كانت أون كيونغ واقفةً أمام بيت توماس تيرنر. وكلما اقتربت، أخذ البيت الغارق في الظلال يكشف عن تفاصيله شيئًا فشيئًا.
كان يبدو أقدم بعقودٍ طويلة مما كان عليه في آخر مرة زارته فيها. فالألواح الخشبية المتعفنة التي تراكمت عشوائيًا لتشكّل جدرانه كانت مثقلةً بالغبار، فيما ارتفعت الأعشاب البرية حتى بلغت ركبتيها.
ولم يكن هناك أي أثر للحياة. لا أشخاص، ولا حتى المنازل الكثيرة التي كانت تحيط بالمكان يومًا ما، إذ اختفت جميعها بلا أثر.
أدهشها أن تلك البيوت الكثيرة تلاشت تمامًا، لكن ذلك لم يكن هو ما يشغلها. فقد كانت عيناها مثبتتين على بيت توماس تيرنر.
هل من الممكن أن يكون إدوارد هناك؟
لا أحد يعلم. لكنها على غير العادة لم تجد في نفسها نفورًا من الاقتراب، بل نهض من أعماقها شعورٌ غريب بالشجاعة.
دفعت الشجيرات جانبًا حتى بلغت عتبة الباب.
والمفارقة أن الباب انفتح بهدوءٍ وسلاسة من تلقاء نفسه من دون أن تلمسه، غير أنها لم تلحظ غرابته.
وكان الداخل لا يقل عجبًا.
فبين الأثاث المغطى بطبقاتٍ كثيفة من الغبار، لاح أمامها فجأة مقعدٌ وحيد نظيف، فجلست عليه، ثم رفعت رأسها……لتجد توماس تيرنر واقفًا هناك، ساكنًا، يتدلّى من عنقه خيطٌ أحمر قانٍ يمتد حتى كفها تمامًا.
مدّت يدها مأخوذةً وأمسكت بطرف الخيط. و أحسّت ببلل خفيف يرطّب أصابعها. ففركت الخيط برفق بين أناملها، ثم رفعت بصرها ببطءٍ على امتداده.
كان توماس تيرنر صامتًا يحدّق بها فقط. غير أن عينيه كانتا معتمتين، غامضتين، تبعثان في نفسها شعورًا بالانقباض والاشمئزاز.
لو كانت أون كيونغ على حالها المعتاد، لكانت نهضت واقفة في الحال وهربت بعيدًا. لكن لسبب ما، لم ترغب في ذلك.
ظلت تعبث بالخيط بين أصابعها، وفجأة اجتاحها إغراءٌ غريب أن تشدّه إليها.
كان تيارًا من المشاعر لا يمكن تفسيره، لكنه بدا لها طبيعيًا على نحو عجيب.
وما إن قبضت على الخيط بقوة، حتى باغت أنفها رائحة قوية للجثة، ورأسه أخذ يميل ببطء.
“أنتِ التي قتلتِني.”
سقط رأس تيرنر على ركبتيها، وشفاهه ترتعش بالكلمات.
كان وجه الميت شاحبًا، يغطي العينين غشاءٌ أبيض، وعظام وجنتيه البارزة ألقت ظلالًا داكنة فوق خديه.
بينما دارت عيناه في محجريهما، يطوف بها بصرٌ بلا بؤرة فوق ملامحها بجنون.
وحين توقف فكّه الذي كان يتحرك كدمية خشبية مخلخلة يصدر طقطقة، تلى ذلك همسات لا حصر لها تسري نحوها.
“قاتلة.”
“جبانة هاربة.”
“لو لم تهربي يومها فقط……”
“لا! ليس صحيحًا!”
صرخت أون كيونغ وانتفضت جالسة. فتناثرت الهمسات التي كانت ترفرف حولها كأجنحة حشرات، وحلّ محلها صمتٌ رهيب يجمّد الدم في العروق.
كانت ثيابها مبتلةً بعرق بارد. وقلبها ينبض بعنف، حتى أن صوته يُسمع بقوة في أذنيها، فيما ارتبك وعيها المرتجف حتى كاد يعجز عن إدراك أين هي.
أخذت تحدّق في محيطها بوجهٍ شاحب، تمسح الغرفة بنظرات مضطربة.
الأثاث المألوف أبدى ظلالًا غامضة بالكاد يمكن تمييزها في العتمة. و لم يكن هناك أثر للرائحة النتنة.
لقد استيقظت لا في بيت توماس تيرنر، بل في غرفة إليزابيث.
مدّت كفها المرتجفة لتغطي عينيها وهي تلهث بعنف. و استغرقها بعض الوقت لتدرك أنه كان حلمًا.
ولم يطل كثيرًا حتى عادت إليها حقيقةٌ أشد وطأة: أنه كابوس يزورها كل ليلة منذ أغنية “أول جريمة قتل”.
كان وجهها شاحبًا حتى الزرقة، فيما كانت قبضتها تشدّ الغطاء النحيل بعنف حتى تهشّم قماشه بين يديها.
أعادت أون كيونغ جسدها المنهك إلى الفراش وهي تغطي عينيها بذراعها، لكن النوم الذي هرب منها لم يعد بسهولة.
النوم المريح أصبح نادراً وأعصابها تزداد حدة، فكانت ترى هلاوس وهي ساكنة بلا حراك، وتسمع أصواتاً وهمية سواءً في الليل أو في النهار.
لقد كانت تزداد جنوناً يوماً بعد يوم.
***
‘كيف يا ترى تحملت إليزابيث كل ذلك؟’
فكرت أون كيونغ بوجه شاحب ومرهق.
في الأيام القليلة التي انتقلت فيها من فصل “أول جريمة قتل” إلى فصل “خيط القاتل”، لم تستطع أن تنام بشكلٍ طبيعي.
كلما أغمضت عينيها تراءى لها مشهد سقوط توماس تيرنر، وكلما فتحت عينيها ظهرت لها هلاوسٌ من العدم تشير إليها بأصابع الاتهام.
وما كان يواسيها قليلاً هو أن مرور عدة أيام على الجريمة يعني أنها ستلتقي قريباً بآرثر……
“لكن متى بالضبط؟”
عضّت أون كيونغ شفتيها بوجهٍ متوتر.
حتى وهي جالسةٌ بلا حراك كان قلبها ينبض باضطراب، فلم تستطع فعل أي شيء.
و أفكارها كانت تنحرف باستمرار نحو الأسوأ، حتى بدا لها أن استقبال الموت سيكون أسرع من النجاة من <الكابوس>. وإن كان حتى ذلك ليس أمراً سهلاً.
وصلت إلى هذا الحد من التفكير فابتلعت تنهيدةً وهي تجول في أرجاء الغرفة غير الضيقة.
كان لا بد أن تحرك جسدها قسراً لتطرد الأفكار السوداء. وكانت تدرك أنها غارقةٌ في التشاؤم المفرط، وتعرف أيضاً أن تكرار حركات بسيطة أفضل وسيلةٍ لرده.
وبينما كانت تعقد حاجبيها وتخطو آلياً، تقدمت بخطى سريعة نحو المكتب.
ولأنها كانت في حالة ذهول، لم تستطع جلب صحيفة الأمس، لكنها على الأقل تمكنت من إحضار صحيفة اليوم دون تأخير.
غير أن الحادثة المأساوية التي وقعت لتوماس تيرنر ما زالت لا تجذب اهتمام الناس.
فرغم أن وقتاً طويلاً لم يمضِ بعد على وقوع جريمة القتل، لم يُنشر عنها سوى مقال واحد فقط.
[من يعرف شيئاً عن المشتبه به في جريمة قتل توماس تيرنر التي وقعت في الأحياء الفقيرة، يرجى إبلاغ آرثر لونزديل في شرطة العاصمة لندن.]
لم يكن مقالاً بقدر ما كان مجرد إعلان قصير للبحث عن شاهد.
مدّت أون كيونغ أصابعها تتحسس السطور التي كانت تعود إليها كلما داهمها القلق منذ الصباح فتقرأها بشكل قهري متكرر، ثم قبضت يدها بإحكام.
كانت تتوق للقائه بشدة.
‘متى عليّ أن أذهب بالضبط؟ متى يبدأ فصل ’خيط القاتل‘؟’
لم تستطع احتمال الانتظار أكثر، حتى وإن لم يبقَ سوى القليل.
“بما أن الإعلان نُشر، ألن يكون من المقبول أن أذهب إليه؟”
تمتمت وهي تعقد حاجبيها.
بدلاً من الانتظار في القصر بلا جدوى، ألن يكون من الأفضل أن تذهب وتبحث عن آرثر حتى وإن كان الأمر مبكراً؟
بهذا التفكير بدأت تتحرك بسرعة لتستعد للخروج.
لم يكن الوصول إلى مكان وجود آرثر أمراً صعباً، فقد سبق أن عرفت موقع مبنى الشرطة.
كان قلبها ينبض بشدة كأنه سينفجر، ولم تستطع أن تميز إن كان ذلك من التوتر أم من الترقب، لكن لم يهم.
خطواتها تسارعت أكثر فأكثر، حتى تحولت إلى ركضٍ حقيقي. و كانت تترنح كأنها ستسقط لكنها لم تتوقف عن الجري.
وبدا أمامها مبنى الشرطة. عندها تسللت إلى وجهها ابتسامةٌ خافتة كخيوط الشمس تتسلل بين الغيوم.
“أخيراً……”
أخيراً، ستتمكن من لقاء آرثر لونزديل.
لكن عند بقاء عشر خطوات فقط للوصول إلى المبنى، سقط أمامها فجأة صوت عزف موسيقي يعلن بداية فصل “خيط القاتل”. فارتسم اليأس على وجه أون كيونغ.
‘لقد تأخرت.’
كان ينبغي أن تكون داخل المبنى قبل بدء العزف.
ومع أنها عرفت أن لا جدوى، إلا أنها اندفعت أسرع محاولةً الدخول. عندها، غمرها ظلامٌ حالك أسود من الليل نفسه.
و عاد الزمن إلى الوراء، وجُرت مجدداً إلى قلب الجحيم.
***
فتحت أون كيونغ عينيها من جديد في غرفة إليزابيث.
الفرحة ذابت في لحظة، وحلّ محلها يأسٌ متعفن كالغيوم السوداء.
كانت تلهث كما لو أنها توقفت فجأة عن الجري، ثم أدركت أن صدرها لم يعد يتألم، فأطبقت شفتيها التي كانت قد فتحتها لتلتقط أنفاسها.
نعم، لم يعد نفسها ناقصاً. لكنها قبل لحظات فقط كانت تركض في الشارع.
أون كيونغ، بعينين فارغتين تحدقان في الفراغ، خفضت بصرها.
لو أنها وصلت أبكر قليلاً، ربما لما عاد الزمن إلى الوراء. و ربما حينها كانت ستلتقي بآرثر أسرع، وربما كانت ستنجو من الجحيم الذي غرقت فيه.
لكنها عادت من جديد إلى قلب الجحيم. الباب الذي كان قريباً ليمتد إليه إصبعها ابتعد مجدداً إلى مكان بعيد.
ما كان يخفف عنها قليلاً هو أن البحر الذي كان يتلاطم دوماً في غرفتها منذ أن شهدت الجريمة قد جفّ. ولم يعد طيف توماس تيرنر يزحف خارج الظلال. لا في الليل حين يحل الظلام، ولا عند شروق الشمس من جديد.
لم ترَ أون كيونغ كوابيس. وقد كانت ليلةً بلا هلاوس ولا أصوات وهمية، وهو ما ساعدها على استعادة صفاء ذهنها بعض الشيء.
وأثناء تعديل مظهرها للمرة الأخيرة أمام المرآة قبل الخروج، لمحت وجهها فتدلت عيناها بحزن.
لم تمر سوى ثلاثة أو أربعة أيام. لكن ملامحها تغيرت حتى غدت مجهَدةً لا تُعرف.
كانت شفاهها يابسة، وملامحها غائرة أكثر، وظلالٌ داكنة ثقيلة انحدرت تحت عينيها. فلمستها بأناملها وأطلقت تنهيدةً طويلة.
شعرت وكأن دهوراً انقضت، غير أن الزمن لم يزل في أوائل سبتمبر. ولن ينتهي العرض إلا بعد نحو شهر آخر.
دفنت الأفكار الكئيبة التي راحت تغمر رأسها، وقبضت حاجبيها بإصرار. فمثل هذه الأفكار لا تنفعها بشيء.
يكفي أنها على وشك لقاء من يمكن أن يساعدها، وهذا وحده أعاد إلى قلبها بعض الحياة.
ثم ارتدت الفستان الذي كانت إليزابيث قد لبسته حين ذهبت للقاء آرثر في المسرحية، وسرّحت شعرها بهدوء، ثم غادرت القصر في الصباح الباكر.
كان ما يزال هناك بعض الوقت قبل أن يبدأ فصل “خيط القاتل”، لكنها لم تستطع أبداً الجلوس وانتظار ذلك بهدوء.
و لم يتبقَّ سوى بضع ساعات على لقائها بآرثر.
____________________________
يعني إدوارد مب طالع في فصول خيط القاتل؟
المهم المسرحية أغبياء يعني خلاص هي قريبه ليه لازم تعيدون؟ لعبه مبرمجة وانا مدري؟ بس الصدق اني ضحكت على ذا الحركة🌝
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 14"