حتى بعد عودتها ظلت أون كيونغ تستعيد صورة ظهره وهو يبتعد عنها وتفكر فيها مرارًا.
إدوارد يهرب منها؟ مجرد الجمع بين هاتين الكلمتين بدا غير منطقي، حتى ساورها الشك لعلها حلمت أو توهمت.
لكن كلما خطرت لها تلك الفكرة، كانت تتذكر عينيه الضيقتين بارتباك كأنهما ينفيان شكوكها.
‘لا، لماذا يفعل ذلك؟’
لم تستطع أون كيونغ أن تفهم.
هي لديها ما يكفي من الأسباب لتفاديه، لكن هو؟ لا.
حتى في المسرحية، لم تره مرةً يفرّ هكذا.
وأخذت تفكر حتى وصلت إلى احتمال أنها ربما ارتكبت خطأ في أداء “قصة إليزابيث”.
لكنها لم تجد ما يثبت ذلك. بل كانت واثقةً أنها أدّت الدور على نحو قريب جدًا من الممثلة التي شاهدتها ثلاث عشرة مرة.
صحيحٌ أنها أظهرت قليلًا من رغبة إليزابيث في الإبقاء على مسافة، لكن…..مع ذلك، هل يمكن أن يكون ذلك سببًا في أن يهرب إدوارد؟
مهما حاولت التفكير لم يخطر ببالها شيء، فشعرت بالاختناق.
ولم يكن بوسعها أن تسأله بنفسها. فتأملت الأرض بوجهٍ ضائع.
و ما زاد من قلقها أن ملامحه لم تكن ملامح شخص يتجنبها فحسب، بل بدت وكأنها تحمل شيئًا من الخوف.
خوف؟ ذلك حقًا أمرٌ لا يُصدق.
لكن كلما حاولت أن ترد على نفسها بحجج مختلفة، كانت صورة عينيه المذعورتين تضرب ذاكرتها فتقطع عنها الكلام.
كلما فكرت أكثر شعرت أنها لا تقترب من الجواب بل تغوص أعمق في متاهة.
وكانت تعاني بوجه حائر، لا تفهم شيئًا.
وفيما هي غارقة في القلق، كان الوقت يمضي بخطى ثابتة.
وبينما كانت أون كيونغ تستحضر إدوارد بين حين وآخر وتستعد بطرق مختلفة للجريمة التي ستقع قريبًا، فوجئت بظهور ورقة صغيرة على مكتب إليزابيث، إلى جانب نسخة من صحيفةٍ مؤرخة في الثالث من سبتمبر.
وكان ذلك في صباح التاسع والعشرين من أغسطس.
***
عندما رأت التاريخ المطبوع على الصحيفة لأول مرة، ظنت أن عينيها تخدعانها.
صحيفة الثالث من سبتمبر؟ لكنها، كما في كل مرة، أحضرت من قاعة الطعام الصحيفة التي تركها برنارد ليدل غير مكتملة القراءة، وكان التاريخ عليها هو التاسع والعشرون من أغسطس.
وبوجه مرتبك راحت تنظر بالتناوب بين صحيفة الصباح التي جلبتها بنفسها وتلك الموضوعة على المكتب فجأة.
كانت صحيفة اليوم تحمل آثار تجعد خفيف بفعل يد برنارد ليدل، أما الصحيفة الموضوعة على المكتب فبدت ناصعة، كأنها خرجت للتو من المطبعة.
وفكرت أن طريقة ظهورها هذه أيضًا مختلفةٌ تمامًا عما اعتادت عليه.
فهي دومًا من تحضر الصحيفة بنفسها من قاعة الطعام، ولم يحدث مرةً أن وُضعت على مكتبها بهذا الشكل.
فحدّقت أون كيونغ في الصحيفة بعين مرتابة، ثم مدت يدها إليها بحذر شديد.
كانت حركتها بطيئة، وكأنها تخشى أن تتلاشى بين أصابعها كالغبار. لكن ما أحست به عند أطراف أناملها لم يكن سوى ملمس الورق الأملس الخشن قليلًا.
راحت أصابعها تتلمس الحروف السوداء في بطء، والورقة ثابتة لا تختفي رغم لمستها.
وبعد تردد، فردت الصحيفة على المكتب بحرص حتى لا تتجعد. وكانت الأخبار الكبيرة والصغيرة مصطفةٌ على صفحاتها بانتظام.
وبعين ما تزال متوجسة، بدأت تقرأها بهدوء، تقلب الصفحات ورقةً تلو ورقة. وحين بلغت الصفحات الأخيرة، توقفت يدها فجأة عند مقال صغير.
كان هناك اسمٌ مألوف منقوشٌ هناك.
[تم العثور على جثة في حي الفقراء.
كانت الجثة مقطوعة الرأس ملقاةً فوق بركة دم متجمد، ولم يُعثر بعد على أثر للجاني. وتبيّن أن الضحية هو صاحب المنزل “توماس تيرنر”.
وبالنظر إلى أن الرقبة قُطعت بدلًا من الطعن، يُرجح أن الأداة المستعملة كانت خنجرًا قصير النصل.
ومن خشونة الجرح يُستشف أن القاتل قليل الخبرة.]
[يُقدَّر وقت وقوع الجريمة ما بين صباح الثاني من سبتمبر حتى منتصف النهار، ومن المتوقع أن تُشكّل شهادة الشهود خيطًا مهمًا في كشف ملابسات الحادث.]
جريمة قتل توماس تيرنر، التي وقعت في الثاني من سبتمبر. لماذا لم تستطع أن تستنتج ذلك رغم أنها رأت التاريخ المدوَّن في الصحيفة؟
عقدت أون كيونغ حاجبيها. كان هذا إنذارًا يوجهه إليها المسرح، يخبرها أن البداية ستكون أول جريمة قتل، فلا تفوتها وعليها أن تدركها.
وما إن وصلت أفكارها إلى ذلك الحد حتى دوّى طرقٌ على باب غرفتها.
اتسعت عينا أون كيونغ المستديرة، واستدارت برأسها بسرعة نحو مصدر الصوت. و أعقب ذلك صمتٌ خانق لبرهة، ثم تسللت من وراء الباب نبرةٌ منخفضة مكتومة.
“آنسة، لقد أتاكِ زائر.”
كان الصوت مطابقًا لذلك الذي أخبرها بزيارة إدوارد في اليوم الأول لدخولها إلى مسرحية <الكابوس>.
عندها فقط خففت أون كيونغ من حذرها قليلًا، وفتحت الباب لتخرج إلى الممر.
المرأة الواقفة خلف الباب لم تنطق بكلمة، بل بدأت بهدوء تقودها نحو حيث ينتظر الزائر. وما إن وقعت عيناها على الضيف حتى ارتسمت على جبينها نظرةٌ متحفزة.
كان القادم رجلًا قصير القامة، ثيابه رثة، لكن عيناه تشعان بحدة غريبة.
و جذب الانتباه برقبة مرفوعة بتصلب لا تتناسب مع كتفيه وظهره المحنيين، وبأصابعه التي لا تكف عن الارتعاش.
كان رجلًا يبعث في نفسها شعورًا بعدم الارتياح.
وبينما كانت أون كيونغ تراقبه بنظرات حادة، رفع يده الداكنة المتسخة أمام صدره في حركة متكلفة. ثم ألقى بتحيةٍ مرتبكة بصوت أجش خشن كالمبرد، وهو يتلعثم في كلماته،
“لقد جئتُ بما طلبتِ. هل أخبركِ الآن فورًا؟”
ثم أشار بعينيه إلى الخلف إشارةً سريعة قبل أن يثبت نظره عليها وكأنه ينتظر قرارها.
ارتبكت أون كيونغ ولم تفهم كلامه، فاقتصر ردها على رمشاتٍ متتالية.
ما الذي قصده بما طلبته؟ إنها المرة الأولى التي تراه في حياتها. فباستثناء خروجها لملاقاة إدوارد في الشارع، قضت كل وقتها محبوسةً في غرفتها، ولم تتحدث مع أحد آخر.
حارت في ما ينبغي أن تجيب به، وارتجفت شفتاها قليلًا.
فتركُ الرجل وحده دون أحد آخر بجانبه كان يخيفها، لكن الاستماع إلى حديثه بوجود آخرين أيضًا لم يكن مريحًا.
ويبدو أن الرجل قد لمح ترددها وحيرتها، فاقترب خطوةً إلى الأمام وخفَض صوته إلى أقصى حد وهو يهمس…..
“ألم تطلبي مني أن أتحرى عن أبناء هاملتون؟”
ما إن سمعت ذلك حتى انبثق في ذهن أون كيونغ شيءٌ ما.
ففتحت فمها قليلًا ثم سرعان ما أطبقت شفتيها وهزت رأسها إقرارًا، ثم أرسلت إشارةً بعينيها إلى المرأة الواقفة خلف الرجل، في إشارة إلى أن تنصرف.
لم تُبدِ المرأة أي تساؤل، بل مشت بهدوء حتى اختفت مجددًا إلى حيث لا تعلم أون كيونغ أين يكون.
فانتظرت أون كيونغ حتى تلاشى كل أثر للخطوات، ثم اقتربت بخطوةٍ نحو الرجل.
في المسرح، إليزابيث كانت قد استعانت بأحدٍ ليبحث لها عن ماضي إدوارد ومن ارتبط به، كي تكشف المزيد عنه. لكن أون كيونغ التي كانت تعرف مسبقًا من هم الضحايا، وقد انشغلت تمامًا بالجرائم الوشيكة، كانت قد نسيت الأمر لحظة.
فعضّت شفتها قليلًا ثم فتحت فمها،
“…..وماذا عن الأمر الذي طلبته؟”
“لقد دونته في هذه الورقة.”
أخرج الرجل ورقةً مهترئة من جيبه وناولها إليها. فتسلمتها بأطراف أصابعها، وبينما كانت تفكر ماذا تقول بعد ذلك، بادر الرجل بالحديث،
“إن كان لديكِ ما تودون تكليفي به بعد، فأخبريني الآن.”
تكليفٌ جديد.
ترددت أون كيونغ لبرهة، ثم جالت بعينيها في المكان. و فوق طاولة صغيرة كانت هناك بعض الأوراق وقلم.
أسرعت بخطواتها نحوها، وخطّت كلماتٍ قصيرة على ورقة.
كانت مذكرةً موجهة إلى توماس تيرنر، تسأله إن كان بوسعه مقابلتها قليلًا في الثاني من سبتمبر.
ثم طوت الورقة مرتين وسلمتها للرجل، ثم طلبت منه أن يوصلها إلى توماس تيرنر في حي الفقراء، قبل أن تضيف بسؤال حذر،
“المعذرة، لكن بخصوص الأجرة..…”
“لقد دُفعت مسبقًا، فلا داعي لأن تقلقي.”
أجاب وانحنى انحناءةً خفيفة، ثم غادر الغرفة.
ظلت أون كيونغ تحدق بشرودٍ نحو الباب، ثم أسقطت بصرها على الورقة التي تركها. ومن بين قلة المعلومات المدونة فيها، كان اسم “توماس تيرنر” يلمع أمام ناظريها بوضوح.
وبالرغم من أن أحدًا لم يكن يراقبها، شعرت بانقباض غريب وبقلق دفعها لأن تطوي الورقة بسرعة وتخفيها بين قبضتها.
مجرد التفكير بأنها قد أرسلت إلى رجل على وشك الموت مذكرةً تحدد موعدًا معه، جعل قلبها ينقبض توترًا وكأن قيدًا يضيق على صدرها.
فقبضت على يدها المرتجفة ولفظت أنفاسًا باردة ممتزجةً بالارتباك.
وجاء الرد بعد يومين، عبر الرجل نفسه.
كان مضمونه: موعدٌ للقاء في صباح الثاني من سبتمبر، عند الساعة العاشرة.
***
توماس تيرنر كان يقتات كل يوم من بعض الأعمال الصغيرة التي يتلقاها بعد الظهر، فيجني ما يكفيه ليعيش يومه.
كان ذا طبعٍ صعب، بلا أصدقاء مقربين، ولا أحد يتواصل معه أو يعيش بالقرب منه، وهذا ما جعل جثته تُكتشف بسرعة نسبية. فقد غاب عن موعد عمله المعتاد.
و لولا أن أحدهم الذي يعرف حاله استغرب غيابه، لربما لم يُعرف خبر موته إلا بعد مرور وقتٍ طويل.
أمسكت أون كيونغ بورقةٍ كُتب عليها عنوان منزل توماس تيرنر، وغادرت القصر.
خشيت أن يستغرق الطريق وقتًا طويلًا، فخرجت قبل الموعد بساعة تقريبًا، لكنها تذكرت فجأة، بعد أن خرجت، أنها لا تعرف كيف تصل.
كانت تعلم أن تيرنر يعيش في حي الفقراء، لكنها لم تعرف أي جهة تسلك. فسارت متثاقلة، ممسكةً بالورقة بقبضةٍ متوترة وملامح شاردة، حتى أدركت ظلًا يكسوها من فوق، فالتفتت برأسها.
كانت عربةً نظيفة أنيقة. لم تكن فخمةً مزخرفة، لكن يكفي النظر إليها لمعرفة أنها صُنعت بإتقان.
حدقت أون كيونغ بها وفمها مفتوحٌ قليلًا، ثم لمحَت إشارةً من السائق، ففهمت أنها لفتة كريمة منه.
‘لفتة كريمة؟’
لو لم تدخل عالم المسرحيك منذ البداية، لما اضطرت إلى مواجهة مثل هذه المواقف.
ألصقت جسدها بمقعد العربة، وأطلقت ضحكةً ساخرة خافتة وهي تحدق خارج النافذة. ثم تحركت العربة ببطء على الطريق.
لم تُخبر السائق بوجهتها، ومع ذلك ساق الخيل صامتًا دون أن يسأل كلمة واحدة.
كانت السماء صافيةً خلف الزجاج. ففكرت أون كيونغ أن الطقس جميلٌ أكثر من أن يُلاقي فيه أحدهم حتفه، وظلت تحدق بذهول في المشهد المنساب أمام عينيها.
وما هي إلا لحظات حتى بدأت المباني المرتبة تختفي تدريجيًا لتحل مكانها بيوتٌ رثة متناثرة، وصارت رائحة كريهة تتسلل إلى الهواء، ففهمت أنها باتت على وشك الوصول.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 11"