الأنفاس التي كانت تملأ رئتيها تدفقت خارجًا بلا توقف.
وهذه المرأة التي كانت تصدر أصواتًا متقطعة وتخدش الأرض بأصابعها ما لبثت أن تيبست جثتها.
كانت همهمة مهشمة لا تكاد تُفهم، لكن هو وحده عرف أنها نطقت باسمه.
الصدمة كانت مباغتةً لدرجة أنه لم يستطع حتى البكاء. و لم يفعل سوى أن يختبئ في الظلال، ضاغطًا شفتيه بقوة وهو يرتجف، حتى فرّ الرجل الذي قتل أمه بعد أن جمع بعض الأشياء ذات القيمة.
حينها فقط نهض مترنحًا.
لقد كان قتلًا بدافع السرقة.
ومع أن بيته لم يكن يحوي الكثير مما يُسرق، إلا أن ذلك الرجل اختاره هدفًا. ولم تأتِه الفرصة يومًا ليسأله عن السبب.
رغم أنه رأى ملامح الرجل بوضوح، إلا أن القليل فقط تحركوا للقبض على الجاني.
“همم…..الأمر صعب.”
ومع ذلك، لأنها جريمة قتل، جاءت الشرطة.
لكنهم ظلوا يخدشون رؤوسهم بحيرة، عاقدين أذرعهم، يحدقون في بركة الدم اليابس، قبل أن يخلصوا إلى استنتاج مفاده أن العثور على الجاني عسيرٌ لعدم وجود أي أثر.
و لم يمضِ نصف يوم على البحث حتى طُويت القضية.
لكن، كيف يمكن…..
“أ…..أنا رأيت وجه القاتل.”
قال آرثر ذلك وهو يتمتم متلعثمًا، ممسكًا أحد رجال الشرطة الذي كان يهم بالانسحاب بوجه لا مبالٍ.
كيف لهم أن يتخلوا عن القضية بهذه السهولة؟
“أيها الصغير..…”
الشرطي المجهول الذي كان يحدّق في وجه آرثر الأزرق من شدة الخوف حاول أن يتمالك ملامحه. لكن الضيق الذي لم يستطع إخفاءه كان يتساقط من بين شفتيه كلما تحركتا.
تردد قليلًا يفكر بما يمكن أن يقوله، ثم ما لبث أن افتعل صوتًا متوددًا على عجل، وكأنه حتى ذلك بات متعبًا له،
“يبدو أنكَ صُدمت كثيرًا، الأفضل أن تهدأ أولًا.”
كانت كلماتٍ تحمل في طياتها إيحاءً واضحًا بأنه ربما لم يرَ ما ظنه رأى.
فارتبك لسانه. لو طُلب منه لوصف القاتل لتمكن من فعلها في تلك اللحظة بالذات.
كان ضخم الجثة، بارز الفك، شعره الأشقر الباهت كان مقصوصًا قصيرًا بشكل غير مرتب…..
“إن كان يتبادر لذهنكَ شيءٌ حقًا، فعد إلينا عندها. نحن أيضًا سنواصل البحث.”
كلماتٍ دارت في فمه بلا جدوى.
أمّا آرثر، فلم يفعل سوى أن يراقب الشرطة وهم ينسحبون مسرعين، بعد أن ربتوا على كتفه مرتين ببرود، ليُخرج أخيرًا تنهيدةً مكتومة كانت تسد حلقه.
ازداد شعوره بالقهر لأنه أدرك أن كلماتهم لم تكن سوى حشو بلا معنى. ومنذ تلك اللحظة عقد العزم أن يصبح شرطيًا.
آرثر لونزديل نشأ رجلاً لا يعرف المرونة، مفعمًا بالحماس، لا يترك ما أوكل إليه إلا بعد أن ينهكه تمسكًا به.
لم يكن يُعير مكانة المرء الاجتماعية اهتمامًا. و كان يدرك أن كثيرين ينظرون إليه بغرابة لهذا السبب، لكنه لم يستطع أن يدير ظهره للفقراء.
فقط إن استطاع أن يحول دون أن يعيش شخصٌ آخر ما عاشه هو، كان ذلك كافيًا لإرضائه.
لذلك، حين وقعت جريمة قتل توماس تيرنر، أقسم آرثر ألا يتخلى عن القضية حتى النهاية.
“أنا…..أعرف.”
ومع ذلك، كان توماس تيرنر أوفر حظًا منه.
“أعرف قاتل توماس تيرنر.”
إذ كان هناك شاهدٌ تجرأ على الإدلاء بشهادته، وكان هناك من استمع إليه باهتمام.
إليزابيث ريدل. المرأة التي عرّفت نفسها بكونها خطيبة القاتل، وقد كان وجهها شاحبًا كالنعش.
ملامحها بلا شك كانت مرتعبة، لكنها لم تتوقف عن الكلام.
رغم تلعثمها، كانت تواصل كلماتها بعناد، وهو مشهدٌ أعاد إلى ذهنه طفولته.
ربما لهذا السبب لم يستطع أن يصرف بصره عنها. فذلك الوجه المذعور ظل عالقًا في ذهنه.
كان يعرف جيدًا أن من يشهد جريمة قتل يُحكم عليه بأن يعيش في جحيم من العذاب. لذا حاول أن يلين نبرته الجافة، لعلها تجد بعض الطمأنينة فيه.
كان يريد أن يمنحها ذرةً من الثقة والراحة. مجرد بادرة لطف، كما لو أنه يمنح صدقة لطفل صغير.
ولحسن الحظ، أظهرت إليزابيث ريدل بعد وقت قصير علامات ثقة به. وذلك أفرحه قليلًا.
حتى وهو يلتقط أنفاسه بين الشهادات ويلاحق التفاصيل، كان يجد نفسه أحيانًا يفكر فيها.
لم تكن أفكارًا عظيمة أو عميقة. بل مجرد رجاء ألا تظل سجينة ذكرى لحظة القتل، أو أن تتخلص قليلًا من عذابها.
وكان أحيانًا، بين الحين والآخر، يعيد تجميع شذرات الحكايات عن القاتل.
“قلتِ أنه خطيبكِ.”
إن كان ما يكنه لإليزابيث ريدل قلقًا خالصًا، فإن مشاعره تجاه إدوارد هاملتون كانت أكثر تعقيدًا.
اشمئزاز من قاتل ارتكب جريمة، وشيء من الفضول حول سبب إقدامه عليها، ومع ذلك….قليل من الـ….
‘لا.’
قطع أفكاره، مقطبًا جبينه.
الغوص أكثر في ذلك لن يجلب خيرًا.
لم يدرك بعد حتى ماهية تلك المشاعر، لكنه أدرك بالفطرة أنها قد تؤذيه.
كلما ازدحم رأسه بتلك الهواجس التافهة، انغمس أكثر في عمله. و كان يرهق نفسه بالتحرك، يسهر الليالي، حتى صار عقله المرهق بما فيه الكفاية ليصد أي شرود عميق.
وعندما بلغ بالكاد حد الرضا، واجه من جديد إليزابيث ريدل.
كان ذلك يوم لقائه بكاثرين ميلر.
منذ الصباح، بدت بوجه غريب وسلوكٍ شارد، لا تفعل شيئًا سوى الإيماء برأسها مهما قال لها.
‘آخر مرة التقينا لم تكن على هذه الحال.’
ترى ما الذي جرى في هذه الأثناء؟
وهو يتظاهر بتفحص الأوراق التي جلبها، كان يسترق النظر إلى وجهها بتمعن.
وما إن انزلقت عيناها إلى وجهه، حتى سارع هو بخفض رأسه، شاعرًا بنظراتها تتجول على ملامحه.
شعر آرثر بشيء من الحرج، فقلب بضع أوراق بلا معنى قبل أن يتظاهر بالهدوء ويتحدّث،
“لا تحدقي بي هكذا، من الأفضل أن تنامي الآن.”
“…..لستُ متعبةً إلى هذا الحد.”
احمرّت أطراف أذني إليزابيث ريدل، وما إن ارتسمت ملامحٌ على وجهها حتى بدا فيه بعض الحياة.
فتنفّس آرثر الصعداء في داخله، ثم أجابها بنبرة مازحة قليلًا،
“إن قلتِ ذلك بوجه شاحب كالثلج، فمن عساه يصدقكِ؟”
حرّكت شفتيها كأنها تود الاعتراض، لكنها سرعان ما استسلمت وأغمضت عينيها.
و لم يطل بها الأمر حتى بدأ تنفسها يستقر منتظمًا، فخفض هو بصره إلى الأوراق التي كانت بين يديه.
غير أن السطور المكتظة لم تدخل عينيه أبدًا.
ظل يحدق في ركبتها التي تلامست بخفة مع ركبته، ثم زفر أنفاسًا قصيرة وأعاد ليجمع الأوراق.
إليزابيث ريدل كانت قد غرقت في نوم ثقيل، و وجهها منقبضٌ حتى بدا مؤلمًا للناظر. و لم يمض وقت طويل على نومها، لكنها بدت وكأنها عالقةٌ في كابوس.
أسند آرثر ذقنه إلى يده يراقبها مطولًا، ثم من غير وعي مد يده برفق يضغط على ما بين حاجبيها.
‘ما الذي يعذبكِ إلى هذا الحد؟’
سحب يده من فوق بشرتها الشاحبة وهو يميل رأسه جانبًا.
القلق الذي شعر به تجاهها ألقى بظلاله على وجهه.
ولحسن الحظ، ما لبثت أن تقلبت قليلًا حتى استرخى وجهها وأخذ هيئةً أكثر هدوءًا.
آرثر، وهو يراقب ذلك كله، لم يملك إلا أن شعر بإحساسٍ غريب يداهمه.
دقّ جرسٌ ما، فقفز إلى الخلف وكأنه ارتكب إثمًا.
ارتد جسده على ظهر المقعد، فلم يجد مجالًا للتراجع أكثر. و ساوره شعورٌ جارف بالرغبة في الفرار.
زم شفتيه وكاد يبكي، ثم عقد ذراعيه بعناد وهو يحدق في وجهها.
‘يجب أن أضع بعض المسافة بيننا.’
لقد انغمس في شأنها أكثر مما ينبغي.
حين تستيقظ، عليه أن يعاملها بقدرٍ من البعد.
“عـ…..عفوًا، هل يمكنني…..الدخول قليلًا؟”
هكذا كان يفكر…..لكن، حين انتبه لنفسه، كانت إليزابيث ريدل قد دخلت غرفته بالفعل.
لا، لكن لم يكن بوسعه غير ذلك. فهل يعقل أن يترك خائفةً وحدها لمجرد أن حالته بدت غريبة؟
جلب لها كرسيًا وبطانية، وظل يحدّثها حتى غلبها النوم، ثم جلس بوجهٍ مضطرب.
وفي لحظة خاطفة أقنع نفسه بمبررات كافية، غير أن وخزًا من تأنيب الضمير سرعان ما اخترقه.
وما إن حمل إليزابيث النائمة بحذر إلى السرير، حتى تضخم ذلك الإحساس بالذنب داخله.
‘ماذا أفعل الآن؟’
بما أنها نامت في غرفته، فمن الصواب أن يذهب هو لينام في غرفتها.
لم يمض وقتٌ طويل منذ وصولها حتى تفك أمتعتها، لذا لا بد أن الغرفة ما تزال كما كانت عند قدومها.
لو اعتبر الأمر مجرد تبادل غرف لكان أهون. لكن قدماه لم تطاوعاه على الرحيل…..
قبض يديه حتى ابيضّت مفاصله، وابتلع تنهيدةً حارة.
كان يخشى أن تستيقظ مرعوبةً وحدها في الظلام. وكان في داخله حذرٌ مبالغ فيه من أن يعود صاحب الخطوات التي قالت أنها سمعتها.
هكذا بدا السبب في الظاهر.
جلس على الكرسي يحدق في ملامحها الغارقة في عتمة موحشة.
لم يكن ضوء القمر يصلها، فلم يرَ إلا هيئةً باهتة مهددة بالانمحاء. و شعر وكأن صدره غارقٌ حتى ذقنه في الماء، مثقلًا بالاختناق.
ولأنه هو الآخر توارى في الظلام، راوده اندفاعٌ لأن يواجه قلبه. و مهما وُصف بالجبن، كان ذلك لونًا من الشجاعة.
لم تعد مشاعره مجرد قلق، بل عاطفةٌ حانية تهزّه برجفة لذيذة.
لقد كان يعرف اسم هذا الشعور. إحساسٌ لا يُوصف اندفع إلى حنجرته حتى كاد يخنقه، ثم انحسر عنه كالمدّ المنكسر.
“…..إليزابيث.”
وفي النهاية، لم يجد بُدًا من الاعتراف بأنه يحبها.
_______________________
يحبهااا! ارحب يالطرف الثالث😘
توقعت انه عاش طفولة تحزّن و توقعت انه يتذكر اليزابيث قبل ترجع بالزمن خساره طلع لا😔
بعد ذا الفصل ماعاد ادري من البطل إدوارد ولا آرثر😭
المهم المؤلفه خذت بريك بعد الفصل الي راح وعطتنا قصة آرثر تسكيته🌝
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات