كان ما فعله آرثر حين عرض مساعدته أمرًا يستحق الامتنان، غير أنّ أون كيونغ لم تستطع أن تطلب منه العون.
فهو في آنٍ واحد الرجل الذي يفترض أن يساعدها في القبض على إدوارد، وهو أيضًا مَن ينبغي أن تخفي عنه الأمر حتى لا يقع إدوارد في الأسر قبل وقوع الجريمة الرابعة.
ثقل المسؤولية ضغط قلبها حتى كاد يخنقها، وظلّت بقايا قلقٍ واهنٍ تنهشها؛ إذ مرّت أيام ولم يعد الزمن إلى الوراء، ما يعني أن أي أثر لإدوارد لم يُكتشف بعد.
لكن……ماذا لو أن عدم العثور على أي أثر له كان بسبب إليزابيث؟ ماذا لو أخفت شيئًا؟
صحيحٌ أن المسرحية لم تُظهر لها مشهدًا تُخفي فيه دليلًا، غير أن فكرة الاحتمال وحدها كانت كفيلةً بأن تملأ رأسها بالتوتر حتى آخره.
لم تكن تريد أن تشهد لحظة موت توماس تيرنر ثانية. غير أن هاجس “التأكد بعينيها” كان يحثّها بدافعٍ قهري.
و فكرة العودة إلى بيت تيرنر وحدها أشعلت في معدتها غثيانًا، لكنها لم تجد سبيلًا آخر.
ثم كظمت أنفاسها المتلاحقة، وأخرجت زفرةً مرتعشة.
منذ لقائها بآرثر شعرت وكأن وطأة ذنبها قد خفّت قليلًا، لكن ما إن تذكّرت أنها مضطرةٌ للذهاب إلى منزل تيرنر، حتى عاد صدرها ينقبض كأنه يُعصر.
فأغمضت عينيها بقوة، متقلصة الوجه، كمن يحاول صدّ الرعب.
وفجأة، ارتفع الدم إلى كاحليها من جديد. و أخذت همساتٌ لا تنقطع تتردد من كل صوب، فما كان منها إلا أن اندفعت خارج البيت كمن يهرب من كابوس.
السماء فوقها اشتعلت بحمرة المغيب. و الشمس أوشكت على الغروب. وكان أملها الوحيد أن تعود إلى القصر قبل حلول الليل.
فإن اضطرّت للبقاء في منزل تيرنر بعد الظلام، فلن يكون بوسعها ضمان تماسك عقلها.
أوقفت على عجل عربةً عابرة، وطلبت من سائقها التوجه نحو حي الفقراء.
لم يترك لها العرض هذه المرة أي وسيلةٍ انتقال جاهزة، فلم يكن أمامها سوى الاعتماد على ذاكرتها كي تغيّر اتجاه الرحلة كما يجب.
السائق أطاع بلا جدال، بطاعة وديعة بدت غريبة أشد الغرابة مقارنةً بحدة رجال الشرطة الذين صادفتهم من قبل.
و ذلك التناقض أعاد إلى أون كيونغ شعور التباين المؤلم بينها وبين هذا العالم.
ثم انطلقت العربة مسرعة حتى ألقت بها في ذلك الحي البائس.
طلبت من السائق أن ينتظر قليلًا، ثم بدأت تخطو مسرعةً نحو بيت تيرنر، محاوِلةً أن تُبعد أي فكرة عن ذهنها.
سيكون البيت خاليًا تمامًا. جثة توماس تيرنر وكل ما في مسرح الجريمة سيكون قد أزيل، حتى بقع الدم لن يبقى منها ما يمكن التعرف عليه.
لا شيء هناك سيذكّرها بيوم وقوع الجريمة.
العبارات التي أخذت ترددها في سرها، محاولةً أن تطمئن نفسها بشكل قهري، منحتها للحظة بعض السكينة.
لكن ما إن وقعت عيناها على ذلك البيت الكئيب المختبئ في الظلال كالقبر، حتى بدأ قلبها ينبض بعنف لا يمكن السيطرة عليه.
حاولت أن تمحو من ذهنها صوت اللهاث الذي يدوّي قرب أذنها، والعيون المذعورة التي حجبت عنها الرؤية، وجسد تيرنر وهو يترنح ساقطًا……ثم خطت خطواتٍ مترددة.
لماذا عدتِ إلى هنا؟
بأي وجه جئتِ ثانية؟
قاتلة!
إن من قُتل بسببكِ ما زال مقيمًا هنا……
كلها لم تكن سوى هلاوس استحضرتها هي نفسها.
ساقاها المتيبستان كالصخر عصتا عليها الحركة، وكتمت صرخةً حادة كادت تفلت منها. كأن جدارًا هائلًا يسد طريقها، مانعًا أي تقدم. حتى جسدها بأكمله رفض أن يطيعها.
مسكين يا توماس تيرنر.
لو أنكِ فقط أظهرتِ حينها أنكِ رأيت ما يجري، لكان نجا.
لو أنكِ صرخت، لهرع الجميع لإنقاذه.
“كذب!”
لقد أظهرت ما رأت، لكن لم يتغير شيء. بل كانت حياتها هي الأخرى ستنتهي لا أكثر.
حتى لو صرخت، ما كان أحدٌ ليسمع.
و هذه الأفكار الدفاعية قطعتها فجأة صرخةٌ قاسية غاضبة،
إذاً كان عليكِ أن تلحقي به!
صرخت الهلاوس في وجهها.
كانت الأصوات، مختلفة النبرات والأعمار، أخذت تتوحد تدريجيًا حتى صارت أقرب إلى همس واحد……همسٍ بصوتها هي.
“لو لم أهرب……ربما كان كل شيء ليتغير.”
انكشف عمق تفكيرها حينها.
شعور الذنب تمتم في أذنها بصوتٍ مرتجف مختنق بالبكاء، لكن ما إن خطرت ببالها كلمات آرثر حتى تلاشى ذلك الصوت كدخان يتبدد.
“إن لم يكن هناك من تطلبين عونه……”
صوته الصارم بدا وكأنه يسندها.
“يمكنكِ اللجوء إليّ متى شئت، بغير تردد.”
تنفّست بعمق، واستقرت أنفاسها. حتى الهلاوس المزمجرة انطفأت وتبددت سريعًا.
ثم واجهت البيت المهجور من جديد. ذاك الذي كان يرعبها بدا الآن صامتًا لا أكثر، بلا أي شيء مفزع.
لا دم يتسرب من النوافذ، ولا باب ينفتح ليزحف منه توماس تيرنر. و لم يكن هناك سوى السكون المتجمد.
فعقدت حاجبيها، وتقدمت بخطواتٍ بطيئة متعثرة.
حتى حلول الظلام، الذي كان فيما مضى يرعبها، لم يعد مخيفًا كما كان.
وقد كانت تردد في داخلها كلمات آرثر، مرارًا وتكرارًا.
إن لم يكن هناك من تطلبين عونه……يمكنكِ اللجوء إليّ متى شئتِ.
إن لم يكن هناك من تطلبين عونه……
“متى شئتِ، وبغير تردد.”
وأخيرًا وقفت أمام الباب.
ترددت قليلًا، ثم قبضت بقوة على مقبضه. و كانت هذه المرة الأولى التي تدخل فيها البيت من الداخل.
أما في الحلم……فقد ولجته أكثر مما تحتمل.
ضغطت على مقبض الباب حتى برز عظم يدها من شدة القبضة، ثم سحبته ببطء.
وعلى خلاف الباب في الحلم الذي كان يُفتح يسلاسة وصمتٍ تام، فُتح الباب الواقعي مصدِرًا صرخةً باردة كأنها أنين.
فابتلعت ريقها لترطب حلقها الجاف، ثم التقطت أنفاسًا عميقة ودخلت إلى الداخل.
لم يكن هناك أي أثر لرائحة الجثث أو الدماء. كل ما عبق في المكان لم يكن سوى رائحة العفن القديمة التي تتصاعد في البيوت المهجورة.
بل بدا البيت عاديًا إلى درجة أن المرء كان ليصدّق أن صاحبه لم يغب عنه سوى قليلًا.
خطت بخطواتٍ حذرة، بينما التقطتا عيناها كل زاوية في الداخل.
لم يكن ثمة أي أثر لحياة. صحيحٌ أن الظلام تسلل أسرع من المعتاد بسبب موقع البيت بين ظلال البيوت الأخرى، غير أن ذلك وحده لم يكن مدعاةً للريبة.
“شيءٌ يضيء المكان……”
همست لنفسها بذلك. و أقنعت نفسها أن بقايا الضوء تكفي، لكنها سرعان ما أيقنت أن لا سبيل لها سوى البحث عن ضوء.
وبينما تتفحص الأرجاء، وقعت عيناها على شمعة قصيرة مهملة فوق المائدة. فتوجهت نحوها، بينما كانت أرضية الخشب تحت قدميها تئن مع كل خطوة.
أشعلت عود الثقاب بصعوبة، فأضاء اللهب طرف الشمعة. ثم ثبتتها على الحامل، وما إن همّت برفعها حتى……
“……ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
“آه—!”
كاد قلبها أن يتوقف.
إدوارد كان مختبئًا في الظلام، وقد ألصق خنجره برقبتها.
و لو أنه اجتذب ذراعه قليلًا فحسب، لكان الموت أسرع إليها من أي صرخة.
ارتجفت حتى كادت أن تنهار أرضًا، لكن دموعها انحبست في صدرها. و لم تخرج منها كلمة واحدة، ولم تستطع حتى الاستجداء بحياتها.
و كلما حاولت أن تتحرك، ازداد النصل التصاقًا برقبتها.
البرودة المعدنية التي وخزت عنقها جعلت قشعريرةً رهيبة تركض من كعبي قدميها حتى فروة رأسها.
و الدموع انحدرت على وجنتيها وسقطت على الأرض، فأغمضت عينيها بشدة. و تمنت في تلك اللحظة أن تفتحها لتجد شمسًا دافئةً قد أغدقت عليها أشعتها.
وحين فتحت عينيها، تحقق رجاؤها.
***
لم يخطر ببالها أبدًا أن إدوارد قد يعود إلى بيت تيرنر.
فترنحت وسقطت جاثيةً على الأرض، واضعةً يدها المرتجفة على عنقها.
لم يزل ملمس النصل البارد مطبوعًا في جلدها، يثير قشعريرةً مروعة. و لو لم يعد الزمن إلى الوراء في تلك اللحظة، لكان جرحها عميقًا لا محالة.
“لم يكن ليتوقف الأمر عند جرحٍ صغير……”
همست في نفسها.
لقد كان من حسن حظها أن الزمن توقف قبل أن يتفجر الدم.
مدّت أصابعها تتحسس عنقها بتوجس، وقطبت جبينها. ومع انحسار الصدمة قليلًا، اجتاحها رعبٌ هائل يطبق عليها.
لم تستطع أن تتصور مكانًا، ولو صغيرًا، يمكن لإنسان أن يختبئ فيه. وكلما أغمضت عينيها للحظة، خُيّل إليها أن إدوارد سينقض من جديد لينحر عنقها.
مترنحةً على قدميها، بدأت أون كيونغ تفتش أرجاء الغرفة بعينين مرتجفتين، حتى تأكدت مرارًا أنه لا أحد مختبئٌ فيها.
عندها فقط استطاعت أن تتنفس بحق، وزفرت نفسًا ضحلًا.
كان الهواء الذي ظل حبيسًا في صدرها يتدفق أخيرًا، خشنًا لكنه بلا عوائق، داخل رئتيها وخارجها.
ولو فكرت قليلًا، لوجدت أن عودة إدوارد إلى منزل توماس تيرنر أمرٌ بديهي. فمن كان في مكانته لن يفوّت فرصة العودة إلى مسرح جريمة ليقلبه رأسًا على عقب.
‘من الأصل لم يكن ليترك وراءه ما يفضحه.’
عبثت بالمسرحية إذاً.
إن كانت الشرطة قد خرجت صفر اليدين، فهي لم تكن لتجد ما يعجزون عنه. ومع ذلك، بسبب شعورٍ وهمي بالاطمئنان لمجرد لقائها بآرثر، أقدمت على تلك الحماقة.
غرقت في ندمٍ عميق، حتى أن الصبح حين بزغ وحضر آرثر لزيارتها، لم تكن قد أغمضت عينيها في نوم حقيقي.
و عندما رآها بوجهٍ شاحب في يوم واحد فقط، بدا عليه بعض الدهشة. و لم يبح بها، لكن حاجبيه المائلين فضحا استغرابه الشديد.
فابتسمت أون كيونغ ابتسامةً هزيلة أشبه بآلة متهالكة. و عندما لمح آرثر ذلك، لم يجد بدًا من سؤالها إن كان قد جرى لها أمرٌ ما.
“لم أستطع النوم جيدًا.”
فأجابت بصوتً خفيض رقيق.
ولم تضف أي شرح آخر. إذ لم يكن بوسعها أن تقول له: “بعد رحيلكَ عدتُ إلى مسرح الجريمة، وهناك التقيتُ إدوارد، ثم متُّ وعدتُ إلى اليوم السابق.”
اكتفت بابتسامةٍ باهتة وهي تبتلع ما تبقى من حديثها. أما آرثر، فقد رفع يده إلى جبينه يفركه بارتباك مرتين أو ثلاثًا، ثم عدّل نظارته و تحدّث بنبرة متصلبة،
“……يقال أن شاي البابونج يساعد على النوم العميق.”
‘هكذا فجأة؟’
حدّقت فيه أون كيونغ في استغراب، مائلةً برأسها قليلًا.
وحين رأى نظرتها، أطبق شفتيه كأنه لم يجد سبيلًا لإخفاء ارتباكه، قبل أن يضيف ببطء،
“لن أسألكِ عن سبب أرقكِ. لكن اجعلي من الاعتناء بصحتكِ أمرًا دائمًا.”
“آه……نـ-نعم….”
ردّت مرتبكة، ممتدةً في نبرتها. بينما ازدادت تقاطيع وجه آرثر انقباضًا، وشفتاه تتحركان في حيرة، وكأنه لا يعرف إطلاقًا ماذا يقول، قبل أن يرخي صوته الجاف بجملة أخرى.
_______________________
كل ماقلت إدوارد مسكين تجي اون كيونغ تقول انا مسكينه اكثر 😭
ياعمري عليها الصدمه واضح قويه وذاه الطبيعي الصدق 😔
المهم ادوارد وليدي ذكي شكل الشرطه لاحقته ودرا ان فيه احد مبلغ تـء والحين اون كيونغ رجعت ومب معترفه
مطولين مطولين
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 17"