؟ ألم تسمع بنفسها من مارغريت أن إدوارد حدّد معها موعدًا؟
تنهدت أون كيونغ بوجهٍ متعب. فرفعت بصرها إلى السماء فبدت صافيةً لا غيم فيها.
في المرة السابقة كان المطر ينهمر بغتة، أما الآن فلا أثر لغيوم متجمعة.
الأفكار انسابت واحدةً تجر أخرى بلا نهاية، بينما ضغطها القلق في صدرها حتى شعرت بالاختناق، كأنها تدور في حلقةٍ مفرغة بلا خيط يقود إلى جواب.
وظلت هكذا حتى بزغ الفجر، حين اخترق أذنها صراخٌ حاد كالسهم جعلها تقفز واقفة.
“جريمة قتل!”
تجمد هواء الصباح الباكر من وقع الكلمة. و غطّى نعيق الغربان على الصوت البشري حتى بدا أكثر رهبة.
ثم خرجت مسرعةً إلى الممر، فالتقت بنظرات آرثر الذي كان قد فتح بابه هو الآخر للتوّ بملامح مضطربة.
حدق بها لحظةً بذهول، ثم تصلب وجهه فجأة واندفع بخطى سريعة تكاد تكون هرولة.
و تبعته أون كيونغ على عجل، تضغط شفتيها حتى شحب لونهما، وعيناها معلقتان ببناية الميتم البعيد الذي بدا أصغر حجمًا لكنه أوضح مقصدٍ لهم.
كان الميتم شامخًا تحت سماءٍ صافية وشمس مشرقة، ومع ذلك يلفه تيارٌ بارد غريب.
وفجأة تسللت إلى أنفها رائحةٌ نتنة لم يكن لها أن تصل من تلك المسافة، رائحةٌ لزجة كريهة تفوح منها نذر الموت.
قطبت حاجبيها وأمسكت نفسها عن التنفس لحظة، ثم واصلت المسير ببطء وهي تتنفس عبر فمها.
وعند مدخل الميتم تجمهر عشرات الناس في ضوضاء خانقة. بعضهم بملابس رثة بالية، وبعضهم الآخر في أبهى حلله المصممة بعناية، وقد اجتمعوا جميعًا يرمقون بعضهم بعضًا بعيون متقلبة حائرة، في مشهد عجيب غايةً في الغرابة.
ما إن وصل آرثر إلى بوابة الميتم حتى أخذت الجموع التي كانت تسد الطريق كأشواكٍ متشابكة تضطرب وتتنحى جانبًا لتفسح له ممرًا.
و تبعته أون كيونغ بخطواتٍ متأخرة، وألقت بنظرةٍ حذرة إلى الداخل، فإذا بها ترى الميتم غارقًا في ظلمة موحشة كفوّهةٍ عميقة، فارتجف جسدها لا إراديًا.
وبين الوجوه الكالحة المعلقة ببوابة الميتم ارتفع همس يشبه الغناء الخافت،
-موت آخر يعقب موت توماس.-
-ظل الموت يخيم على ميتم مارغريت غيلفورد.-
-مأساةٌ لا تنتهي.-
كانوا يغطون أفواههم بأيديهم ويتبادلون الهمس، حتى مزق الصمت صوتٌ حاد كالسيف، فانحنى الحشد يصغي إلى رجل يضع إصبعه على شفتيه.
-مديرة الميتم.-
-الرقيقة الرحيمة.-
-لم يوجد من هو أطيبُ منها.-
-وقد أجمع الكل على ذلك.-
وما إن أنهى حديثه حتى رفع شخصٌ آخر يده يستوقف الأنظار.
فتدافعت عشرات العيون نحوه، وكان رجلاً يعتمر قبعةً بنية باهتةً غاطسًا فيها حتى الحاجبين، يتكلم بنبرة حذرة كمن يبوح بسر.
-لكن مع حلول الليل يتردد ذلك الصوت من الميتم…..-
-صوت بكاء.-
-وقع سياط.-
-صرخاتٌ تمزق الصدر.-
-وموت شيطانٍ يتوق إليه الجميع.-
ارتفعت أصوات الثياب المتماسة كزحف الأفاعي، فيما انقسمت الجماعات أمام المدخل متواجهةً تنظر إحداها في عيون الأخرى.
وكان أول من نطق أولئك المتأنقون بملابس الطبقة الراقية، يلوون وجوههم بحزن مصطنع ويمسحون دموعًا موهومة، فتردد صوتهم المتباكي كضبابٍ مائي يتراقص،
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات