“كيف لي أن أرتاح بينما الآنسة ريديل ذاهبةٌ وحدها؟”
حقًا؟
مالت أون كيونغ برأسها وملامحها مترددة، فإذا به يبدو أمرًا بديهيًا عارضته من غير قصد.
فأومأت موافقة، وفي تلك اللحظة استأنف آرثر كلامه،
“لا بأس إن لم تعودي بقصصٍ مفيدة. كما أخبرتِ مارغريت غيلفورد، يكفي أن تفكري في الأمر كرحلة للاستماع عن…..خطيبكِ..…”
لكنه توقف هناك، وتلبّس وجهه بتعبير غريب، حتى خُيّل إليها أن الصمت طال.
ثم تابع عبارته المقطوعة،
“إلى قصة إدوارد هاميلتون، فاذهبي دون أن تحمّلي نفسكِ عبئًا.”
وما إن أنهى حديثه حتى اختفت كليًا من ملامحه تلك الشذرات الغامضة التي كانت تلوح قبل لحظة، كأنها انمحت تمامًا.
و ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ باهتة رتّبت كل شيء في الداخل، ثم أدار رأسه بعيدًا دون أن ينتظر جوابها.
أما هي، ففتحت فمها لتقول شيئًا، لكنها لم تستطع إلا الصمت.
لم يكن الأمر أن الحديث انقطع بعد ذلك، لكن حتى صباح اليوم التالي حين انطلقت أون كيونغ إلى الميتم، لم تعد تلك الألفة الهادئة بينهما كما كانت. كأن المسافة التي اجتهدا في تقليصها قد عادت لتتسع فجأة.
وبقيت أون كيونغ شاردةً تفكر طويلًا في السبب حتى سكبت مارغريت غيلفورد لها الشاي، عندها فقط تمكنت من تركيز ذهنها على الحوار.
“قلتِ أنكِ خطيبة إدوارد، أليس كذلك؟”
“نعم، فأردت أن أعرف عنه أكثر قبل الزواج.”
حين التقت نظراتهما، ابتسمت أون كيونغ تلقائيًا، لكنها سرعان ما خفضت عينيها متأخرةً نصف لحظة.
ولم يبدُ أن مارغريت التقطت ذلك، فتنفست أون كيونغ بارتياح خفي وشدت طرف ابتسامتها. لكن مارغريت غيلفورد أمالت رأسها باستغراب،
“يا إلهي، لكن إدوارد سيزورني غدًا أيضًا…..يبدو أنكِ لم تكوني على علمٍ بذلك.”
وألقت بنظرةٍ جانبية إلى وجه أون كيونغ قبل أن تبتسم.
فارتجفت أون كيونغ لا شعوريًا من وقع كلماتها، ثم حاولت أن تسيطر على ملامحها ورفعت شفتيها بابتسامةٍ متكلّفة.
“لم يخبرني…..جئتُ سرًا. لذلك، إن قابلتِ إدوارد غدًا، أرجو أن يبقى خبر زيارتي هذه سرًا بيننا.”
هل كان عذرًا مناسبًا؟
أتمّت أون كيونغ كلامها متظاهرةً بالهدوء، بينما قبضت بقوةٍ على يديها المرتاحتين فوق ركبتيها.
كان صوتها قد ارتجف أكثر مما ينبغي، وابتسامتها لا بد بدت متكلّفة.
وإن راودت مارغريت الشكوك بها، فطردتها في الحال، ثم ذهبت غدًا لتخبر إدوارد بما جرى…..
لكن سلسلة القلق التي لم يكن لها نهاية و انقطعت فجأة مع ضحكة قصيرة من مارغريت.
“آه، بالطبع. سأفعل ذلك. لو كان لي زوج، لكنتُ أنا أيضًا بحثت قبل الزواج عن كل من يعرفه وطرحت عليهم الأسئلة لأعرف أي رجل هو. لا سيما إذا كان إدوارد مثل…..همم.”
أخذت تُسرف في الكلام بلا حد، ثم ترددت فجأة وأطبقت شفتيها. و ارتسم على وجهها طيف اعتراف بالخطأ، سرعان ما تلاشى.
عرفت أون كيونغ أنها كانت على وشك قول شيء فظ. وما كان امتناعها المفاجئ عن الكلام إلا لأنها لمحَت تصلب ملامحها.
فغاب الدفء الذي كان يملأ غرفة المديرة في لحظة، وحلّ مكانه بردٌ ثقيل سكن ما بينهما.
وبعد صمت طويل، لم ترد أون كيونغ سوى بابتسامة صغيرة حين اعتذرت مارغريت بخجل.
وبرغم أنها لم تضف شيئًا آخر، بدا أن مارغريت قد استراحت سريعًا.
“لنرَ، إدوارد كان منذ صغره طفلًا مطيعًا…”
قالت مارغريت ذلك مسرعة كأنها تريد التطرّق للموضوع دون تكرار ما حدث قبل قليل، ثم مضت تروي مقدمات رتيبة عن إدوارد، عاديةً جدًا، لا تختلف عمّا يمكن أن يُقال لأي أحد.
وبينما كانت أون كيونغ تستمع إليها على نحو عابر، قاطعتها فجأة بسؤال،
“ألم يكن له صديقٌ مقرّب؟”
“لقد كان قريبًا من توماس تيرنر. لكن ذلك الفتى..…”
غيّمت ملامح الأسى على وجه مارغريت، وتلاشى صوتها.
يبدو أنها كانت على علم بوفاته.
و كان مستغربًا أن تكون على هذا القدر من الجهل بأطفالٍ تولّت رعايتهم، حتى أنها لا تملك سوى أن تقول أن إدوارد كان مقرّبًا من توماس تيرنر.
لكن المدهش حقًا أنها تعرف بموته، رغم أنه لم يُنشر خبر ذلك في الصحف بشكلٍ لافت.
و عندما رأت دهشة أون كيونغ، ابتسمت مارغريت غيلفورد كما لو أنها تسترجع ذكرى عزيزة.
ولم تدرك أنها فقدت ثقة مستمعتها بكلماتها السابقة، فمضت طويلًا تثرثر بأقوالٍ لطيفة بلا معنى. وحين حان وقت الوداع، أمسكت بلطف بيد أون كيونغ وأوصتها.
“في المرة القادمة، تعالي معه. سيكون من الرائع حقًا أن تتحدثا معًا.”
“نعم، سأفعل ذلك.”
ابتسمت أون كيونغ ابتسامةً واسعة، لكنها ما إن التفتت حتى عبس وجهها بشدة.
مارغريت غيلفورد لم تعرف شيئًا على الإطلاق.
***
كان آرثر، كما قال في اليوم السابق، ينتظر أون كيونغ بالقرب من الميتم.
واقفًا بصمت تحت أشعة الغروب المتلاشية، و ما إن التقيا حتى بدأ بالقول أنه متعب، ثم أراد أن يسأل عن مجريات الحديث، لكنه أغلق فمه بعدما رأى أون كيونغ قد عبست بملامحها وكأنها مستاءة.
كان يرمقها أحيانًا من بعيد، لكن حتى بعد أن ابتعدا كثيرًا عن الميتم، لم تبدُ راغبةً في الكلام.
“لا يبدو أنها تعرف شيئًا مهمًا.”
أطلقت أون كيونغ هذه الكلمات فجأة حين جلست مع آرثر في مكان الإقامة أمام طاولة صغيرة.
طوال الطريق كانت تفكر فيما إذا كان يجب أن تخبره بأن مارغريت قد حددت موعدًا مع إدوارد غدًا، لكنها قررت في النهاية ألا تفعل.
ربما كان سبب ذلك أن وقوع الجريمة الرابعة على يد إدوارد كان قد حُجب عنها قبل أن يتسرب البريد، وإذا علم آرثر بذلك لكان لن يسمح بمرور الأمر ببساطة.
لكن ذلك جعلها تقلق قليلاً من أن لا يكون هناك ما ستخبره به، فهي لا تريد أن ترى على وجهه أي أثر للخيبة.
وعلى الرغم من ذلك، بدا آرثر غير متفاجئ من حديثها. وعندما لم يظهر على وجهه أي خيبة، شعرت أون كيونغ بالارتباك وسألته بحذر،
“…..ألا تشعر بخيبة أمل؟”
“ألم أقل لكِ أنه لا بأس ألا تحملي نفسكِ عبئًا؟”
أجاب آرثر بصوتٍ هادئ وهو يهز كتفيه.
“لقد مرّ ما يقرب من عشر سنوات، ومرّ على الميتم الكثير من الأطفال خلال تلك الفترة، لذلك توقعت أن يكون تذكر التفاصيل صعبًا. وحتى الآخرون الذين زاروا الميتم لأغراض التحقيق لم يتذكروا الكثير. حتى لو تحدثتِ معها، لما كان ذلك سيغير شيئًا.”
مع ذلك، أن يصبح المرء ابناً متبنّى لشخص بمقام هنري هاملتون أمرٌ نادر الحدوث، فظننت أنه سيُستحضر شيئاً على الأقل، غير أن تلك النقطة وحدها كانت مفاجئةً بعض الشيء.
أنهى كلماته وهو ينقر بأصابعه على الطاولة بخفة.
وأون كيونغ التي كانت تحدق بعينين مطرقتين في آرثر الغارق في تفكير ملبّد ووجه متصلب، ترددت قليلاً ثم نهضت بهدوء. إذ لم يكن في بقائها ما تضيفه بالقول، كما أنها لم ترغب في إزعاجه.
أحس آرثر بحركتها فرفع رأسه على الفور وألقى بنظره نحوها. قرأت في عينيه تساؤلاً إلى أين تمضي، فحرّكت شفتيها مجيبة.
“……أفكر أن أعود إلى غرفتي الآن.”
“آه.”
أطلق تنهيدةً قصيرة، ثم أدار بصره نحو النافذة، ليدرك أن السماء قد أرخى عليها العتم، فارتسم على وجهه حرجٌ خفيف.
“حسناً، إذاً أراكِ غداً.”
ظل آرثر يفتح فمه كأنما يريد أن يقول شيئاً آخر، لكنه مكث طويلاً دون أن ينطق بحرف، وأخيراً أطبق شفتيه دون أن يخرج صوت.
وأون كيونغ التي أمالت رأسها باستغراب كانت تنتظر كأنها تحثه على الكلام، لكنه تمسك بصمته.
وإدراكها أن الانتظار لن يجعله يخرج ما ابتلع من كلمات، جعلها تحدق فيه بعينين أضيق وتهمس بنبرةٍ متخلية.
“حسناً، ليلةً سعيدة لكَ.”
كانت مجرد تحيةٍ عابرة، لكنه بدت على وجهه ملامح الدهشة كما لو تلقى صفعة. ولم يرد إلا بعدما استدارت لتغادر، بصوتٍ خافت يكاد يتلاشى.
“ليلة سعيدة…..لكِ أيضاً.”
وانتهت عبارته مع طقطقة إغلاق الباب.
حافظت أون كيونغ على ملامح هادئة حتى ابتعدت خطواتٍ قليلة عن غرفة آرثر، غير أنه عند وصولها أمام باب غرفتها ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتيها.
ما الداعي لأن يظهر كل ذلك الذهول من مجرد تمنٍ بليلة سعيدة؟ بل وماذا عن ذلك التردد المضحك قبل أن يرد؟ لم ترَ أحداً يطلق تحيةً خفيفة بكل تلك الجدية من قبل.
وعلى خلاف ما قالت له، لم تدخل غرفتها بل مضت متجاوزةً إياها ونزلت الدرج بخطى متثاقلة. فالظلام كان قد حل، لكنها رأت أنه لا ضير في أن تتنشق شيئاً من هواء الخارج.
وصلت إلى مسامعها أصواتٌ متفرقة وضوضاء عابرة توحي بمرور بعض الناس في الجوار، لكنها كانت تدرك جيداً أن إدوارد لن يكون هنا، فلن يكون بين هؤلاء من قد يسبب لها أذى.
وفوق ذلك، وبما أنها لا تزال تتذكر ما حدث في المرة السابقة مع كاثرين ميلر، فلم يكن في نيتها الابتعاد كثيراً. فقد عزمت أون كيونغ أن تقتصر على مسافة يسهل منها العودة إلى النُزل سريعاً إن وقع أمرٌ طارئ، وخرجت بوجه يحمل قدراً من التوتر.
كان الهواء قد غدا أكثر برودةً بوضوح لكونه شهر أكتوبر، فانتفض جلد ذراعيها بقشعريرة خفيفة.
فمررت براحة يدها التي تحتفظ ببقايا دفء على ساعدها مراتٍ قليلة، ثم رفعت بصرها نحو السماء. والقمر المعلق في صفحة ليل صافية بلا غيمة كان ينثر نوراً خافتاً، فيما صفوف المصابيح الواقفة بين الفينة والأخرى منحتها قدراً من الطمأنينة.
ومستمدةً شيئاً من الشجاعة، مضت أون كيونغ تمشي على مهل على طول الطريق.
مرت بجانبها بسرعةٍ وجوهٌ باهتة الحيوية، كأنما خلت من الروح، عابرةً إلى غاياتها.
كانت العيون محدقة إلى الأمام، غير أن نظراتها الغائمة التي لا يُعرف عمّا تبحث، راحت تلتف حول ذراعها ثم تتبدد مع هبة ريح.
وفي كل مرة تلتقي عيناها بأعينهم، كان كتفيها ينكمش
بخفة وتنحرف قليلاً عن مسارها. فقد انعكست الأضواء في مقل تلك العيون حتى بدت ككراتٍ زجاجية، هشّة، توشك أن تتحطم عند أول تماس. و كانوا يمشون متمايلين مثل أعشاب بحرية يابسة.
خطرت ببالها فكرة العودة، لكنها ترددت إذ شعرت بداخلها ثِقلاً جاثماً كالصخرة. فغداً ستسمع بخبر وفاة مارغريت غيلفورد، وربما تضطر لمواجهة جثمان آخر.
وربما يتمكن آرثر من منع ذلك، لكن…..
أحست أنها إن لم تدع نسيم الليل البارد يلمسها، فستظل مضطربةً طول هذه الليلة. فدارت بنظرةٍ قلقة نحو ما حولها.
المصابيح ما زالت تضيء الطريق كأنها نجومٌ صغيرة، والناس ما زالوا يحتشدون على جانبيه، والمباني المشرعة بالأنوار و امتدت على طول المسار مطمئنةً لها.
و بدا أن التوقف قليلاً لالتقاط أنفاسٍ إضافية لن يكون خطراً.
حتى لو كان إدوارد قد قتل مارغريت غيلفورد في هذه اللحظة، فلن يصل أبداً إلى هذا البعد، وحتى إن جاء فسيختبئ متجنباً الزحام. و كان من حسن حظها أن النُزل بعيدٌ عن دار الأيتام.
وبمجرد أن وصلت إلى هذه الفكرة، أحست بالراحة تتسلل إليها شيئاً فشيئاً. و ارتخت ملامحها وتنفّست نفساً عميقاً، فإذا بداخلها قد انفرج مقارنةً بما كان عليه قبل قليل.
وما إن همّت بالعودة بعد جولةٍ قصيرة قرب النُزل، حتى وجدت نفسها أمام حشد من الناس ظهروا لا تدري من أين، يسدّون عليها الطريق.
وفي لحظة، تقيّدت خطاها كما لو اجتاحها مدّ جارف.
فحاولت أون كيونغ بوجه يفضح ارتباكها أن تشق طريقها وسط الزحام لتفلت، لكن كلما تحركت باحثة عن ثغرةٍ هنا وهناك، بدا النُزل يبتعد أكثر فأكثر، وكأن الطريق يأبى أن يسمح لها بالرجوع عن المسار المرسوم.
________________________
والله اني حاسه ان طلعتها ذي وراها بلا😭 لو انها على الاقل قالت لآرثر يجي معها كان
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات