حينها عبست شفتاها وكأنها توشك أن تتكلم، لكنها ما لبثت أن استعادت هدوء ملامحها، فبدا أن آرثر هو الآخر قد عدِل عن سؤاله وأدار رأسه إلى الأمام.
حتى لحظة وصولهما إلى مكتبه، لم يتبادل الاثنان أي كلمة. و كانت أون كيونغ تفكر أن ذلك أريح لقلبها، فكبحت كل ما يملأ صدرها.
إذ إن الكلام لن يجلب لها سوى المشقة. إن نطقت بتلك الحقائق فسوف يعود الزمن إلى الوراء، وحينها لن يتذكر آرثر أي شيءٍ مما دار بينهما.
و في النهاية لم يكن أمامها سوى الاحتمال بمفردها.
أدركت أون كيونغ أن الصدمة التي ستنالها من اليقين بأنها ستظل وحيدة، أشد وقعًا من السكينة الزائلة التي قد تحصل عليها بمجرد البوح.
‘أتمنى فقط ألا يواصل سؤالي.’
هكذا فكرت وهي تشد قبضتها بخفة وتكتم تنهيدة.
بعد أن صرف الناس وهيأ لها مقعدًا، جلس آرثر قبالتها. حينها فقط استؤنفت محادثتهما.
“إذاً، سأحدثكِ قليلًا عمّا توصلت إليه. وإن رغبتِ فبإمكاني أن أُحضِر لكِ الشاي.”
“لا بأس، لست بحاجةٍ للشاي.”
رفضت أون كيونغ بلطف وهي تميل رأسها جانبًا.
“لكن…..ما الذي تقصد أنكَ توصلت إليه؟”
لم يمضِ سوى يوم واحد، فبأي أمر يمكن أن يكون قد توصّل؟
تسلّل قلقٌ طفيف ليأكل قلبها ببطء.
بينما أومأ آرثر نافيًا بخفة وكأن الأمر ليس جللًا، ثم التقط بضع أوراق من بين كومة الملفات.
“ليس بالأمر المهم. لم أكتشف دليلًا جديدًا، إنها مجرد مذكرة قصيرة عن شبكة علاقات الضحية.”
قلب الأوراق بين يديه وهو يُكمل بلهجة تقريرية،
“يبدو أنه كان يرتكب ما يكفي لاستجلاب الضغائن. كثيرًا ما لوّح بقبضته في وجوه زملائه، ولم يكن من النادر أن يطلق الشتائم.”
لم تكن ملامح آرثر سعيدة بما يرويه. فقد كانت أون كيونغ تظن أنه سيبدي على الأقل شيئًا من الارتياح لمصرع رجل شرير كهذا، لا سيما وهو يتعقب المجرمين حتى نهايتهم.
وإذ تتأمل وجهه باستغراب، تحدّثت كأنها تختبره،
“بكلمة أخرى، هو شخصٌ يستحق الموت.”
كان النطق بالموت أمرًا ثقيلًا، لكنها لم تجد بدًا من ذلك كي تلتقط رد فعل آرثر.
عند كلماتها، توقفت يده لحظة. و قطّب جبينه قليلًا ثم أجاب بصوت جاف،
“لا يوجد في هذا العالم من يستحق الموت. بالطبع، الأمر يختلف حين يتعلق الأمر بالمجرمين…..لكن، حتى مع ذلك، من الصعب أن أوافق على فكرة أن الموت يجب أن يكون ثمنًا للذنب.”
أجاب بنبرة حازمة، رافضًا موافقتها، ثم واصل ما كان قد أعده من كلام.
وبينما تصغي أون كيونغ، غاصت في أفكارها.
بدت آثار ذكريات سيئة مرتبطة بالموت عالقةً بآرثر بقوة.
و كانت تحدّق في وجنته التي شحب لونها من غير أن ينتبه، ثم أطرقت ببصرها.
“وبالنسبة إلى صلته بإدوارد هاميلتون..…”
تابع آرثر تقريره قبل أن يتوقف قليلًا.
كانت أون كيونغ شاردة الذهن، لكنها عادت تركّز لا إراديًا على تلك الجملة.
“يبدو أنهما من نفس دار الأيتام. دار ماريغريت غيلفورد.”
“آه…..”
تسرب أنينٌ قصير من بين شفتيها.
آرثر، الذي بدا كأنه توقّع جهلها بذلك، ألقى نظرةً سريعة على ملامحها قبل أن يتابع،
“أما التفاصيل، فلن نعرفها إلا بمقابلة من خرجوا من نفس دار الأيتام.”
“حسنًا، آرثر…..هل بوسعي أن أرافقكَ حين تستمع إلى شهادات الآخرين؟”
كان آرثر يتهيأ لإنهاء النقاش عند حدود الألقاب، لكنه تجمد للحظة عند سماع طلبها غير المتوقع. و ظل صامتًا، متحفظًا وكأنه لا يرغب، لكن أمام إصرارها لم يجد إلّا من القبول.
“…..لن يكون بمقدوركِ مرافقتي في كل مرة.”
وإن كان قد قيّد الأمر بشرط أن يحدث نادرًا، إلا أن أون كيونغ وجدت في ذلك ما يكفيها من الرضا.
فالمفاجئ أصلًا أنه لم يقطع الأمر بصرامة رافضًا مشاركة شخص عادي في مجريات التحقيق. وقد كانت مستعدةً للاستسلام، لكنها هذه المرة أومأت برأسها بوجه يزداد إشراقًا بخفة.
نظر آرثر إلى عينيها الضيقتين المنحنية الأطراف، وزفر ببطء، ثم تحدّث بصوتٍ جاف.
“عليكِ أن تعلمي أن الأمر غير مسموح به.”
“بالطبع. سأبقيه سرًا.”
‘حتى لو خرجت إلى الشارع وصرخت بأعلى صوتي، فلن يصغي إليّ أحد على أي حال.’
هكذا فكرت أون كيونغ وهي تجيب بسرعة. أما آرثر فظل يقطب جبينه مرارًا وكأنه لا يفهم كيف سمح لنفسه بقبول طلبها، ثم استسلم أخيرًا وهز أنفه بامتعاض.
لقد فات الأوان بالفعل. والتفكير في الماضي ندمًا لا يجدي، فالأفضل أن يبحث المرء عن طريقة لتدارك الأمر.
نظر إليها بوجه متجهم، محذرًا إياها مرارًا وتكرارًا، ثم رتب الأوراق بعناية ودفعها إلى زاوية المكتب.
“هل لديكِ أي استفسار آخر؟”
كان سؤالاً ألقاه بخفة، لكنه أخرج من أون كيونغ أنينًا قصيرًا.
ترددت إن كان عليها البوح بما يجول في خاطرها، لكنها سرعان ما حسمت أمرها وتلعثمت قليلًا قبل أن تجيب،
“ليس استفسارًا في الحقيقة…..بل بشأن ما سألتكَ عنه قبل قليل، إن كان بوسعي مرافقتكَ لسماع الشهادات.”
بدا على آرثر الضيق، وكأنه لم يعجبه عودة الموضوع الذي كان قد انطفأ للتو. فقطّب أنفه حتى تجعد، ثم أومأ برأسه كأنما يأذن لها بمتابعة الكلام.
ابتسمت أون كيونغ بخفة، ثم تحدّثت بنبرة تبدو غير مكترثة،
“كما أوصيتني منذ قليل، لا داعي لأن تستدعيني في كل مرة تذهب فيها لسماع الشهادات. لكن…..حين تلتقي بمدير دار الأيتام، هل يمكنكِ أن تصحبني؟ لدي بعض الأسئلة الخاصة عن إدوارد.”
أصغى آرثر لكلماتها بهدوء، ثم أومأ موافقًا من دون تردد.
كانت قد أعدّت مسبقًا أعذارًا لتبرير طلبها إن أبدى انزعاجًا، لكنها أرخَت كتفيها بارتياح حين لم يرَ في الأمر حرجًا.
كانت تفكر أنه إن لم يوافق، فستذهب بمفردها على أية حال، لكن لمَ لا ترافقه وحسب؟
“لا أظن أن ذلك سيكون صعبًا. حسنًا، فلنفعل ذلك.”
شرع يحسب في ذهنه المواعيد الممكنة، ثم حدد تاريخًا مناسبًا وأخبرها أنه سيتواصل معها مجددًا، قبل أن يطيل النظر إليها.
كانت نظرةً ثقيلة، موغلة في الإرباك.
حاولت أون كيونغ أن تدير عينيها لتتجنبها، ثم استسلمت وسألته بنبرة حذرة فيها شيء من الريبة،
“…..هل لديكَ ما تريد قوله؟”
“ليس تمامًا.”
قال ذلك، ثم صمت، وأطلق زفرةً طويلة وهو يهز كتفيه بلا حول.
“لا يروق لي أن أدعكِ ترحلين هكذا. فقد جلبتكِ إلى هنا بعد جهد.”
كانت نبرته أخف مما توحي به كلماته. لكن أون كيونغ لم تكن تملك الطاقة لتبحث عن معنى خفي فيها، ثم إن آرثر كان يتحدث بوجه شديد الهدوء.
بدت عبارته أقرب إلى حرص صادق على حماية شاهدة، لا إلى قول ينطوي على مغزى آخر، وهذا ما جعلها تبتسم للحظة.
التقط آرثر ضحكتها وأكمل بهدوء،
“لو علمتُ أن الأمر سيكون هكذا، لحققت أكثر قبل أن أستدعيكِ.”
“لا بأس. ثم إنني حين أعدتُ التفكير في حديثكَ، خطر لي أمرٌ ما…..أقصد، لو كان مسموحًا أن أبوح برأيي.”
ترددت أون كيونغ قليلًا وهي تسترق النظر إلى رد فعله، ثم بدأت حديثها.
كان عليها أن تقول ذلك إن أرادت ألا يختل ترتيب الأحداث، لكنها الآن صارت تخشى أن يستاء من كلامها.
غير أن آرثر أومأ بخفة مشجعًا،
“تفضلي.”
“…..أظن أنه لا بأس إن تأخرنا قليلًا في مقابلة مدير دار الأيتام. دار مارغريت غيلفورد.”
ارتخت شفتا آرثر قليلًا نحو الأسفل، لكنه لم يُبدِ انزعاجًا من قولها. وحين أدركت أون كيونغ ذلك، تنفست الصعداء في سرها، ثم استقامت في جلستها لترد على سؤاله التالي،
“ولِمَ تظنين ذلك؟”
كان يسأل حقًا بدافع الفضول. أما هي فغرقت في الحيرة، لا تدري بمَ تجيب.
فلو قالت أن شخصًا آخر يجب أن يموت قبلها ليبقى تسلسل الأحداث صحيحًا، فسيظنها مجنونةً لا محالة، وسيؤثر ذلك في مجرى الحكاية أيضًا.
لكن الأدهى أنها لم تكن لتحتمل نظرة آرثر حين يراها كائنًا مثيرًا للشفقة، عصيًّا على الفهم. فهو الوحيد الذي يمكن أن تثق به وسط كوابيسها.
فكرت طويلًا في مبرر مقنع، ثم حاولت أن تصوغ كلماتها بأكبر قدر من التماسك،
“أعتقد أن الأطفال الذين نشؤوا مع إدوارد والضحية في ذلك الوقت، سيملكون ذاكرةً أوضح مما يتذكره الراشدون. قد يكون لدى الصغار أسرارٌ عرفوها أو أخفوها، بينما غابت عن الكبار.”
كانت تلك أقصى ما تستطيع قوله من دون أن تُفشي الكثير، خصوصًا وأن <الكابوس> لم يمنحها شهاداتٍ تُذكر أصلًا، فاقتصر كلامها على فتح باب الاحتمال فقط.
إذ إن عنف توماس تيرنر استمر طويلًا تحت صمت أقرانه.
و مارغريت غيلفورد كانت تعلم أن إدوارد يتعرض للعنف على يد توماس تيرنر، لكنها غضّت الطرف متعمّدة. فبحسب مقاييسها، لم يكن إدوارد طفلًا يملك فرصةً للذهاب إلى عائلة تبنٍّ جيدة.
لقد أولت سمعتها أهميةً قصوى. فالأطفال الذين رأت فيهم حظوظًا بالانتقال إلى بيت كريم، وقدرًا من المكانة الاجتماعية، كانت ترعاهم بكل عناية واهتمام. أما الآخرون، فكانت تدفعهم إلى الظل وتتركهم للإهمال.
وإدوارد كان من الصنف الثاني. طفلٌ هزيل، لا يملك ملامح جذابة، ولا طبعًا مطيعًا.
لم يكن أحدٌ ليتبناه، بل إن السؤال الحقيقي كان: هل سيتمكن أصلًا من البقاء حيًا بعد مغادرته دار الأيتام؟
وهكذا تلاشى اهتمام مارغريت غيلفورد به شيئًا فشيئًا.
لكن على النقيض من حقيقتها، فقد عُرفت للعامة بأنها مديرة دار أيتام عطوفة وطيبة القلب. و ظهرت في الصحف مرارًا، وكانت كل مرة تُستقبل بفيض من المديح والثناء.
أما الحقيقة، فلم يكن يعرفها سوى أولئك الأطفال الذين خرجوا من بين جدران ذلك المكان.
و آرثر، الذي كان يحمل صورةً مسبقة عن مارغريت غيلفورد، لم يلبث أن أبدى شكوكه حين سمع كلام أون كيونغ،
“لكنها دار الأيتام التابعة لمارغريت غيلفورد، أليس كذلك؟”
كان صوته واثقًا، وكأن مجرد الاسم وحده كفيلٌ بأن ينفي وجود مشكلة.
اسمٌ يزكيه السادة والسيدات، اسمٌ ارتبط في ذهن الجميع بأناس نشؤوا وصاروا أشخاصًا ناجحين.
فهزت أون كيونغ رأسها معارضة،
“قد يكون هناك ما لم تستطع هي نفسها أن تدركه.”
أمال رأسه ببطء، وكأنه لا يستوعب تمامًا، ثم أخذ يفكر متأنيًا، ينقر بأصابعه على الطاولة.
لم يكن الأمر مقنعًا في البداية، لكنه كلما حرّك عقله، بدا له أنه ليس بفكرة سيئة.
كان يخطط أصلًا لزيارة دار مارغريت غيلفورد قريبًا، وتأجيل الموعد قليلًا لن يؤثر على مجرى التحقيق. ففي النهاية، عليه على أي حال أن يلتقي ببعض من نشؤوا هناك.
وما إن بلغ تلك الخلاصة حتى التقت عيناه بعينيها، وفي نظرتهما ما يشبه الإقرار بقبول رأيها.
عندها عضّت أون كيونغ شفتها في صمت.
“حسنًا. إذاً سأحقق أولًا مع من كانوا في الدار في نفس الفترة مع الضحية، ثم سأتواصل معكِ مجددًا.”
أومأت أون كيونغ موافقة، ثم رتبت وضعها ونهضت من مكانها.
بينما تابع آرثر حركتها بعينين فيهما قليلٌ من الاستغراب، ثم ما لبث أن نهض بدوره على عجل.
و كانت يده قد أمسكت بالفعل بالمعطف المعلق على الكرسي.
“إن كنتِ عازمةً على العودة، فسأوصلكِ بنفسي.”
“أشكركَ على لطفكَ، لكنني سأرفض.”
أجابت هذه المرة بنبرة أكثر صلابة من قبل، وهي تضم يديها برفق.
“إذاً، إن تذكرتُ شيئًا آخر لاحقًا، أو أردتُ أن أضيف شيئًا، فسألقاكَ مجددًا.”
شكرته أون كيونغ بصوت هادئ، ثم غادرت ببطء مكتب آرثر.
ولم يكن الموعد القادم بعيدًا. فآرثر، حالما يسمع من أبناء الدار أن إدوارد وتوماس تيرنر كانا يتلقيان الدروس عند نفس الأستاذ، سيأتي ليبحث عنها من جديد.
_____________________
وبكذا انتهى خيط القاتل وإدوارد ماطلع الا يوم دْبح أون كيونغ😭
آرثر يحليله حلو بس ناه مب من معايير البطل الرايع
المهم كأن اون كيونغ زانت نفسيتها شوي 🤏🏻
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 19"