على خلاف ما كانت تخشى بشدة، جرت محادثتها مع آرثر على نحوٍ سلس بشكل مدهش.
لكن لم تكن واثقةً مما إذا كان يمكنها القول أن علاقتها به تسير بالسلاسة نفسها.
“أشعر بالاطمئنان لأنني أراكِ في حالٍ أفضل بكثير.”
وبينما كانت أون كيونغ تحدّق بشرود في فنجان الشاي الموضوع أمامها، بادر آرثر بالكلام وهو يجلس قبالتها.
رفع الفنجان ورشف منه رشفةً طويلة ثم وجّه بصره نحوها، وقد نقصت نصف كمية الشاي الذي كان يفيض لفرط امتلائه قبل لحظة.
رغم أنها تعرف أنه ليس شخصًا يطرد الضيوف لمجرد أنه أنهى شرابه، إلا أن قلبها نبض بقلقٍ لا مبرر له. و ربما السبب هو صوته الجاف وتعبير وجهه الخالي من أي ابتسامة.
لم يكن ذلك ممكنًا، لكنها شعرت وكأنه قرأ في داخلها فرحتها الخفية عندما تلقت رسالته.
نظرت أون كيونغ إليه من طرف عين في حذر، ثم شبكت أصابعها المرتجفة قليلًا و تحدّثت بتردد،
“ذاك…..حين ذهبتُ لزيارة كاثرين في المرة السابقة..…”
توقفت عند هذا الحد، فالتقط هو الخيط بصوتٍ هادئ منخفض.
“أعتذر. لا بد أنك فزعتِ كثيرًا. كان خطئي أنني لم أتدارك الخطر مسبقًا مع أنني كنتُ أعلمه.”
“آه، لا. فأنا من أصررت على مرافقتكَ، ولم أقصد اللوم أبدًا. لكنني فزعت بشدة حتى إن ذاكرتي غامت…..فجئت أعتذر إن كنت قد ارتكبت خطأ جسيمًا دون وعي.”
غير أن قول “لا أذكر” لا يمكن أن يكون ناجماً عن براءة.
ظل آرثر يصغي حتى النهاية، ثم قطّب حاجبيه. وما إن أنهت كلامها حتى راح بصره الحاد يتنقل بقلقٍ على ملامحها، وكأنه صُدم من قولها أنها لا تتذكر.
ولم يبدُ عليها أدنى أثر للمرض، فلم يشيح نظره عنها إلا بعدما تأكد واطمأن.
لكنه تذكّر حينها ملامحها السابقة، فانعقدت شفتاه بتصلب انعكاسي. وبدا على وجهه أنه غارقٌ في تفكير طويل، حائر بين الكلام والصمت.
ولم يفتح فمه إلا بعد أن أيقظته الضجة الطفيفة التي أحدثتها أون كيونغ متعمّدة، فعاد الصفاء إلى عينيه ونطق أخيرًا.
“لا أظن أن هناك ما يستدعي قلقكِ بشأن تلك المسألة.”
كانت عبارةً غامضة وفضفاضة. فأعادت أون كيونغ التفكير في كلماته للحظة، لتكتشف أن قوله هذا جعلها أكثر قلقًا بدل أن يطمئنها.
ترى أي فعل اقترفت حتى يتردد طويلًا قبل أن يجيبها بهذا الشكل؟
لم تكن لترتكب خطأً لا رجعة فيه، فالزمن لم ينقلب للوراء.
وما إن بدا على ملامحها قليلٌ من الكآبة حتى أدرك آرثر أن كلماته بعثت إليها قلقًا بدل الطمأنينة.
و كأنه ينفي ذلك، حرّك شفتيه على عجل، ثم استرجع ببطء بعض الذكريات،
“لم ترتكبي أي خطأ في الحقيقة. وحتى لو حدث، لكنت قد تفهمت الأمر. فمثل هذه التجارب تترك ندوبًا في روح أي إنسان..…”
لقد رأت من قبل جسدًا بلا حياة. دماءً غامرة، وعيونًا غشاها غشاءٌ باهت، وأطرافًا متيبسة كقطعة خشب…..
الذكريات المريعة التي حبستها أيامًا وليالي في كابوس طويل. وكانت مشاعره مثقلة بالذنب لأنه لم يتمكن من منعها من السقوط مجددًا في هاوية جحيم كهذا. لذلك لم يشأ أن يستحضر تفاصيل تلك اللحظة على لسانه.
وعندما تفحّص ملامحها بدقة، بدا أن صحتها لا بأس بها، بل وجد في قولها أنها لا تتذكر نوعًا من الراحة.
تذكّر آرثر بوضوح وجهها بعد أن رأت جثة كاثرين ميلر، وجهًا فارغًا وكأن روحها قد فارقتها.
كانت تجيب إن سُئلت وتُبدي ردود فعل طفيفة، لكنها ظلت صامتةً بملامح خالية من أي حياة. ولم يكن يرغب أن ينبش تلك الذكرى ويفردها أمامها بلسانه.
تأملت أون كيونغ وجهه فرأت فيه شيئًا من الأسف والارتياح والقلق، ثم شدّت شفتيها قليلًا في ابتسامة.
“…..هذا مطمئنٌ إذاً.”
كانت تدرك أنه يخفي شيئًا ما، لكن إصراره على التزام الصمت لم يكن بلا سبب.
رأت في كلماته وتصرفاته حرصًا ورعايةً لا نفورًا. لذا لم يعد هناك حاجةً لتسأل أكثر، إذ لن تنال جوابًا مهما أعادت السؤال.
وهكذا، ومع إغلاق الحديث عن ذلك اليوم، ارتسمت على وجه آرثر خفةٌ ظاهرة وهو يرفع ما تبقى من الشاي في فنجانه ويشربه دفعةً واحدة. فدوّى الفنجان الفارغ بخفة عندما عاد إلى مكانه.
وقد تلاشى تصلّب هيئته الذي كان عند لقائهما الأول، وحلّ محله قدرٌ من اللين. ولاحظت أون كيونغ ذلك فجأة، فأخفت نظراتها تحت ستار رشفة شاي، لتتأمله خلسة.
لقد انمحت البرودة التي كانت تملأ عينيه الحادتين والحاجبين المشدودين، وحلّت مكانها المودة الدافئة التي عهدتها فيه من قبل.
بينما كانت أون كيونغ تحدق فيه بشرود، هبط صوته في مسامعها بالضبط حين التقت عيناها بعينيه.
‘…..مهلًا، عينينا؟’
“الآن وقد تذكرت، هناك أمرٌ أود مناقشته معكِ، وبما أننا التقينا، أيمكننا تبادل الحديث قليلًا؟”
“نـ-نعم، بالطبع.”
ارتبكت حتى اتسعت عيناها، ثم وضعت فنجان الشاي على الطاولة بحركة حذرة.
و ارتجف صوتها وتلعثمت، إذ فاجأها الموقف حتى تصاعدت حرارةٌ حارقة إلى أذنيها.
ماذا أفعل؟ هل سيراها غريبة الأطوار؟
و التلعثم فوق كل ذلك، ألا يبدو تصرفًا مثيرًا للريبة؟ ولو سألني لماذا كنت أحدّق فيه، فبماذا سأجيبه..…؟
“لا، الأمر ببساطة أن علينا أن نحدد موعدًا مع مارغريت غيلفورد أيضًا، فأردت أن أحدثكِ بهذا الشأن.”
فجأة انطفأت الحرارة في جسدها.
ورأى آرثر ارتباكها، فأضاف بلطف،
“يبدو أنكِ متوترة.”
صحيحٌ أنها كانت متوترة، لكن ليس بالسبب الذي ظنّه. فقد شرح الأمر وكأنه يحاول طمأنتها من قلقٍ لم تعرفه أصلاً.
فهزّت رأسها في ارتباك، وعضّت على شفتيها وهمست،
“صحيح…..أفهم ذلك.”
لعل من حسن الحظ أنه لم يسألها لماذا كانت تحدق فيه. فارتسمت ابتسامةٌ باهتة على وجهها، ثم عدّلت جلستها دون داعٍ، قبل أن تصغي بكامل تركيزها إلى ما قاله بعدها.
عندها اعتدلت ملامحها وارتسمت الجدية على وجهها.
“بعد تفكير، أرى أن الأفضل أن تكون الآنسة ريديل هي من تتولى تحديد الموعد هذه المرة، لا أنا.”
“أنا؟”
لم يخطر لها مثل هذا قط. فسألت باندهاش وهي تعقد حاجبيها.
كانت تظن أن الأمر كله لا يتجاوز تنسيق موعد بسيط، ولم يخطر ببالها أنه سيكلّفها بمهمة ترتيب الموعد بنفسها.
لكن بأي صيغة سترسل؟ فهي ليست محققةً ولا تملك أي صفة رسمية، فكيف ستقول لها فجأة: لدي ما أبحث فيه معكِ، فلنحدد موعدًا؟
وهل ستقبل مارغريت ببساطة وتوافق على اللقاء وتقصّ عليها كل شيء؟ مستحيل.
“نعم. فهي الشخص الذي شارك إدوارد هاميلتون طفولته، وبوصفكِ خطيبته التي تستعد للزواج به، قد تتحدث معكِ بارتياحٍ أكبر وتبوح بأشياء لا تقولها لغيركِ.”
ربما كان الأمر كذلك لو أن مارغريت غيلفورد قد أحاطته بعاطفةٍ ورعاية حقيقية…..
لكن وجه أون كيونغ غشيه ظلٌ من التردد. فهي تعرف جيدًا كيف كانت مارغريت تعامل إدوارد، وتدرك أيضًا أن ما تحتفظ به من ذكرياتٍ عنه ليس بالكثير.
وحتى إن حاولت جاهدةً أن تسترجع صورته، فلن يتبقى في ذهنها سوى انطباعٍ باهت عن صبي يتيم أسعفه الحظ بلقاء شيخ نبيل من النبلاء فتحسنت حاله. أما القصص والتفاصيل فقد تآكلت حتى لم يبق لها أثر.
لكن لم يكن بوسعها أن تكشف هذه الحقيقة لآرثر، فإليزابيث — التي تؤدي دورها داخل القصة — لا تعلم مثل هذه المعلومات.
لذا لم تستطع أون كيونغ أن تعترض، واكتفت بأن أومأت برأسها هادئةً كأنها توافق.
وبالكاد انتهت من إيماءتها حتى وُضع أمامها ورقٌ عاجي وقلم. وتحت أنظار آرثر راحت تخط رسالة، ثم وضعتها في ظرفٍ أُغلق بالشمع وسلمت إلى رجلٍ كان قد استدعاه سلفًا، فمضى بها بعيدًا.
و عاد الرد من مارغريت غيلفورد بعد يومين فقط. أقرب مما توقعا.
كانت رسالةً طويلة مزخرفةً بعباراتٍ مجاملة متكلفة بلا مضمون يُذكر، لكن خلاصتها اقتراح تحديد الموعد في الثالث من أكتوبر.
وبعد أن تجاوزت أون كيونغ سطور التحية المطولة دون اكتراث، رفعت بصرها إلى آرثر.
“الثالث من أكتوبر…..لم يتبق وقتٌ طويل إذاً.”
وبينما أنهى آرثر قراءة الرسالة، قال عبارته من دون أن يرفع عينيه عن الورق. فأومأت أون كيونغ بسرعة، ثم أدركت أنه لم يلحظ ذلك، فتكلمت،
“صحيح. الموعد وُضع على نحو…..متعجلٍ إلى حدٍ ما.”
كانت تعرف أن الوقت قصير، لكن رؤية التاريخ مكتوبًا أوقدت في قلبها توترًا يضرب أعماقها.
ففتحت شفتيها تأخذ نفسًا مضطربًا، ثم عضّت بلطف على باطنها الطري.
لم يسبق لها أن تحدثت مباشرةً إلى أي من الضحايا، غير أن مارغريت غيلفورد مختلفة. وهذه المرة أيضًا لن يكون آرثر إلى جوارها، بل عليها أن تواجه مديرة الميتم بمفردها.
وفوق ذلك كله، ففي <الكابوس> كانت وفاة مارغريت غيلفورد تعلن “جريمة القتل الثالثة” وبداية الفصل الثاني، مما يعني أن طبيعة الحوار الذي دار معها ظلّ مجهولًا تمامًا — وهو ما زاد على أون كيونغ عبئًا آخر ثقيلًا.
كم هو أمرٌ فظيع أن تضطر لملاقاة موت شخص جلست معه وجهًا لوجه وتحادثت معه.
أون كيونغ، وهي تعيد في ذهنها ثِقَل ذلك العبء الذي أُلقيَ على كاهلها، ما لبث وجهها أن تشوّه بانقباضة طفيفة.
فطبيعة الإنسان الذي سيُساق إلى الموت لا تعين أبدًا على طرد النفور الذي يرافق الموقف.
“أقلقني إن كنتُ سأستطيع التحدث وحدي بسلاسة…..لكن سأبذل قصارى جهدي كي لا أكون عبئًا.”
ثم أضافت في سرها: وحتى إن لم أخرج بمعلومة تُذكر، فلتسامحني.
فهمت أون كيونغ من الغلالة الشفافة من الأسف التي غطت ملامحه، فاختارت أن تجيبه بلهجة أخف، وكأن قلقها لا يتعدى خشيتها من ألّا تتمكن من استخلاص ما يكفي من المعلومات من مارغريت غيلفورد.
وكان آرثر مدركًا لمحاولتها لتلطيف الأجواء، ففتح فمه وكاد يتكلم، ثم اكتفى بابتسامةٍ مشوشة مستسلمة.
**
لحسن الحظ، كان ميتم مارغريت غيلفورد في مكان ليس بعيدًا عن لندن.
أما مكان الإقامة فاختير أبعد قليلًا عن الميتم، لكنه لم يكن بعيدًا بما يجعل الوصول إليه سيرًا أمرًا شاقًا.
وصل آرثر قبل الموعد بيوم، وألقى نظرةً على المكان من حوله وهو يتأمل برضا ويهز رأسه بخفة.
كان الموقع بعيدًا عن صخب المدينة، وبُني الميتم في منطقة هادئة لا يبدو أنها تحمل أي تهديد، بل أضفت أجواؤها المسالمة شيئًا من الراحة وساعدت على تبديد التوتر.
_______________________
آرثر مابه تفسير لبرودة الفجأة الا المسرحيه لاعبه بعقله ولا شلون توه يقول احبها وش ذاه ليه متغير طيب؟ استرجل!
واليزابيث يمه يوم راحت اون كيونغ للاستراحة حسبت اليزابيث اغمى عليها طلعت واعيه بس بدون روح 😭 وجع
وإدوارد قلبو المظلوم شخبارك؟ حتى هو للحين ماعرفنا داخل المسرحيه ولا شخصيته صدقيه
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات