خرجت سيريت من الفندق وركبت العربة. حاولت جهدها أن تُبعد عقلها عن التفكير في يوان وليديا، فدفعت نفسها للتفكير في أي شيء آخر.
“الموت جاء مبكرًا قليلًا بالنسبة للإمبراطور…”
تمتمت سيريت وهي تحدق عبر نافذة العربة في العالم المظلم بالخارج.
الإمبراطور مات قبل عام كامل مقارنة بحياتها السابقة. هل يعني هذا أن زواج ليديا سيتقدم أيضًا؟
بعد وفاة الإمبراطور بوقت قصير في حياتها السابقة، تزوجت ليديا على عَجَل من لوفي برونك.
في المجتمع المخملي كانت هناك أحاديث كثيرة. الجميع كان يقول إن ولي العهد، الذي كان يرى ليديا شوكة في حلقه، أجبرها على الزواج من الابن الثاني عديم الشأن لعائلة برونك. تعاطف المجتمع مع ليديا بشدة، مما وضع ولي العهد وزوجته في موقف مزعج.
استحضرت سيريت وجه لوفي برونك، الرجل الذي سيصبح زوج ليديا. قصير القامة، ممتلئ بعض الشيء، وبملامح عادية جدًا… رجل يمكن أن تراه في أي مكان.
“ما السبب الذي مات من أجله لوفي برونك…؟”
سألت سيريت نفسها.
فلوفي برونك تُوفي بعد أقل من عام على زواجه من ليديا. عائلة برونك أخفت سبب الوفاة، وانتشرت حوله شتى الإشاعات.
كان يعاني من مرض مزمن، وهناك من قال إنه مات بسببه، وهناك من قال إنه انغمس في حياة فاسدة وأصيب بالزهري فمات، وآخرون قالوا إنه انتحر…
كانت الشائعات لا تنتهي، لكن عائلة برونك، وكذلك ليديا، التزموا الصمت تمامًا بشأن سبب وفاته.
لماذا مات لوفي برونك يا ترى؟ وفي عمر صغير كهذا.
وبينما كانت تفكر في لوفي برونك، توقفت العربة، فرفعت سيريت نظرها إلى النافذة. كان قصر الدوق يظهر خلف الزجاج.
نزلت من العربة وصعدت الدرج الحجري بخطوات منهكة. وما إن دخلت الردهة حتى سارع كبير الخدم نحوها.
“لقد عدتِ يا سيدتي.”
“الإمبراطور توفي.”
نقلت سيريت خبر وفاة الإمبراطور بعد أن تلقّت تحية الخادم.
“في الواقع، قبل قليل فقط جاء أحدهم من القصر الإمبراطوري يبحث عن الدوق.”
“الدوق توجّه مباشرة إلى القصر الإمبراطوري. من المؤكد أنه هناك الآن.”
“هكذا إذن.”
“إن كان هناك حاجة أي شيء، فتحدث مع السيدة لينزي واهتمّوا بتجهيزه مسبقاً.”
“حسنًا، مفهوم.”
أنهت سيريت الحديث مع كبير الخدم وتوجهت إلى الدرج. وبينما تصعد، أخذت تتخيل صورة يوان وهو يقف إلى جانب ليديا في تلك اللحظة.
تخيّلت سيريت هيئة يوان وهو يقف متألماً بجانب ليديا الحزينة، فابتسمت بسخرية خفيفة. لكن في نهاية الابتسامة تجمعت الدموع في عينيها، فبادرت سريعاً إلى مسحها.
وبعد أن مسحت دموعها، دخلت سيريت غرفة النوم بوجه يوحي كأن شيئاً لم يحدث. هرولت هانا نحوها ما إن رأت دخولها.
“سيدتي، هل تحدّثتِ مع الدوق؟”
“لا.”
قالت سيريت ذلك بملامح محرَجة وجلست على الأريكة.
اقتربت هانا بوجه يملؤه القلق وجلست قربها.
“وصل خبر وفاة جلالته، فلم أستطع التحدث معه كما يجب.”
رفعت سيريت نظرها إلى هانا وابتسمت ابتسامة صغيرة توحي بأنها بخير.
اتسعت عينا هانا دهشة.
“توفي جلالته؟”
“نعم. لقد غربت شمسٌ من شموس الإمبراطورية.“
“يا إلهي.”
رفعت هانا يدها إلى فمها من شدة الصدمة. وشعرت فجأة بأن الإمبراطور أيضاً مجرد إنسان. كانت تظن أن الإمبراطور كائن لا يموت أبداً.
“أنا متعبة يا هانا. سأخلد للنوم باكراً. حضّري لي ماء الاستحمام.”
“حسنًا، سيدتي.”
مسحت هانا ملامح الدهشة عن وجهها وخرجت مسرعة من غرفة النوم.
بعد أن أنهت سيريت حمّامها، تمددت على السرير أبكر من المعتاد. أرادت أن تغفو دون أي أفكار، لكن النوم لم يأتِ بسهولة.
وفي النهاية، وبعد ساعات من التقلب دون أن تنام، نهضت سيريت عندما وصل إلى أذنها صوت حوافر خيل قادمة من بعيد.
نزلت من السرير وتقدمت نحو النافذة، فتحتها على مصراعَيها ونظرت إلى الخارج. كانت عربة يوان تدخل قصر الدوق.
“يوان.“
كانت تعتقد أنه لن يعود الليلة. حدّقت سيريت بشرود في يوان وهو ينزل من العربة.
وظلت ملتصقة بالنافذة حتى اختفى من نظرها تماماً. ثم استوعبت ما تفعله وخرجت بسرعة من غرفة النوم.
القدر الصغير المتبقي من التعلّق دفع سيريت للجري نحوه. أرادت أن ترى ولو قليلاً ملامح اعتذار على وجه يوان، لأنه تركها في الفندق وذهب مع ليديا.
وحين خرجت إلى الردهة، سمعت خطوات تصعد الدرج. كلما اقترب الصوت وارتفع، ازداد خفقان قلب سيريت معه.
وبعد لحظات، ظهر يوان عند أعلى الدرج. تقدمت سيريت نحوه ببطء.
وتوقف يوان في منتصف خطواته عندما لمح سيريت في الردهة.
“سمو الدوق.”
نطقت سيريت باسمه حين التقت عيناهما.
ربما بسبب الإضاءة الخافتة في الردهة، بدا وجه يوان معتماً. وخرج صوته كأنه زفرة.
“ألم تنامي؟”
“لم يأتِني النوم.”
“الوقت متأخر. ادخلي ونامي.”
صرف يوان نظره عنها واتجه نحو غرفة نومه. مرّ بجانب سيريت وهو يسير.
وكانت رائحة يوان المألوفة ممزوجة بعطر ليديا. فشعرت سيريت بالمرارة، وسرعان ما مدّت يدها وأمسكت ذراعه دون أن تنتبه لنفسها.
توقّف يوان ونظر إلى سيريت من أعلى. وحين شعرت بنظرته عليها، رفعت سيريت عينيها نحوه.
“دعنا نتحدث قليلاً.”
“الوقت متأخر. لاحقاً.”
“لدينا حديث تركناه معلّقاً، أليس كذلك؟“
حدّقت سيريت مباشرة في عيني يوان. كانت تريد في الحقيقة أن تسمع منه كلمة أنا آسف، لكنها اختارت أن تقول شيئاً آخر.
حتى تحت الإضاءة الخافتة، بدا جلياً أن نظرات يوان أصبحت باردة. ارتفع طرف شفتيه في ابتسامة ساخرة.
“يبدو أنك ترغبين في إنهاء الزواج بأسرع ما يمكن.”
“الذي بدأ حديث الطلاق لم يكن أنا، بل أنت يا دوق.”
“لكن التي رغبت فيه أكثر من أي أحد هي أنت.”
انتزع يوان ذراعه من يد سيريت وتوجّه من جديد نحو غرفة النوم.
وقفت سيريت هناك تحدّق في ظهره، في الرجل الذي مرّ بها ورائحة ليديا ما زالت عالقة بثيابه، فقبضت يدها بقوة.
“أريد إنهاء الأمر بسرعة.”
توقّف يوان عند سماع صوتها خلفه. كتفاه ارتجفا بخفوت. وملامحه، وهو يحاول كبح غضبه، التوت بشكل قاسٍ.
“هذا الحديث لم يكن بحاجة لكل هذه المماطلة“
تابعت سيريت كلامها وهي لا تزال تحدّق في ظهر يوان.
“ولا هو حديثٌ ينهيه المرء بهذه السرعة أيضًا.”
استدار يوان ببطء. كان وجهه، وهو يقمع غضبه، باردًا وحادًا كحدّ الزجاج.
“أنا أريد إنهاءه بسرعة.”
ورغم ذلك الحدّ القاسي الذي شعرت أنه سيجرحها، لم تتراجع سيريت.
خطوات قليلة فقط، وكان يوان واقفًا أمامها من جديد. أمسك بذراعيها بكلتا يديه بقوة، وقال بصوت مبحوح.
“لا تستفزّيني. فقد بتُّ لا أعرف ماذا قد أفعل بك.”
“…….”
بعد كلامه لم تستطع سيريت أن تقول شيئًا، ورفعت بصرها نحو يوان. كانت عيناه الرماديتان الحادّتين تلمعان بخطر واضح.
ظلّ الاثنان يحدّقان في بعضهما بلا كلمة لوقتٍ بدا طويلًا. النظرات المتواجهة بينهما كانت مشدودة حدّ التوتر.
“أخرجني من حياتك.”
قالتها سيريت بعد صمتٍ طويل.
وفجأة تملّكها الخوف. خافت أن يكون يوان، كما كان في حياتها السابقة، يخطط للتخلّص من زوجته من أجل المرأة التي يحبها، ليديا.
هي لا تريد أن تُسحَق مرة أخرى في سبيل حبّ يوان وليديا. ارتجف جسدها ارتجافًا خفيفًا.
“…ولماذا أفعل ذلك؟“
اشتدّت قبضته حول ذراعي سيريت، يد يوان تضغط أكثر فأكثر.
لقد أدرك أخيرًا ما هو ذلك الشعور اللعين المسمّى حبًّا. فكيف له أن يُخرجها من حياته الآن؟
بعد أن أصبح يعرف أنه لو أزالها من حياته، فسيغرق في تلك المشاعر المزعجة بلا مفر.
ويعرف الآن جيدًا كم يمكن لتلك المشاعر أن تهدم حياته.
لماذا عليه، بحقّ الجحيم، أن يدمّر حياته؟ فقط لأنه يحبّها؟
“…….”
“لماذا ينبغي عليّ أصلًا أن أُقدّم لكِ مثل هذا النوع من الاعتبار؟”
شدَّ يوان قبضته على ذراعَي سيريت وجذبها نحوه بقربٍ شديد.
امرأة كانت دومًا تُربكه، وتدفعه إلى مواجهة مشاعر غريبة عنه. لطالما ظنّ أنها مسألة بلا حلّ… لكن ذلك الجواب انكشف أخيرًا.
إنه يحبّها. المرأة التي كان يجب أن تبقى بلا أي قيمة في حياته كي يكون الأمر أسهل عليه.
ذلك الحبّ اللعين يبعثر حياته المرتّبة بوحشيّة. ويجعله يعرف أن في هذا العالم أشياء لا تخضع لإرادته، ويُورثه شعورًا عميقًا بالهزيمة.
لا يعرف كيف جرى تغليف الحبّ بصفته أمرًا رومانسيًا وعذبًا. أمّا بالنسبة ليوان، فالحبّ لم يكن سوى طاغية ظهر في حياته المثالية.
انحنى يوان قليلًا حتى لامست جبهته جبهة سيريت. وما إن شعر بحرارتها المتصلة بجلده حتى ارتفع طرف شفتيه ارتفاعًا طفيفًا.
إنها طاغية جامحة، تدوس على حياته المنضبطة وتحوّلها إلى فوضى… ومع ذلك، كلما شعر بحرارة سيريت هكذا، وجد نفسه يرغب في الخضوع لها بلا مقاومة.
لذا يا سيريت، أنتِ…
“لا تُعلّقي أي أمل ولو صغير بأنكِ ستفلتين منّي.”
ستحكمين حياتي إلى الأبد. سواء رغبتِ بذلك أم لا.
***
كانت سيريت تشعر بالامتنان لأن الحجاب الأسود المعلّق على قبعة الحداد يغطي وجهها. فهو سيخفي تعابيرها.
خلال جنازة الإمبراطور، كان من الصعب عليها أن تُحافظ على ملامحها حين التقت بليديا. وبالكاد نجحت في إخفاء مشاعرها وهي توجه لها كلمات العزاء.
“لا بد أن حزنك كبير يا ليديا. لا أعلم حتى كيف يمكنني مواساتك.”
التعليقات لهذا الفصل " 85"