عندها فقط بدأت أون كيونغ تفهم، فأومأت برأسها في صمت.
لطالما بدت نصائحه غريبة، لكنها كانت من أجل الشهادة إذاً.
أجل، فهي الشاهدة الوحيدة، وما من دليل حقيقي متبقٍّ، فوجودها بالغ الأهمية. وإن أرهقها المرض فأضاعت خيطًا مهمًا، لكان ذلك كارثة.
“شكرًا لكَ، سأضع ذلك في اعتباري.”
تمتمت بامتنان هادئ. بينما راقبها آرثر بنظرة يصعب وصفها، رمش طويلًا ثم زفر ببطء، كأن صدره مثقل بالضيق.
بدا وكأن ثمة ما يود قوله، لكنه يكبحه بالقوة.
“…..نعم، على كل حال. يجب أن تنامي جيدًا.”
أنهى حديثه بوجه متبرّم، قبل أن يسعل متصنّعًا محاولًا تغيير دفة الكلام.
وبيد متأنية أخرج من حقيبته أداة التدوين، فإذا ببريق حاد يشعّ في عينيه، مختلفٌ تمامًا عن حاله قبل قليل.
عندها شدّت أون كيونغ ظهرها مستقيمة، متوترة.
وبينما كان يقلب القلم بين أصابعه، انطلقت أسئلته.
مسار الحوار لم يختلف كثيرًا عن المرة السابقة. و ظلت أون كيونغ محافظةً على هدوئها وهي تجيب.
وكما في المرة الماضية، حين قالت أنها رأت خطيبها، انعقد جبين آرثر دهشةً وحيرة.
فأوقفها لحظة، غارقًا في التفكير، ثم غاب ذهنه عنها تمامًا، يحدّق في الورق ويتمتم بكلمات متقطعة.
التقطت أذنها عبارات مثل “الخطيب” و”النوم العميق”، ففهمت تقريبًا أي سوء فهم يقوده تفكيره.
لكنها تظاهرت بعدم السمع، متعمدةً الصمت.
أن يظن أن صدمتها بسبب خطيبٍ قاتل أفضل ألف مرة من أن تكشف له حقيقة عودتها بالزمن.
و طال صمته وهو يتأمل، ثم فجأة رفع رأسه. فوجئ بعينيها مركّزتين عليه، فأطبق فمه مرتبكًا، وتمتم بكلمات واهنة،
“فلننتقل إذاً إلى السؤال التالي.”
“نعم.”
“لقد قلتِ البارحة أن الضحية كان أحد معارف خطيبكِ القدامى، أتعلمين طبيعة علاقتهما؟”
“ذلك لا أعرفه. فما إن بدأ الحديث…..حتى وقعت الحادثة.”
صوتها تعثر، متقطعًا عند لفظ كلمة “الحادثة”، لكنها واصلت إلى النهاية.
زفر آرثر ببطءٍ وهو يصغي. ثم تواصلت الأسئلة والأجوبة، حتى انتهى الاستجواب كما في المرة السابقة.
حاولت أون كيونغ أن تُسكِت قلقها وهي تتهيأ لوداعه. غير أن أثر خنجر إدوارد ظل أعمق من طيف توماس تيرنر، وما إن فارقته عيناها حتى عاد الخوف يزحف ببرودة على عنقها.
فقبضت يدها لتكبح ارتجافها.
“أشكركِ على ما قلتِ، شهادة الآنسة ريديل كانت عونًا كبيرًا.”
“يسعدني أنها أفادت.”
“وإن خطر ببالكِ شيءٌ آخر…..”
وما إن بلغ هذا الحد من حديثه، حتى بدا كمن سيقول المزيد، غير أنه عقد وجهه فجأة، وكأن شيئًا صلبًا وثقيلًا علق في حلقه، فابتلعه على عجل وختم كلامه باضطراب.
“تواصلي معي في أي وقتٍ تشائين.”
“…..نعم.”
لم تُمنح لها تلك المودة الخجولة التي تلقتها منه من قبل. فأجابت ببطء وقد غمرها شعورٌ طفيف بالخيبة، إذ أن كلماته السابقة كانت قد منحتها عونًا كبيرًا، وكان فقدانها مؤسفًا بحق.
راح آرثر يحدق في ملامحها وكأن وجهها لم يزل يشغله بغير ارتياح. وحين أدرك أن في نظره تجاوزًا، صرف بصره سريعًا، غير أن العبوس بقي مطبوعًا على محيّاه.
ومع ذلك لم يُضف كلمةً أخرى.
ودّعته أون كيونغ ببطء ثم دخلت إلى غرفتها بخطى متثاقلة.
كانت قد عقدت العزم على ألا تخرج مطلقًا حتى يحين دورها في المشهد التالي. فقد كان هناك خدرٌ بارد من الخوف أخذ يسري في أطراف أصابعها.
لكن خطتها لم تكتمل.
“لقد جئت ثانيةً، فما زال هناك ما يثقل صدري.”
فقد ظهر آرثر عند بزوغ الفجر في اليوم التالي.
“…..ما الأمر؟”
سألت أون كيونغ بدهشة وهي تستقبله، وقد غشّى بياضٌ وجهها مسحة حذر خفي.
لم يخطر لها يومًا أن تقع في مثل هذا الموقف.
فانكمشت شفتاها بتوتر، إذ لم تكن قد تهيأت لاستقبال زائر على الإطلاق.
ما الداعي لقدومه أصلًا؟ لقد ظنت حين افترقا بالأمس أنهما لن يلتقيا ثانيةً في وقت قريب.
وهكذا أرسلت إليه نظرةً ضيقة متفحصة.
وقف آرثر أمامها متردّدًا، وكأن نفسه لا تدري لما ساقته قدماه إلى هنا، حتى لمح العبوس الطفيف الذي ارتسم على ملامحها، فوجب عليه أن يتكلم.
“قد يصعب عليّ الإفصاح بالأمر الآن…..لكن، هل تملكين قليلًا من الوقت؟”
أما الوقت فكان متاحًا. فلم يكن لديها موعد، ولا كان عليها أن تظهر في أي مشهد أو واجهةٍ في تلك اللحظة.
و عندما رآها تهز رأسها بالإيجاب، بدا على آرثر ارتياحٌ خفي وهو يتابع،
“ربما يحسن أن نغيّر المكان…..لكن إن تعذّر ذلك، فأستأذن ببقائي هنا قليلًا.”
“لا بأس.”
على أي حال، حتى لو خرجت، فلن يأبه أحد.
فأجابته باستخفاف، غير أن لمحةً غامضة عبرت وجهه لحظة، كأنها إشارة استغراب عابرة، ثم محاها بمهارة.
لكن أون كيونغ كانت قد التقطت تلك الملامح وسجّلتها في خاطرها. فأرسلت إليه ابتسامةً خافتة.
ربما عائلة ريديل، الذين لا يعيرون تحركاتها اهتمامًا، قد بدوا في عينيه موضع شبهة.
“لكن، أظن أن عليّ أن أستعد للخروج. إن سبقتني وأخبرتني بالمكان، فسألحق بكَ فورًا.”
“لا، سأنتظر.”
أجاب قاطعًا، وتهيأ للانتظار عند المدخل. فانكمشت شفتا أون كيونغ في حرج. فلم يكن بوسعها أن تُنهي استعدادها في وقت قصير.
كانت قد غيّرت ثوبها على عجل حين سمعت بقدومه، غير أنه لم يكن لائقًا للخروج. وكان عليها أيضًا أن تسرّح شعرها، فضلًا عن…..
ترددت كيف تصوغه بعبارة تقنعه بالمغادرة أولًا، ثم استسلمت وأزاحت نفسها خطوةً إلى الجانب. فقد بدا أن تركه ينتظر في الداخل أسرع من محاولتها إقناعه.
“تفضل إذاً.”
لم يمانع آرثر لطفها، فدخل القصر بخطواتٍ واثقة.
رغم أن نظراته الحادة التي كانت تجوب أرجاء القصر أزعجتها قليلًا، لكن أون كيونغ تجاوزت ذلك ببساطة وأرشدته إلى غرفة الاستقبال التي تحدثا فيها بالأمس.
“هل يمكنكَ الانتظار هنا قليلًا؟”
أومأ آرثر برأسه قصيرًا ردًا على كلامها.
فصعدت هي بسرعة إلى غرفتها، و غيرت ملابسها على عجل، و رتبت شعرها بعناية، ثم عادت إلى الطابق السفلي.
كان آرثر ما زال واقفًا بنفس الوضع المتصلب، منتظرًا إياها، كما لو لم يتغير شيء منذ مغادرتها السابقة.
و ظهرت على وجهه علامات التفكير العميق، لكنه سرعان ما جمع تعابيره بعدما التقى بعينيها.
“هل انتهيتِ من التجهيز؟”
“نعم.”
“حسنًا، إذاً سأوضح لكِ سبب قدومي أثناء انتقالنا.”
حتى أثناء خروجهم من القصر، لم تفارق عيناه مراقبة الداخل، كأن شيئًا مخيفًا على وشك الظهور من بين جدرانه.
و لم يترك آرثر النظر حوله إلا بعد أن ابتعد كثيرًا عن القصر.
راقبت أون كيونغ تصرفاته بحذر ثم سألت بهدوء،
“هل اكتشفتَ شيئًا جديدًا؟”
فور ذكر إدوارد هاميلتون كمشتبه به، كان من الممكن أن يؤدي اكتشاف أي دليل إلى إعادة الزمن. قشعرت أون كيونغ بتوتر وهي تنتظر جوابه، لكن آرثر، بخلاف توقعها، أجاب بوجه يبدو عليه بعض الحرج والتردد،
“في الواقع…..لم يكن هناك أمرٌ عاجل جدًا.”
“ماذا؟”
لم تستطع أون كيونغ إخفاء دهشتها، فسألته.
فأغلق فمه للحظة، ثم تابع بصوت يفيض بالقلق،
“لكن بدا لي أنكِ تبقين في حالة ترقب مستمرة…..إذا كان هذا إزعاجًا، أعتذر، لكن شعرت بضرورة أن تخرجي قليلًا من المنزل.”
وأضاف بهدوء،
“وجدت أن الحديث هنا في مكتبي سيكون أكثر أمانًا من أماكن أخرى يتواجد فيها أشخاص.”
ثم حرّك رأسه قليلاً، و أضاف بصوت يائس قليلًا، عابسًا نحو الأرض،
“إذا كان تدخلي غير ضروري، أعتذر. لقد فكرت في أن أترك الأمر، لكن شعرت أنه ربما يكون من الصعب عليكِ الحديث في الوضع الحالي، لذا قررت أن أزوركِ أولًا.”
قدّم آرثر اعتذارًا صادقًا بصوت هادئ ومتروٍ.
حدّقت أون كيونغ فيه ساكنة، فأومأت يرأسها خفيةً مع تجعد طفيف في وجهها، كأن دموعها على وشك الانهمار.
هل وُجد من قبل من اهتم بها بهذا القدر؟
“…..لا بأس. شكرًا لكَ.”
همست أون كيونغ بصوت مكتوم.
ثم التقت عينا آرثر بعينيها بصمت، كما لو كان يحاول التقاط أي تردد قد يلمع في نظرها. فأجابت بهدوء، رافضةً أي شيء يفكر فيه بصمت، وهي تحرك رأسها بلا كلام.
تنهد آرثر بعمق وأدار رأسه.
“سعيدٌ لأن الأمور ليست بخطيرة..…”
قال ذلك بنبرة تبدو أنها ما تزال تشغله.
جمع حاجبيه الكثيفين بقوة ونقل نظره إليها مجددًا. فاجتاحها شعورٌ حاد بانقباض قلبها رغم عدم ارتكابها خطأ، جعل أون كيونغ تحدّ كتفيها قليلًا.
“مع ذلك، من الأفضل أن تكوني برفقة أحدهم بدلاً من الوحدة. فمن الصعب احتمال ما شهدته بمفردكِ.”
لم يذكر كلمة “قتل”، بل اقتصر على عبارة “ما شهدته” ليمنحها نصيحةً مفعمة بالحرص.
“أعلم أن ذلك مؤلم، وأدرك أنه من الصعب عليكِ البوح. لكن إذا شعرت بثقل الأمر، يمكنكِ دائمًا الحديث معي. سأستمع لكِ دومًا.”
قال ذلك بصوتٍ حازم لكنه مليء بالإخلاص.
بدا آرثر كمن يفهم تمامًا وضعها ويتعاطف معه، وكأنه هو نفسه اختبر ألم الجريمة من قبل، وكان وجهه غامقًا وهو يختم كلامه.
فشعرت أون كيونغ بقليلٍ من الاضطراب. و تقدمت موجة القلق إلى عنقها، فحوّلت بصرها بعيدًا، إذ لم تستطع مواجهة عينيه.
و لو نظرت إليه، شعرت بأنها ستبوح بكل شيء دون وعي.
في الحقيقة، هي ليست من هذا المكان. كانت شخصًا عاديًا، ولم تتحمل مشاهدة جريمة القتل بسهولة. وأنها عايشت عدة وفيات…..
لكن كل شيء كان محاطًا بالصمت، فلا مجال للبوح به. لذلك اختارت أون كيونغ الصمت.
_________________________
طيب الصمت يوجه كتمة 😔
والمشكله لو شرحت له انها راجعة بالزمن بيقول شكلس انهبلتي بعد الي شفتيه😭
المهم إدوارد للحين مادرا؟ نايس
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 18"