لم تكن لندن التي تجري فيها الأحداث صغيرةً إلى هذا الحد، هكذا فكرت أون كيونغ عابرًا، لكنها سرعان ما طردت شرودها بعيدًا.
ألم تدرك بالفعل، منذ أن رأت القصر أول مرة، أن هذا المكان يختلف كثيرًا عن صورة بريطانيا التي عرفتها؟
وما إن خطت خطواتٍ حذرة عند مدخل حي الفقراء، وهمّت بأن تلقي تحيةً شكلية نحو الجهة التي كان فيها السائق، حتى فوجئت.
لم يُسمع وقع حوافر على الأرض، لكن العربة اختفت كأنها لم تكن سوى سراب.
فرمشت بعينين ذاهلتين، وأمالت رأسها قليلًا وهي تبدأ بالمشي ببطء، كأنها مسحورة.
و لولا أن الروائح الكريهة كانت تلسع أنفها بحدة، لكانت أمعنت التفكير في غرابة ما حدث.
رفعت طرف ثوبها قليلًا كي لا يتسخ، ثم حوّلت بصرها نحو القصاصة في يدها.
صحيحٌ أن النظر إليها لن يوصلها مباشرةً إلى بيت توماس تيرنر، لكنه أفضل من أن تسير عمياء بلا دليل.
وبينما هي تتفحص الورقة المرة تلو الأخرى وتتيه بين الأزقة، لمحَت فجأة شعاع ضوء يخترق من بين ظلال الأبنية المتهالكة، ساقطًا كأنما هو مصباحٌ يوجهها.
و بوجه متردد اتبعت ذلك الضوء، حتى توقفت أمام بيت صغير متوارٍ في ركنٍ من الزقاق.
هناك، أحست بغريزتها أن ذلك البيت المنكمش مثل فأر مرتجف، لا بد أن يكون بيت توماس تيرنر. فمدّت عنقها قليلًا لتفحص المكان.
كان الصمت مخيمًا بشكل مريب. فضيّقت عينيها وهي تحدق بالبيت، ثم حوّلت بصرها إلى بقية المنازل المجاورة.
‘إنه هادئ أكثر مما ينبغي.’
وبالفعل، لم يبدُ أي أثرٍ للحياة هناك أيضًا.
صحيحٌ أن الجميع يكونون في أعمالهم في مثل هذا الوقت، وهذا أمرٌ طبيعي، لكن…..
كانت عيناها تمسحان المكان بحذر، فيما تقطيب جبينها يزداد.
ذلك السكون الذي انساب على وجنتيها لم يكن هدوءًا عاديًا، بل كان أكثر التصاقًا ولسعًا. حتى أن هناك هواءٌ مشبع بالشؤم أخذ يدغدغ حواسها.
‘ترى، هل وصل إدوارد بالفعل؟’
أم أنه لم يأتِ بعد؟
لو صدر من الداخل أي صوت، لكانت على الأقل عرفت ما ينبغي أن تفعل.
ترددت أون كيونغ قليلًا وهي تتنقل في مكانها بلا وجهة، ثم شدّت ملامحها واقتربت ببطء من بيت تيرنر.
و بغير وعي كتمت أنفاسها، وانخفضت بجسدها حين لمحَت أن الباب مغلقٌ لكن إحدى النوافذ مفتوحةٌ قليلًا. فخافت أن يُسمَع أثر وجودها من الداخل.
الزجاج المغبَّر الملطخ بآثار الرطوبة اليابسة لم يسمح برؤيةٍ واضحة إلى الداخل، لكنه لم يحجبها تمامًا أيضًا.
تسللت بخطوات منخفضة، وأطلّت برأسها قليلًا من أسفل النافذة، فإذا بتجهم يغزو وجهها.
فقد بدت في الداخل ظلالٌ سوداء متمايلة، لكنها لم تستطع تمييزها بدقة…..إلى أن مالت أكثر لترى عبر الفجوة المفتوحة.
“أه..…!”
عين توماس تيرنر المتسعة التقت بعينيها مباشرة. فتجمدت في مكانها، عاجزةً حتى عن التنفس.
كان في عينيه رعبٌ لا يوصف. بؤبؤاه السوداوان، التي كانت الحياة تتسرب منهما بسرعة، ظلت تلاحق خيالها.
جسده الضخم ذاك، الذي يُفترض أن يكون كالدب، بدا عاجزًا وضعيفًا أمام زحف الموت. فلم تستطع أن تحول بصرها عنه.
حتى حين أدركت متأخرة أن الظل الذي يحجبه عنها لم يكن سوى ظهر إدوارد.
كان توماس تيرنر يلوح بيديه كأنه يستنجد بها، ووجهه شاحبٌ إلى حد الزرقة، ثم ما لبث أن هوى خامدًا بعد أن استُنزفت أنفاسه الأخيرة.
“أوغ..…”
اندفعت رغبة التقيؤ في حلقها. فنزعت يديها بسرعة عن النافذة لتغطي فمها، ودموعها انهمرت دفعةً واحدة.
لقد شهدت لحظة وقوع جريمة قتل. و رأت بوضوح يد إدوارد الكبيرة، النحيلة، وهي تقبض على مؤخرة رأس تيرنر وتمنعه من الحركة، ثم يمرر السكين على عنقه.
لعل ضيق الفجوة كان رحمةً لها، إذ لم ترَ الدم المتناثر على وجه إدوارد، وإن كانت لم تستطع أن تفلت من سماع الصوت. فصوت الدم وهو يتساقط على الأرض غاص في أذنها برطوبة مقززة.
ثم حاولت أن تزحف مبتعدةً عن النافذة، ولو لم تخذلها ذراعاها المرتجفتان لكانت تمكنت من الهرب في الوقت المناسب.
نسيت حتى أن عليها أن تتظاهر بالاختفاء وتصمت. و في ارتباكها، انكمش ثوبها وتكسرت أعواد العشب اليابس تحتها. بينما اختنقت أنفاسها بنشيجٍ خافت امتزج بالهواء.
وذلك النشيج وصل بوضوح إلى أذن إدوارد.
ولأنها كانت جالسةً بظهرها للنوافذ، لم تدرك أن إدوارد قد فتحها على مصراعيها.
انسابت برودة عينيه على ظهرها. ومن يده التي تحمل السكين تقاطر الدم، نقطة بعد نقطة، على ظهرها، حتى بللته بحرارة لزجة.
في تلك اللحظة أيقنت المصير الذي ينتظرها. و لم تستطع أن تلتفت. بل كانت منكفئةً على كتفيها، ودفنت وجهها في كفيها وهي تنتحب.
رائحة الدم المعدنية نفذت إلى أنفها، تقترب أكثر فأكثر كإنذار، ثم فجأة…..وجدت نفسها عائدةً إلى غرفة إليزابيث.
***
“أوغ…!”
ما إن انقشع الظلام عن بصرها حتى انحنت أون-كيونغ وهي تتقيأ جافًا، تلهث بأنفاس متقطعة.
‘أين أنا؟ هل ما زلت قرب بيت تيرنر؟ ما الذي جرى لي؟ إدوارد هاميلتون…..لقد قتل توماس تيرنر…..’
تقطعت أفكارها المشوشة فجأة، كأنها حبلٌ انقطع، واتسعت عيناها وهي تحدق في الفراغ.
ثم شهقت شهقةً حادة، وشعرت كأن الهواء الذي انساب إلى رئتيها قد تحول في لحظة إلى ماء، فلم تعد قادرةً على التنفس.
ظلّت الرائحة المعدنية للدماء، ممزوجةً بعفن الجسد المحتضر، تلتف حول أنفها كظلٍ لا يزول. كأنها بركةٌ آسنَة غرقت فيها حتى عنقها.
بينما تجمّعت دموعها و انهمرت، فاهتزت رؤيتها باضطراب.
لقد مات توماس تيرنر.
رأت موته بعينيها، وعندها فقط شعرت بوزن الموت الحقيقي.
موتها هي بدا دومًا كحلم بعيد غير واقعي، أما موت الآخر…..فقد كان مختلفًا.
مشهد موته ظل يعاد في رأسها بلا توقف، كأن عقلها صار شاشة عرض.
سكين إدوارد يشق الهواء، وتيرنر يختنق في عجز، الدم يتناثر على الأرض، ثم صوت، طَقة. ويعود السكين من جديد ليشق الهواء…..
“آه..…”
تأوهت أون كيونغ بصوت مرتعش.
لم تشهد من قبل موتًا بهذه الوحشية.
تلك الصرخات التي لم يطلقها تيرنر، والاستغاثة التي انخنقت في صدره، ظلت تطبق على أذنيها.
لم يخرج منه سوى حشرجة خانقة قبل أن ينهار…..لكن تلك النظرات! تلك النظرات التي كانت كأنها تُسحب إلى الجحيم، أمسكت بكاحلها ولم تفلتها.
و بؤبؤاه السوداوان المتلألئان ظلا محفورين في ذهنها حتى بعد أن خبا بريقهما.
ارتجفت أون كيونغ في جلستها، منكمشةً على نفسها، غارقةً في خوفٍ وشعورٍ ساحق بالذنب. و لم تستطع رفع رأسها.
رغم أنها لم تكن سوى أوهام لا جدوى منها، إلا أن عقلها رسم صورةً ليدها وهي تمتد نحو تيرنر في اللحظة التي انغرس فيها سكين إدوارد.
ربما…..ربما كان سيمكن إنقاذه. لو لم يُسكتها خوفها، ربما ظل حيًّا.
ولم يخطر ببالها ولو للحظة أن ذلك كان سيعني خللًا في حبكة “المسرحية” التي ستقود حتمًا إلى عودتها مجددًا. و فقط أطبقت أسنانها بقوة.
وفجأة، بدا صوت تيرنر – الذي لم تسمعه قط في حياتها – يجلجل في أعماقها، يوبخها بمرارة،
“لولاكِ…..لو لم ترتجفي وتتراجعي في تلك اللحظة، لربما كنت حيًّا الآن…..”
“لا…..لا!”
هزت رأسها بعنف، وصوتها المرتجف يتردد في الفراغ.
ثم ضغطت كفيها على أذنيها محاولةً حجب ذلك الصوت، لكنه ظل يتردد بلا توقف، يهز أعماقها كلها كرجع صدى.
“بسببكِ!”
صرخة كالرعد انقضّت عليها من السماء، والذنب الذي اجتاحها ارتد عليها كأمواجٍ عاتية تضربها بلا رحمة.
قطرة…..قطرة-
صوت دموعها وهي تسقط على الأرض دوى في أذنيها أعلى من أي شيء آخر.
وبلحظة واحدة، وجدت نفسها من جديد تحت نافذة بيت تيرنر.
رائحة الدم الخانقة تسللت إلى أنفها، تقترب أكثر فأكثر. و خطواتٌ متثاقلة حذرة تدوس الأرض أخذت تقترب منها ببطء.
صرير الأرضية الخشبية البالية، وهي تعجز عن احتمال ثقل الجسد، ملأ رأسها حتى أوشك أن ينفجر.
فانحنت أون كيونغ بجسدها كأن ثقلًا يسحقها، وحبست أنفاسها. و شعرت كما لو أن يدًا غليظة غير مرئية تطبق على عنقها.
فارتفعت أصابعها تحكّ جلد رقبتها وهي تميل بجذعها جانبًا. ثم خبا وعيها وسقطت في غيبوبة.
***
وحين فتحت عينيها كان الصباح قد حل.
فجلست صامتة، وملامحها مظللة بظلالٍ داكنة تحت العينين، تحدق في الأرض بشرود.
حتى لو كانت الآن على وشك الصعود إلى منصة الإعدام، ما كان شعورها سيكون أكثر بؤسًا مما هو عليه الآن.
فكلما أغلقت عينيها، تكدست الظلمة لتتحول إلى حدقتي توماس تيرنر، حيث جحيمٌ سحيق يتربص في أعماقهما.
وحين تفتح عينيها…..لا يختلف الأمر. فقد كان الجحيم حاضرًا على كل حال.
أبشع ما في الأمر أنها مضطرةٌ لأن تخطو بقدميها، طوعًا، إلى قلب تلك الذكرى التي عذبتها طوال الليل.
قطبت وجهها وهي تنزل ببطء إلى الطابق السفلي. وبينما كانت تسير في الطريق المؤدي إلى القرية، رفعت بصرها فجأة إلى عربةٍ ظهرت أمامها، فارتجف كتفاها.
كانت العربة أشبه بتابوت عليها أن تدخله.
رمقها السائق بنظرة ثابتة، فاستجابت لصمته الصارم وصعدت إلى العربة. ثم جلست متصلبة، تحبس أنفاسها، تحدق فقط من النافذة إلى الخارج.
لكن، على خلاف المرة السابقة حين كان الجو صحوًا، لم يكن لون السماء هذه المرة مبهجًا.
فالرطوبة المختلطة ببرودة الهواء أوحت بأن المطر على وشك الهطول. و كان هذا أول تغيّر يطرأ على الطقس، لكن أون كيونغ لم تجد في نفسها القدرة على الاهتمام به.
كانت فقط تترك عينيها تتنقلان على أسطح المباني المتعرجة الصلبة، وعلى خيالات المارة الذين يعبرون الشارع.
كان في الشوارع حياةً مشدودة متوترة، ومع ذلك، حتى ذلك بدا مرغوبًا لديها.
فرؤية ما هو حيٌّ كان كافيًا ليمنحها شيئًا من السكينة.
وحين عادت الرائحة الكريهة الرطبة تتسرب في الهواء، التقطت أنفاسها بصعوبة، ثم ترددت وهي تنزل من العربة ببطء، وعلى وجهها تعبير الرافض للترجل.
لكن العربة اختفت في غمضة عين، وبزغ أمامها خطٌ من الضوء.
لكنها تجاهلت الضوء هذه المرة، وسارت مستندةً إلى ذاكرتها. فلم يكن العثور على الطريق صعبًا.
أما السير فيه…..فذلك كان الأصعب.
____________________________
ياعمري هي يالرعب الي شافته😭
كان بقول اجل ليه ترجع بس تذكرت ذاه شي من المسرحيه ان اليزابيث تشهد جريمته وتتعاون مع المحقق بدون يدري ادوارد😔
المهم ادوارد عنده سبب للقىًل ويمكن بالغلط 😔 مدري شقول بس عاد هو البطل (؟) ولازم ادافع😘
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 12"