في صيفٍ تشع فيه الشمس بحرارة لاهبة، غابت شمس إمبراطورية ايلون.
الإمبراطور، الذي بدا وكأنه سيُضيء إلى الأبد، يعود اليوم حفنةً من التراب.
بعد انتهاء الجنازة الرسمية، خرجت عربة الجنازة التي تحمل تابوت الإمبراطور من الكاتدرائية الكبرى.
كانت الفرقة الموسيقية تسير في المقدمة وتعزف لحناً، وكان قائد الحرس على صهوة جواده يقود عربة الجنازة.
سار أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء خلف العربة، يشيّعون الإمبراطور في رحلته الأخيرة.
اتجهت العربة من الكاتدرائية الكبرى إلى مقبرة العائلة الإمبراطورية القريبة.
سيريت، وهي تحمل باقة من زهرة الجرس الأزرق رمز العائلة الإمبراطورية، رفعت عينيها بخفة لتنظر إلى يوان الذي يمشي قربها.
كان يوان يراقب عربة الجنازة بوجهٍ بلا تعبير.
“هل أنتِ متعبة؟”
سأل يوان بصوت منخفض، وكأنه شعر بنظراتها.
كان قلقاً على سيريت التي تمشي تحت الشمس الحارّة وهي ترتدي حذاءً رسميًا.
“أنا بخير.”
“إن شعرتِ بالتعب فعودي أولاً.”
“لا يمكنني فعل ذلك.“
عند سماعها كلام يوان بأن تعود أولاً، هزّت سيريت رأسها.
فهي ما زالت الدوقة فريكتويستر، ولا بد أن تبقى في مكانها.
لم يُعلّق يوان على جوابها.
وظلّ الاثنان صامتين حتى وصلا إلى مقبرة العائلة الإمبراطورية.
دُفع تابوت الإمبراطور إلى داخل الحفرة العميقة.
وتساقطت أكاليل زهرة الجرس الأزرق التي كان الناس يحملونها فوق التابوت كأنها حبات ثلج.
وبعد أن رمت سيريت زهرتها، رفعت عينيها نحو ليديا في الجهة المقابلة.
كان وجه ليديا شاحباً كأنها ستسقط في أي لحظة.
وكانت أجواؤها الحزينة تلفت الأنظار، فالكثيرون كانوا ينظرون إليها.
وتساءلت سيريت إن كان يوان ينظر أيضاً إلى ليديا، فرفعت عينيها نحوه.
وفي اللحظة نفسها التقت نظراتها مباشرة بنظرات يوان الذي كان ينظر إليها بالفعل.
لم تكن تتوقع أن تتلاقى نظراتهما، فحوّلت سيريت نظرها بسرعة.
وسمعت صوت زفرة منخفضة خرجت من يوان.
بينما كانت تفكر في ما قد تعنيه تلك الزفرة، أعادت سيريت النظر إلى ليديا.
“جلالتك…”
ألقت ليديا آخر إكليل من الجرس الأزرق، لكنها لم تستطع الصمود أكثر، فجثت على الأرض.
انحدرت الدموع الحارّة على خديها.
كانت ليديا تبكي كل يوم منذ وفاة الإمبراطور.
لم تستطع تصديق الواقع بأن والدها قد رحل.
لا يمكن أن يكون هذا حقيقياً.
لا يمكن أن يرحل والدها ويتركها هكذا.
“أبي…”
كانت ليديا تبكي وهي تنتحب.
كان الجو صيفاً حاراً، لكنها شعرت وكأنها وحدها داخل شتاء بارد، والقشعريرة تسري في جسدها.
لم تكن تعرف كيف ستعيش في عالم لم يعد فيه والدها موجوداً.
“ليديا.”
نهض ريغان ليساعد ليديا الجاثية على الأرض، رافعاً إياها.
كان ريغان أيضاً حزيناً بقدرها.
فالإمبراطور بالنسبة له لم يكن مختلفاً عن الأب.
بعد أن فقد والديه معاً في حادث سفينة وهو صغير، تمكن من الصمود فقط بفضل الإمبراطور الذي كان بمثابة والده الثاني.
أسندت ليديا رأسها على كتف ريغان وهي تنتحب.
“أخي ريغان، أنا الآن وحدي. لم يعد هناك أحد إلى جانبي.”
“ولماذا تكونين وحدك؟”
ربّت ريغان على كتفها ليهدئها.
بقدر ما أحبّها الإمبراطور، كان ريغان ينوي أن يعتني بها جيداً.
“أنا خائفة، خائفة جداً.“
كانت ليديا تمسك بثياب ريغان وهي تواصل سكب دموعها.
بعد وفاة والدها، كانت تعرف أن ولي العهد وزوجته، اللذين كانا ينظران إليها كشوكةٍ في أعينهما، لن يتركاها وشأنها.
قد يرسلانها إلى دولة أخرى، أو يزوجانها إلى عائلة وضيعة.
“لا تقلقي. أنا موجود هنا.”
ربّت ريغان على كتف ليديا بلمسة لطيفة.
لكن كلمات ريغان لم تطمئن ليديا.
كان ريغان بالفعل شخصاً طيباً، لكنّه لم يكن صاحب قوة.
كان طيباً أكثر من اللازم، ولذلك كانت ليديا تعرف جيداً أنه لن يستطيع حمايتها من هندرسون الذي سيصبح قريباً الإمبراطور.
وفي هذه البلاد، الشخص الوحيد الذي يملك قوة توازي قوة العائلة الإمبراطورية هو يوان.
والوحيد الذي يمكنه حمايتها من ولي العهد هو يوان.
انزلقت نظرات ليديا نحو يوان الذي كان يقف في الجهة المقابلة.
كان يوان ينظر إلى سيريت التي تقف بجانبه.
لو كنتُ أنا الدوقة فريكتويستر… لما كان ولي العهد وزوجته قادرين على معاملتي بهذه الطريقة.
تملّك ليديا شعورٌ حارق بالأسف لأنها لم تستطع الحصول على يوان.
لو كنتُ قادرة على إنجاب الأطفال، لاختارني يوان.
وكان مكاني سيكون إلى جواره الآن.
ومجرّد أن خطرت لها هذه الفكرة، ازداد كرهها لسيريت الواقفة بجانب يوان.
راودها شعور بأنها تريد دفع سيريت فوق تابوت والدها والوقوف هي مكانها بجوار يوان.
لم تكن رغبتها في الحصول على يوان تشبه ما كانت عليه من قبل أبداً.
كانت تريد أن ينظر يوان إليها وحدها.
يجب أن أكون بجانب يوان.
يجب أن أصبح دوقة فريكتويستر.
هكذا فقط يمكنني أن أعيش.
تلألأ بريقٌ حاد في عيني ليديا وهي تحدّق في يوان.
***
بعد انتهاء كل إجراءات الجنازة، كانت سيريت ويوان في طريق العودة إلى المنزل داخل العربة.
سيريت كانت تنظر من نافذة العربة إلى الخارج، ثم شعرت بنظرات يوان عليها فالتفتت نحوه. وقع بصرها على وجهه القاسي المتعب.
“تبدو متعباً.”
“نعم، قليلاً.”
أجاب يوان وهو يمرر يده على وجهه.
سيريت سحبت نظرها عنه وعادت تتطلع من النافذة. لم تعد تعرف بأي وجه يجب أن تنظر إلى يوان الآن.
عندها، جاء صوت يوان.
“هل ذراعك أفضل الآن؟”
“ذراعي؟”
التفتت نحوه سيريت وهي تميل برأسها مستغربة من هذا السؤال المفاجئ.
“الذراع التي أُصيبت بسببي….”
قالها يوان مثل زفرةٍ خرجت من صدره.
رفعت سيريت يدها نحو ذراعها التي ارتطمَت آنذاك بدرابزين الدرج وأصابها كدمة.
الكدمة اختفت منذ زمن.
ومع ذلك، لم تستطع إلا أن تبتسم بسخرية من أن يوان يسأل عنها الآن فقط، بعد كل هذا الوقت.
“لقد سألت بسرعة كبيرة حقًا”
قالت سيريت بسخرية.
“أنا آسف.“
وقعَت نظرةُ يوان على ذراع سيريت المخفية تحت الكمّ الطويل.
ولهذا السبب يكره شعور الحب. فمشاعرٌ كهذه، التي لا يمكن السيطرة عليها، قد تُلحق الأذى بأحدٍ ما.
“لقد شُفي تماماً الآن. لدرجة أنني نسيت متى اختفى أثره.”
“فهمت.”
عند جواب سيريت، هزّ يوان رأسه بخفة.
عاد الصمت ليخيّم على العربة. لا يوان تكلّم، ولا سيريت. الهواء كان بارداً كأنه تجمّد بينهما.
الكلام انقطع، لكن نظرات يوان لم تنقطع. كانت تلاحق سيريت بإصرار أثقل صدرها حتى لفتح فمها أخيرًا.
“هل ستعود إلى الفندق مجدداً؟”
“أتريدين أن أعود؟”
سأل يوان بنبرة جافة بينما اتكأ على مسند المقعد.
“لا أهتم حقًا أين ستقيم.”
“بالطبع أنتِ لا تهتمين.“
ضحك يوان ضحكة سخرية عند ردّ سيريت. وشعر مرّة أخرى بأن مشاعره تضطرب داخل صدره.
“يبدو أن الإقامة في الفندق ستكون أريحَ للدوق، أليس كذلك؟”
قالت سيريت وهي تحدق فيه بهدوء.
من وجه يوان الخالي من التعبير لم تستطع قراءة أي شعور، لكن سيريت ظنّت أن ذهنه مشتت وقِلق بسبب ليديا.
وذلك الظن، بشكل عبثي، جرحها. شعرت وكأنها تريد البكاء.
لم يكن شيئاً جديداً، ومع ذلك بدا وكأنه يجرحها من جديد… كأنها تعيش حياتها السابقة مرة أخرى.
فكّرت أن الطلاق السريع سيكون الأفضل، وابتسمت ابتسامة مُرّة.
“ولماذا تظنين ذلك؟”
“سيكون الأمر أكثر راحة….”
حتى تلتقي بليديا.
لكن سيريت لم تستطع إخراج الكلمات؛ كانت تعلم أنها ستجرح صدرها لو قالتها.
“أكثر راحة؟“
حين لم تُكمل سيريت كلامها، ردّد يوان ما قالته.
“لا شيء.”
وفي النهاية ابتلعت سيريت كلماتها.
“لماذا تتوقفين وسط الحديث؟”
فرك يوان طرف عينه كما لو كان متعباً. كان فضولياً ليعرف ما الذي يدور في رأسها الصغيرة تلك.
“كنتُ فقط أريد أن أقول إن يفعل الدوق ما يجده مريحًا له.”
“الزوج لا يعود للمنزل، ومع ذلك الأمر لا يحرّك في الزوجة ساكناً.”
“أنا أراعيك يا دوق.”
“مراعاة؟ زوجة تطلب من زوجها ألّا يعود إلى المنزل… أكاد أبكي من شدّة مراعاتها.“
ابتسم يوان بسخرية كأن الكلام لا يعقَل.
“لا أعرف لماذا تسخر. الإقامة في الفندق أريح لك من البقاء في المنزل. هكذا تستطيع مقابلة ليديا كما تشاء.”
نظرت سيريت مباشرة في عينيه. لم تكن تريد قول ذلك، لكن تصرّفه جعل الكلمات تفلت منها.
“لماذا أقابل الآنسة إليوت؟”
قطّب يوان حاجبيه. مجرد ذكر سيريت لاسم ليديا جعله ينفعل.
طوال فترة إقامته في الفندق، كانت ليديا تزوره كل يوم. كانت تتذرع بأنها قلقة عليه. كانت عنيدة بشكل مزعج.
وفوق هذا، كانت تأتي أيضاً إلى المكتب، وتوبخه لأنه لا يتناول الطعام جيداً. ولو لم يتناول الطعام معها، ترفض المغادرة. لذلك اضطر لمشاركتها الطعام عدة مرات.
“لقد كنت تعيش مع ليديا في الفندق.”
“قولي كلاماً معقولاً.”
“أنا أعرف كل شيء.”
“ما الذي تحاولين قوله تحديداً؟”
تصلّب وجه يوان تماماً.
“أنّ قلبَك، يا حضرة الدوق، مع امرأةٍ أخرى. وأن تلك المرأة هي ليديا أيضاً.”
قالت سيريت بصوت واضح وهي لا تُنزِل عينيها عن عينا يوان الرمادية الباردة.
في حياتها السابقة لم تُحاصره يوماً بسبب ليديا.
لم تسأله كما يجب، ولم تغضب، ولم تُواجه. كانت تخاف أن يطلب الطلاق لو فتحت الموضوع، فكانت تتحمّل بصمت.
لكن الآن أرادت أن تخرج كل ما بداخلها. حتى الكلام الذي لم تتمكن من قوله في الماضي.
“أعرف أن الدوق يحب ليديا. لذلك دعنا نتطلّق. قلتُ لك إنني سأنسحب بهدوء من حياتك.”
نطقت سيريت بصوت ثابت.
نزعت القبّعة ذات الحجاب الأسود الذي كان يحجب رؤيتها. وما إن فعلت، حتى انغرست نظرة يوان الحادّة في وجهها مباشرة.
كان يوان يستند إلى ظهر المقعد، ثم مال بجسده نحوها. ارتفعت زاوية شفتيه بشكل مائل، وبرودته تحوّلت فجأة إلى قسوة جليدية جعلت قشعريرة تركض على عنقها.
“أنا أحب ليديا؟ أليس هذا ما تريدينه؟ أن أرتكب علاقة غير شرعية مع امرأة أخرى، حتى تستطيعي الطلاق مني والحصول على نصيبك من تقسيم الممتلكات.”
التعليقات لهذا الفصل " 86"