صوت النبض أخذ يخف شيئًا فشيئًا، والطنين اختفى، ليعود صخب الأصوات وضجيجها يتدفق في أذنها من جديد.
رمشت بعينيها عدة مرات ثم أرخَت رأسها نحو الأسفل، وفي الظلال برزت يدٌ متخشبة كأنها تهم بالخروج لكنها توقفت مترددة.
“هل أنتِ بخير؟”
سأل آرثر بصوتٍ يحمل قلقًا بالغًا.
صرفت أون كيونغ نظرها بسرعة عن يد تيرنر وأومأت برأسها، غير أن ملامحه لم تُبدِ تصديقًا.
فقطب حاجبيه، و وضع الورق والقلم جانبًا، وأمسك بأحد أعضاء الفرقة المارّة، يهمس له بتعليمات.
كانت التعليمات في معظمها تخصها، كطلب إحضار كوب شاي دافئ وغطاء يقيها البرد.
وحين همّت بالكلام قاطعها آرثر بنبرة حاسمة،
“يبدو أنكِ لستِ في حالة تسمح بالحديث الآن، لا بأس، يمكنكِ التمهل.”
“لكن……”
همّت بالاعتراض، و شفتيها ارتجفتا خائفتين أن يضيع الوقت إن لم تتكلم فورًا، بينما هي ما تزال جالسةً في مواجهته.
حدقت مذهولةً تفكر مليًا، ثم أدركت أن ما رأته في <الكابوس> لم يتجاوز لحظة قول إليزابيث لآرثر بأنها شهدت ما جرى، فطبقت شفتيها بصمت.
رآها على تلك الحال فدفع بالأوراق بعيدًا.
وبينما وُضِع أمامها الشاي والغطاء، دفعهما إليها آرثر، ثم بدا وكأنه مترددٌ في سؤال ما، قبل أن يفاجئها،
“هل أنتِ متفرغة غدًا بعد الظهر؟”
“هاه؟ نـ-نعم……”
“إذن لنلتقِ هنا ثانيةً في الثانية بعد الظهر، أو إن كان أسهل سأزوركِ حيث تقيمين.”
“أنا……لا فرق عندي……”
“حسنًا، سأزوركِ في منزلكِ.”
قال ذلك وكأنه ينهي الحديث برمّته.
فاندفعت أون كيونغ دون وعي، و قبضت على كم ردائه، لترفع رأسها وتصطدم نظراتها بنظراته في ارتباك ظاهر.
وبدا هو الآخر مذهولًا، لكنه لم يبعد يدها، بل خفض ذراعه قليلًا وانتظر حتى سحبتها بنفسها، ثم تحدّث بصوت هادئ،
“سأرافقكِ إلى منزلكِ……لكن أولًا، تفضّلي بتناول هذا الشاي.”
وأشار بإيماءة قصيرة نحو الفنجان، وانتظر حتى أنهت شربه، ثم ارتدى معطفه. وتبعته أون كيونغ على مضض، بينما كانت ملامحها مترددة.
كان طريق العودة بجانبه قصيرًا على غير المعتاد، و لم ترد أن تترك الشخص الوحيد الذي يبعث في قلبها الطمأنينة، لكن التمسك به أكثر بدا غريبًا.
وقبل أن يفترقا ذكّرها مرة أخرى بموعد الغد، ثم استدار وغادر بخطوات واسعة دون أن يلتفت وراءه.
وهكذا بدأ الانتظار العسير من جديد.
***
آرثر جاء في الموعد تمامًا كما وعد، مرتديًا نظارته الدائرية التي رأتها أون كيونغ في اليوم السابق، وحاملًا حقيبته البنية، يجلس بانتظارها في قاعة الاستقبال.
حين أسرعت بالنزول إثر سماعها بقدومه، توقفت مذهولةً للحظة عند رؤيته واقفًا في نفس الموضع الذي اعتاد إدوارد أن ينتظرها فيه من قبل، والآن كان آرثر هناك يلتفت نحوها.
لم يفهم هو سبب ارتباك ملامحها، واكتفى بسؤالها بوجه قلق عن حالها.
“إن لم تكوني مستعدة، يمكننا تأجيل الحديث لوقتٍ آخر. أو إن شئتِ، اكتبي لي ما ترغبين بقوله، وحين أستلم رسالتكِ سأبعث شخصًا أمينًا أثق به.”
“لا، الأمر ليس كذلك……”
هزت رأسها نافيةً ثم ابتلعت بقية كلماتها، إذ شعرت أن تفسير ما يخالجها ضربٌ من الحرج، فلم تجد سوى الصمت.
كانت مشاعرها غامضةً حتى لها.
وحين أدرك آرثر أنها لا تميل للكلام، توقف عن الاستفسار أكثر. و رفع حاجبه بصمت وأصلح نظارته بلمسة سريعة، ثم أشار لمن حوله بالانصراف.
راقب ظهور الفرقة وهي تبتعد، ثم تنحنح قليلًا، ونقل بصره إلى فنجان الشاي أمامه.
وما إن سمعها تسعل خفيفًا حتى رفع نظره نحوها.
“هل أنتِ مستعدة؟”
“نعم.”
أجابت باختصار ثم أخذت نفسًا عميقًا. وقد أخرج آرثر الورق والقلم، مستعدًا لتدوين أقوالها، ومنحها بنظرة هادئة إشارة البدء.
فترددت أون كيونغ لحظة قبل أن تفتح فمها.
“أنا……شهدت لحظة وقوع الجريمة.”
كانت كلماتها معدّةً منذ الليلة الماضية، ومع ذلك ألقت نظرةً مترددة نحوه لترى ردة فعله.
لكن آرثر كان مركزًا على الورق دون أن يرفع عينيه إليها، متعمدًا ألا يثقل عليها بنظراته.
و ذلك جعله يبدو أكثر حرصًا، وهو ما خفف من توترها فاسترخت كتفاها قليلًا.
“وجه القاتل……لمحته فقط، ليس أكثر.”
“أي أنكِ لا تستطيعين الجزم برؤيته بوضوح؟”
“نعم.”
“هل كان شخصًا تعرفينه؟”
“……نعم.”
تمتمت بلهجة خافتة مرتبكة، قبل أن ترفع عينيها إليه. فإذا هو يحدق بها بعينيه الزرقاوين القاطعتين، كأنه ينتظر منها الاسم وحده.
“من كان؟”
وكأن العالم بأسره صمت ليستمع إلى جوابها، وآذانٌ خفية تنتظر كلمتها، حتى الهواء صار يلسع بشدة ترقبها.
حبست أنفاسها لوهلة، ثم أخيرًا ردّت على السؤال الذي طُرح برفق،
“كان……خطيبي.”
ارتفعت عيناه إليها بدهشة هائلة، بعد أن كان قد أنزل نظره إثر التقاط عينيها.
و لم ينطق بكلمة، لكن عينيه امتلأتا بصدمة فاضحة. و شفتيه تحركتا بلا صوت، ثم أسقط القلم من يده بحركة بطيئة مترددة، كأن الكلمات خذلته.
“تقولين إذاً……أنكِ لست واثقةً تمامًا.”
تمتم آرثر بصوتٍ مرتبك، كأنه يغالب اضطرابه.
كان على وشك أن يسألها إن كانت واثقة، لكنه تذكر جوابها، فغيّر عبارته سريعًا.
بينما جمعت أون كيونغ يديها معًا ووضعتها بهدوء فوق ركبتيها، ثم أومأت برأسها صامتةً على كلماته.
“لقد قلتِ لي البارحة أن الضحية كان من معارف خطيبكِ القدامى، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
“إذاً، هل تعرفين طبيعة العلاقة التي كانت بينهما؟”
“……لا، لا أعرف.”
ردّت وهي تهز رأسها نافية.
ففي حدود القصة، لم تكن إليزابيث تعرف سوى أن توماس تيرنر وإدوارد هاميلتون كانا يعرفان بعضهما في الماضي، ليس أكثر.
أما أون كيونغ، كشخص من خارج المسرحية، فكانت تعرف حقيقتهم، لكنها في هذه اللحظة لا بد أن تجيب بالجهل.
عقد آرثر حاجبيه قليلًا، وراح ينقر بأصابعه على الطاولة.
ثم توقفت يده فجأة وهو يفتش في جيبه، قبل أن يخرجها من جديد. و حين التقت عيناه بعينيها، أجاب باستخفاف وكأنه لا شيء،
“حين أفكر……غالبًا ما أحتاج إلى سيجارة.”
‘أكان هذا جزءًا من شخصيته أصلًا؟’
تساءلت أون كيونغ في سرها. لكنها لم تستطع أن تجزم، إذ لم يكن ذلك مذكورًا في القصة.
وكأنه يريد إعادتها من شرودها إلى الواقع، نقر آرثر بخفة على الطاولة أمامها، ثم تابع بأسئلته،
“هل لاحظتِ أي سمةٍ أخرى تدل على أن ذلك الرجل هو خطيبكِ؟ بخلاف الوجه.”
“دعني أرى……أعتقد أن بنيته الجسدية فقط. ليس بلا عضلات، لكنه نحيفٌ نسبيًا. أطول مني برأس على الأقل.”
أسرعت تضيف كلامها حين رأت نظرة الخيبة في عينيه، ثم انكمشت كتفيها وسكتت.
ومع ذلك، كان آرثر يدوّن كلامها بدقة، مائلًا رأسه قليلًا، حتى ضغط بالقلم بقوة لينهي سطره، ثم رفع رأسه شاكرًا بعبارة رسمية،
“أشكركِ على ما تفضلتِ به. شهادتكِ كانت مفيدةً جدًا.”
“إن كانت مفيدة، فهذا يطمئنني.”
ردّت بابتسامة ضئيلة بالكاد بدت على شفتيها.
“إن خطر ببالكِ شيءٌ آخر، يمكنكِ إخباري في أي وقت……”
قال ذلك وهو يرمقها، ثم رفع يده إلى شعره كمن يوشك أن يبعثره توترًا، قبل أن يتذكر أن مثل هذا التصرف لا يليق بمقام القصر.
فأغلق قبضته وأنزل ذراعه في حركة متكلفة، ثم أكمل بصوت ثابت كأنما عقد عزمه،
“……يبدو أن الذكرى السيئة أثّرت بكِ بعمق.”
وارتسم على محيّاه تردّدٌ كأنه يخشى أن يكون اقتراحه جريئًا أكثر مما ينبغي، لكنه أنهى كلامه بحذر شديد،
“على كل حال، إن لم يكن هناك من تستطيعين طلب العون منه، فيمكنكِ اللجوء إليّ متى شئتِ.”
ألقى نظرةً خاطفة نحو الخارج، ثم أعاد بصره إليها، وكأنه قد أدرك بالفعل أن أهل القصر لن يكونوا سندًا لها.
و لم تستطع أون كيونغ أن تخفي ارتباكها، واكتفت بأن أومأت برأسها إقرارًا بقبول عرضه.
عندها، لانت نظرات آرثر، ومد يده بوجه مرتبك. و مدّت يدها بلا وعي لتصافحه، فقبض عليها مرة واحدة بحزم، ثم هزها قصيرًا قبل أن يبدو وكأنه ندم فجأة على جرأته.
فأطلق يدها وزفر تنهيدةً عميقة قصيرة.
“إذاً……”
“……وأنا أيضًا!”
ثم استوقفته وهي تتلعثم، قبل أن يغادر القصر.
“أردت فقط أن أشكركَ……لأنكَ عرضت المساعدة بلا تردد.”
“……لا شكر على واجب.”
قطّب آرثر أنفه، وقد احمرّت وجنتاه بخجل خفيف، ثم أسرع بخطاه خارج القصر.
فركضت أون كيونغ إلى النافذة الكبيرة، تنظر إلى الخارج.
وقد كان يسير بخطوات ثابتة لا يشوبها تردد، لكنه على غير المتوقع توقف فجأة، ثم أدار رأسه بحدة نحو المكان الذي تقف فيه.
لم يكن ممكنًا أن تلتقي نظراته بنظراتها، ومع ذلك كان بريق عينيه الأزرق الخاطف كفيلًا بأن يجعل جسدها يرتجف من شدته.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 16"