قالت ليديا وهي تبكي بمرارة وتضع رأسها على صدر يوان.
بعد أن أخبرها كبير الحجّاب بالخبر، انغمست ليديا في حزنٍ عميق حتى إنها لم تستطع حتى الوقوف جيدًا. بل إنها فقدت وعيها للحظة بسبب الصدمة الكبيرة.
وحين بالكاد استعادت وعيها، ركضت مباشرة إلى غرفة الإمبراطور. كان الإمبراطور غارقًا في نومٍ عميق. ركضت إليه وهي تنادي والدها وأمسكت بيده.
ارتجفت ليديا فجأة عندما شعرت ببرودة يده الجامدة، وأدركت حقيقة موت الإمبراطور. يد بلا أي دفء كانت مخيفة للغاية، فهربت من القصر الإمبراطوري مذعورة، إلى الفندق الذي يقيم فيه يوان.
وبينما كانت بين ذراعي يوان الدافئتين، على عكس يد الإمبراطور الباردة، شعرت ليديا بأنها بدأت تهدأ. وجود يوان كان نعمة لها في هذه اللحظة.
“جلالته؟“
أمسك يوان كتفي ليديا وأبعدها قليلًا عن حضنه، وهو يحدّق فيها بوجه متجمّد.
كان يوان يعرف جيدًا أن صحة الإمبراطور لم تكن على ما يرام. فالعمر المتقدّم والأمراض المزمنة اجتمعت، وكان وضعه يزداد سوءًا عامًا بعد عام.
لكن لم يكن الوضع خطيرًا إلى درجة أن يرحل فجأة هكذا. وبما أن صحة العائلة الإمبراطورية كانت تُدار في المستشفى المملوكة لعائلة فريكتويستر، كان يوان يتلقى تقارير أسبوعية عن حالة الإمبراطور.
وخلال الأسابيع الماضية لم يكن هناك تدهور ملحوظ، لذلك بدت وفاة الإمبراطور المفاجئة صادمة للغاية ليوان.
“حتى البارحة… خرج في نزهة معي. كيف يمكن لهذا أن يحدث فجأة….”
كانت ليديا غير قادرة على تصديق موت الإمبراطور. بالأمس فقط كان يوبّخها بلطف قائلاً إنه يجب عليها دائمًا أن تغطي نفسها بالبطانية حتى لو كان الجو حارًا.
“…….”
“أصبحتُ وحدي الآن. بعد رحيل جلالته… لم يعد هناك أي شخص بجانبي.”
تمسّكت ليديا بذراع يوان بقوة وهي تبكي بحرقة. كان الشعور بأنها تُركت وحدها يطغى عليها تمامًا، فلم تستطع السيطرة على حزنها.
سيريت كانت تنظر بنظرة شاحبة خالية من التعبير إلى ليديا التي كانت تتمسّك بذراع يوان وتبكي.
وجه ليديا الأبيض المرتجف ودموعها المنهمرة، كانت تبدو في غاية الحزن، لدرجة أن سيريت -عدوتها- شعرت بغريزة الحماية خاصتها تجاهها من شدّة ما كان يبدو عليها من بؤس.
نظر يوان إلى ليديا بوجه معتم، ثم رفع ذراعه ببطء وربّت على كتفها بخفة.
عند رؤية ذلك، انقبض قلب سيريت بشدة، واشتدّت قبضتها على طرف فستانها.
“كانت يد جلالته باردة جدًا… كأنني أمسكتُ بقطعة خشب. خفت كثيرًا. لا أريد العودة إلى القصر الإمبراطوري.”
“لكن عليكِ الذهاب.”
“لم يعد جلالته في القصر. لا أصدق أنه رحل. يبدو كل شيء كذبًا. يوان، ماذا أفعل الآن؟ كيف سأعيش؟”
“اهدئي يا ليديا.“
أمسك يوان كتفي ليديا بقوة ليحاول تهدئتها. موت الإمبراطور المفاجئ كان لا بد أن يترك أثرًا كبيرًا عليها.
لم يكن لدى ليديا أي قوة تحميها. من جهة الأم لا توجد عائلة تساندها لأنها ابنة محظية من قبيلة الهِلد، كما أنها لم تكن متزوجة كي تحظى بحماية عائلة الزوج.
لهذا كان عليها أن تستعيد وعيها الآن بالذات. لا يجوز لها أن تبقى خارج القصر في وقت كهذا.
“اهدئي، وعودي إلى القصر. يجب أن تكوني هناك الآن.”
عدم اعتراف البلاط رسميًا بها كأميرة يعني أن خروجها في لحظة كهذه سيخلق المتاعب حتمًا. ولي العهد الذي لا يحبها سيستغل هذا الأمر النقدي دون شك.
“اذهب معي، يوان. لا أستطيع العودة وحدي.”
رفعت ليديا رأسها لتحدّق به وهي تنتحب. كانت دموعها تغمر عينيها الزرقاوين بشكل يثير الشفقة.
“حسنًا.“
هزّ يوان رأسه بالموافقة. فبما أن الإمبراطور قد تُوفي، كان عليه هو أيضًا أن يتوجّه إلى القصر الإمبراطوري على أي حال.
أخذ يوان يعتني بليديا ثم غادر معها غرفة الفندق. ولم يدرك إلا بعدما خرجا إلى الممر أن سيريت ما زالت داخل الغرفة.
“انتظرِي في الأسفل أولًا. سألحق بك حالًا.”
كان يوان ينوي أن يُنزل ليديا وحدها إلى الطابق الأول، لكن ليديا هزّت رأسها برعب.
“لا، يوان. لا أريد أن أبقى وحدي. أنا خائفة جدًا.”
أمسكت ليديا بذراع يوان بخوف شديد.
كانت تشعر وكأن العالم انتهى بالفعل. فوالدها، الذي كان عالمها المتين والوحيد، رحل فجأة في لحظة. شعرت كأن الأرض التي تقف عليها قد انهارت من تحتها.
ولذلك كانت تحتاج لشيءٍ ما تتشبث به بقوة. وبالنسبة لليديا، كان ذلك الشيء هو يوان.
تردّد يوان وهو ينظر إلى وجه ليديا المذعور. وجهها بدا حقًا في حالة خطيرة. لكنّه لم يستطع أيضًا أن يغادر وهو يترك سيريت هكذا وحدها.
“إذن انتظري هنا قليلًا. لأن سيريت ما زالت داخل الغرفة…“
“يوان، أشعر بالدوار.”
قطعت ليديا كلام يوان. وما إن أنهت جملتها حتى انهارت مباشرة داخل ذراعيه.
لم تكن تريد أن تدع يوان يعود إلى سيريت. ولا حتى لثانية واحدة.
فهي الآن في غاية الحزن والانهيار، ولذلك رأت أن من الطبيعي أن يكون يوان بجانبها.
وكانت ترى أنه من الطبيعي أيضًا أن تفهم سيريت هذا الأمر.
“ليديا.”
أسرع يوان في دعم ليديا التي سقطت في حضنه. وبوجه مرتبك، لم يعرف ماذا يفعل ولا إلى أي جهة يتحرك، حين فتحت ليديا عينيها ببطء.
“يوان، أريد أن أذهب إلى القصر الإمبراطوري. أريد أن أذهب إلى جلالته.”
قالت ليديا بصوت رقيق يكاد ينقطع.
وفي النهاية، هزّ يوان رأسه بالموافقة.
كان عليه أولًا أن يأخذ ليديا إلى القصر الإمبراطوري.
فالدرع الذي كان يحميها، الإمبراطور، لم يعد موجودًا… لذلك كان على ليديا أن تتصرف بحذر شديد.
هكذا فقط يمكنها حماية نفسها.
سيريت هي…
ألقى يوان نظرة خاطفة بإتجاه باب غرفة الفندق المغلق.
ربما ستتفهم الأمر.
غادر يوان المكان وهو يصحب ليديا معه.
ولم يعترف يوان لنفسه إلا بعد أن صعد إلى العربة أن تركه سيريت خلفه ومغادرته بهذا الشكل كان بسبب جُبنه…
فجزءٌ منه كان فقط يريد الهرب من مواجهة حديث الطلاق.
***
وقفت سيريت في مكانها كأن مسمارًا ثُبّت في قدميها.
زوجي غادر مع امرأة أخرى… أمام عينّي.
من دون كلمة واحدة.
صحيح أننا على وشك الطلاق، لكن رؤية مثل هذا المشهد لم يكن أمرًا مريحًا أبدًا.
‘اهدئي يا ليديا.’
صوته كان حازمًا، لكن داخل ذلك الحزم شعرتُ بشيء من اللطف.
والآن بعد أن فكرت بالأمر… ربما هذه أول مرة أسمعه يناديها “ليديا”.
لم يسبق ليوان أن نطق اسمها أمام سيريت ولو مرة واحدة.
ليس احترامًا لزوجته بالطبع، بل لأنه دوق فريكتويستر الدقيق الذي لا يرتكب خطأ في الألقاب.
“إلى أي حد كان قلقًا عليها يا ترى.“
تذكّرت سيريت كيف نادى يوان اسم ليديا أمامها، فابتسمت ابتسامة باهتة.
على ريغان كان يصبّ غضبه، أما معها…
راقبت دون أن يفوتها شيء.
كيف هدّأ ليديا، وكيف أخذها معه… كل لحظة شاهدتها بالكامل.
وفي تلك اللحظة شعرت وكأن وجودها مُسِح تمامًا.
صورة الاثنين وهما لا يريان إلا بعضهما البعض ظلت تلمع أمام عينيها، فابتسمت سيريت بمرارة.
لن أتأذى… لن أتأذى.
كررت ذلك لنفسها مرات عديدة، غير مدركة أن هذه الكلمات نفسها كانت تخدش صدرها.
“أنا حقًا بخير.”
تمتمت سيريت بوجه خالٍ من أي تعبير، ثم خرجت من الغرفة وسارت في الممر الطويل بخطوات ثابتة لا تهتز.
***
بإرشاد أحد الخدم، دخل يوان وليديا إلى غرفة نوم الإمبراطور.
كان وجه الإمبراطور مغطى بقطعة قماش بيضاء وهو مستلقٍ بانتظام.
“جلالتك…”
ما إن رأته ليديا حتى انهارت جاثيةً على الأرض، غير قادرة على كبح حزنها.
“آنسة إليوت.”
ساعدها يوان على الوقوف.
كان يكره أن يراها غارقة في هذا الحزن.
“أشعر وكأنني أعيش كابوسًا. هذا حلم… أليس كذلك يا يوان؟ أنا فقط رأيت حلمًا سيئًا جدًا.”
دفنت ليديا وجهها في كتف يوان وانفجرت بالبكاء.
تردّد يوان قليلًا، ثم ربت على كتفها بخفة.
في تلك اللحظة، دخل وليّ العهد هندرسون ومعه ريغان.
وما إن رأى يوان الاثنين يدخلان، حتى أبعد ليديا عن حضنه بحركة حذرة.
“دوق فريكتوستر، جئت إذًا. كنت على وشك أن أرسل أحدًا إلى مكانك.”
“وصلني خبر جلالة الإمبراطور من الآنسة اليوت، لذلك حضرت فورًا.”
رد يوان بنبرة هادئة. شعر بنظرات ريغان عليه، فحوّل نظره إليه. كان ريغان يحمل تعبيرًا مربكًا لكنه اكتفى بابتسامة صغيرة.
“أعرف أن وقع الخبر كان صعبًا عليك.”
بعد أن أنهى كلامه مع ريغان، التفت يوان نحو هيندرسون وقدّم تعازيه.
وضع هيندرسون يده على جبينه وكأنه مثقل بالخبر، ثم قال بصوت مكسور.
“كان الأمر مفاجئًا جدًا، أشعر بصدمة حقيقية.”
“كاذب… أنت سعيد بموت جلالته! لا تمثّل أمامي!”
صرخت ليديا فجأة وهي تحدّق في هيندرسون بنظرة غاضبة.
وفي لحظة واحدة، تجمّد الجو. حدّق هيندرسن بها وقد ارتفع حاجباه بغضب، بينما أمسك ريغان بيد ليديا بسرعة، والذهول واضح على وجهه.
“ليديا.”
“سمو ولي العهد سعيدٌ بوفاة جلالته، أليس كذلك؟ لأنك ستصبح إمبراطورًا الآن. مقرف… حقًا مقرف.”
ليديا نزعت يدها من يد ريغان، وبدأت تهاجم هيندرسون بلا تردد.
كانت تعلم جيدًا أنه كان يتمنى موت الإمبراطور… وأنه كان يحسب الأيام ليجلس على العرش. كيف يجرؤ على التظاهر بالحزن الآن؟
انهمرت دموع ليديا، وارتجف جسدها كله.
“ابنة محظية قذرة!”
صرخ هيندرسون وقد انفجر غضبًا، ورفع يده ليضرب ليديا.
لكن يوان اندفع فورًا ووقف بينهما، يقطع الطريق على هيندرسون.
بقيت يد هيندرسون معلقة في الهواء ترتجف قبل أن يخفضها في النهاية.
“اختفي من أمامي حالًا!”
صاح هيندرسن في وجه ليديا وهو يفقد أعصابه.
جثت ليديا على الأرض وهي تنتحب. كل شيء بدا كابوسيًا. لم تستوعب بعد كيف ستعيش في عالمٍ لم يعد فيه والدها موجودًا.
في تلك اللحظة، سمعَت صوت يوان.
“آنسة إليوت.”
كان يوان يمد يده نحوها، كأنه يدعوها للنهوض.
رفعت ليديا عينيها المملوءتين بالدموع ونظرت إليه. وما إن التقت عيناها بعينيه حتى أومأ لها يوان برأسه إيماءة صغيرة تدعوها للإمساك بيده.
مدّت ليديا يدها ببطء وأمسكت بيده. كانت يده دافئة… على عكس يد الإمبراطور الباردة.
تلك اليد التي مدّها يوان كانت بالنسبة لليديا طوق نجاة.
التعليقات لهذا الفصل " 84"