كانت سيريت واقفة طوال الوقت عند النافذة. كانت تحدّق في فناء القصر الذي غطّته عتمة الليل، وكان تعبير وجهها مُظلمًا تمامًا مثل العالم خارج النافذة.
ألقى يوان كلمة “لنتطلق” ثم خرج مع ليديا، ولم يعد حتى بعد حلول الليل.
شعرت وكأنها عادت إلى حياتها السابقة. إحساس ثقيل بالهجر خيّم عليها.
ظلت تحدّق في النافذة بشرود، ثم استدارت مبتعدة عنها. ورغم أنها كانت تعلم أن عربة يوان لم تعد بعد، فقد حملها الأمل الضعيف إلى التوجّه نحو غرفة نومه.
فتحت باب الغرفة ودخلت، لتواجه سريرًا خاليًا تمامًا. كما توقّعت، يوان لم يعد، والسرير المهجور بدا كقلبها، موحشًا وكئيبًا.
جلست سيريت على طرف السرير. البقاء وحدها في غرفة مظلمة كهذه جعلها تشعر وكأنها منفصلة عن العالم كله.
شعرت فعلًا بأنها مُهملة، فابتسمت ابتسامة باهتة مُرة.
“كان يجب أن أفرح، أليس كذلك؟ يوان هو من طلب الطلاق أولاً. أليس هذا ما كنتُ أريده طوال الوقت؟”
لم تستطع فهم نفسها. ألم يكن يُفترض أن تصرخ فرحًا لأنها أخيرًا ستتحرر من يوان فريكتويستر؟
تنهدت سيريت ثم غادرت غرفة نومه. وبعد ذلك، ولوقت طويل، لم يعد صاحب الغرفة إليها.
***
“أنا أحبك يا يوان. أحبك بصدق.”
ابتسمت ليديا حين مسح يوان الدموع المنهمرة من عينيها.
ولما اقترب منها كأنه سيقبّلها، أغمضت عينيها ببطء وكأنها كانت تنتظر تلك اللحظة منذ زمن.
بسبب تصرف يوان، ازدادت ليديا يقينًا. أنه يبادلها ذات المشاعر، وأن سيريت ليست سوى شيء تافه في نظره، وأنها لا يمكنها أن تتدخل بينهما مطلقًا.
“أهذا هو ما يُسمّى حبًا؟ تبًا.”
همس يوان بصوت خائر وهو يقترب منها ثم أسند رأسه على كتف ليديا.
“أمن المعقول أن يكون هذا هو الحب؟”
تمتم يوان بكلمات مبهمة، ثم فقد وعيه تمامًا.
ليديا، بمساعدة السائق، نقلت يوان إلى فندق.
فهي لم ترغب في إعادته إلى قصر الدوق الآن.
فإن ذهب إلى قصر الدوق حيث توجد سيريت، فستحاول تلك “اللا شيء” أن تتصرف كزوجة، ولم تستطع ليديا احتمال رؤية ذلك.
جلست ليديا على حافة السرير، تحدّق في يوان الذي غلبه النوم.
حين اعترفت له بحبها، لم يظهر يوان أي رد فعل واضح. كانت تتوقع أن يقبّلها، لكنه لم يفعل سوى التمتمة قائلًا أهذا هو الحب؟
“لقد قال ذلك لأنه كان مخمورًا… مخمورًا فحسب.”
همست ليديا وهي تلمس رأس يوان النائم بحذر.
ثم شعرت بالكآبة بسبب يوان الذي شرب حتى الثمالة هكذا. لم يكن هذا هو الرد الذي أرادته ليديا.
هي أرادت أن ترى يوان يحتقر سيريت ويكرهها،
ولم تكن تريد أن ترى يوان يتألم بسبب سيريت.
“لا تتألم هكذا بسبب سيريت. فهذا ليس حبًا على أي حال.”
غرقت عينا ليديا بالدموع، لماذا يتألم هكذا بسبب امرأة لا يحبها أصلًا؟
هذا فقط لأنه جُرح كبرياؤه، أليس كذلك؟
لأنه سمع أن سيريت خانته مع جاك كلارك.
نعم… هذا هو السبب.
يوان، لا يجب أن تحب أي شخص آخر، أي شخص غيري… أبدًا لا يجوز.
مسحت ليديا الدموع التي تراكمت عند طرف عينيها بظهر يدها.
وفجأة تذكّرت تلك القطة البيضاء التي كانت تتبع يوان جيدًا.
القطة البيضاء التي ظهرت فجأة ذات يوم استحوذت على مودة يوان كلها.
يوان الذي كان يجب أن يهتم بي وحدي، وأن ينظر إليّ وحدي بعطف، أعطى موده لتلك القطة البيضاء.
قطة تافهة تتجرأ على نيل مودة يوان.
كيف تجرؤ… مجرد قطة.
تداخلت صورة تلك القطة البيضاء مع صورة سيريت، امرأة تافهة تتجرأ على الوقوف قرب يوان وتلقي اهتمامه.
ذلك كان مكاني، كان كل شيء لي.
عضّت ليديا شفتها.
“سيريت…”
في تلك اللحظة، تمتم يوان باسم سيريت وهو ممدد على السرير.
ارتعج وجه ليديا باستياء عندما رأت يوان يبحث عن سيريت. لم تطق سماع اسم سيريت ينساب من بين شفتيه، فوضعت يدها على فمه لتسكته.
كان يجب أن تكون هي وحدها من ينال اهتمام يوان وحنانه. لماذا لا يفهم ذلك؟ إن كنتُ أحبه، فمن الطبيعي أن يحبّني هو أيضًا.
انهمرت الدموع من عيني ليديا. واهتزّ طرف ذقنها بينما تلألأت في عينيها لمعة قاتلة.
“إن استمر يوان بفعل هذا، سأرغب حقًا في قتل سيريت.”
مثل تلك القطة البيضاء.
***
شعر يوان بعطش شديد، ففتح عينيه. وما إن استيقظ حتى عقد حاجبيه ونهض جالسًا.
استغرق بضع لحظات قبل أن يدرك أنه في مكان غريب. جال بنظره حوله.
ليس منزله… فندقٌ على ما يبدو.
تنهد يوان ورفع يده ليمررها عبر شعره. كان رأسه يؤلمه من كمية الخمر المفرطة التي شربها، ومعدته تحترق.
وفوق ذلك، لم يتذكر أحداث الليلة الماضية جيدًا. يتذكر خروجه من القصر وذهابه إلى الحانة، لكن ما بعد ذلك لا يتصل سوى بقطع متناثرة.
“اللعنة.”
همس يوان بالشتيمة ونهض من السرير.
تقدم نحو طاولة الشاي، وملأ كوبًا من الإبريق وشربه، ثم ضغط بإصبعيه على صدغيه. كان يوم الأمس فعلًا يومًا فاسدًا بكل معنى الكلمة.
‘هل تعلم أنك الأسوأ الأن؟’
كانت كلمات سيريت تطنّ في أذنيه.
نعم، كان الأسوأ. أسوأ ما يمكن تخيّله.
بدأ يوان يفك أزرار قميصه. وبحركة متوترة قليلًا، خلع القميص ووضعه فوق كرسي الطاولة، ثم اتجه إلى الحمّام.
بعد أن أخذ حمامًا خفيفًا، خرج مرتديًا رداء الاستحمام وجلس على حافة السرير. وكانت قطرات الماء تتساقط من شعره المبلل.
لم يكن ممكنًا قراءة أي شعور على وجه يوان الخالي من التعبير، لكنه كان غارقًا في أمواجٍ هائجة من المشاعر أكثر من أي وقت مضى.
وعندما كان يوان مستلقيًا في حوض الاستحمام غارقًا في التفكير، وصل إلى نتيجة معينة. وما إن أدركها حتى شعر بأنها كانت بديهية، لدرجة جعلته يتساءل كيف لم ينتبه لها إلا الآن.
“ها… هكذا كان الأمر. كان هذا هو السبب.”
ابتسم يوان بسخريةٍ يائسة.
كان احتياجه كل هذا الوقت ليكتشف شيئًا بهذه البساطة أمرًا يثير الشفقة. لو أنه أدركه أبكر، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد.
“هل تأخرتُ كثيرًا؟”
خرج صوته حين تمتم بالكلمات ممتلئًا بالوحدة.
شعر أنه قد ابتعد كثيرًا عن نقطة يمكن العودة إليها. كانت هناك فرص كثيرة ليفهم هذا الشعور، لكنه لم ينتبه إلا الآن.
تلك اللحظة، دوى صوت طرق خفيف على الباب.
رفع يوان بصره نحو الباب. وقبل أن يجيب، فُتح الباب ودخلت ليديا.
“يوان، استيقظتَ؟“
اقتربت ليديا، ولما رأت هيئة يوان احمرّ وجهها. ومع احمرار وجهها، خفضت بصرها وشبكت يديها معًا.
نظر يوان إلى ليديا الخجولة، فخطر في باله ما حدث ليلة أمس، وانقبض ما بين حاجبيه.
’أحبك يا يوان. أحبك بصدق.‘
ظلّ صدى كلمات ليديا، التي قالتها وهي تنظر إليه، يرن في ذاكرته.
نعم، الحب.
المشاعر التي لم يدركها يوان إلا الآن… كانت ذلك الحب اللعين.
***
بعد اعادة ليديا، قضى يوان صباحه في الفندق، ثم توجه إلى الحديقة لمقابلة الطبيب كولمان. وبما أن ذلك اليوم كان موعد المشاورة الدورية، باح يوان للطبيب كولمان بما حدث يوم أمس.
وبعد أن طلب يوان نصيحته، أوصى الطبيب كولمان بحذر أن ينفصل عن زوجته لفترة قصيرة. قال إن الابتعاد قليلًا عن الشخص الذي يفقده اتزانه، وتهدئة مشاعره من بعيد… يمكن أن يكون مفيدًا.
وحتى يوان رأى أن ذلك مناسب، فقرر أن يمكث في الفندق لفترة.
بعد انتهاء جلسة المشاورة مع الطبيب كولمان، اتجه يوان إلى مكتبه الرسمي. وكان هناك ضيف غير مرحَّب به ينتظره.
تقدم يوان نحو ريغان الذي كان جالسًا على الأريكة.
“ما الأمر؟“
“تأخرتَ.”
نهض ريغان من مقعده ونظر إلى يوان. كان وجهه جادًا على غير عادته.
عند رؤية ذلك الوجه، بادر يوان بالكلام أولًا.
“لو كان الأمر بسبب ما حدث أمس…”
“لقد أخطأتُ. جئت لأعتذر لأنني ناديتُ الدوقة باسمها بلا تحفظ.”
قاطع ريغان كلام يوان واعتذر.
نظر يوان إلى وجه ريغان بصمت. جاء ليعتذر عن مناداته لسيريت باسمها، لكن ملامحه كانت تقول إنه لديه شيء آخر يريد قوله.
“إذا كان عندك ما تقوله، فقله.”
جلس يوان على الأريكة وهو يطلق نفسًا فيه شيء من التعب.
تحركت شفتا ريغان قليلًا قبل أن يجلس في المقعد المقابل. ظل طويلًا يحدّق في ركبتيه فقط، ثم رفع نظره أخيرًا إلى يوان.
“هل كنتَ دائمًا هكذا؟”
لم يستطع ريغان محو صورة يوان وهو يسيء معاملة سيريت من رأسه. إن لم يكن سيعاملها كشيء ثمين، فسيكون من الأفضل أن…
“لستُ بهذا القدر من الحقارة.”
فهم يوان ما يقصده ريغان وقطّب حاجبيه.
“إنها مسكينة… الدوقة.”
فرك ريغان وجهه بيده. لم يعرف كيف يهدّئ المشاعر التي كانت تغلي داخله.
ريغان لم يغفو لحظة واحدة طوال الليل. صحيح أن الأمر مسألة بين زوجين لا يستطيع التدخل فيها، لكن شعورًا ملحًا بداخله كان يقول إنه يجب أن يفعل شيئًا، أي شيء.
“ولماذا؟ لماذا تشفق على زوجتي؟”
جاء رد يوان حادًا.
كلام ريغان وتعابير وجهه لم تكن مريحة له. كان من المستفز أن يقلق رجل آخر بشأن سيريت. وكان يشك في أن كلمة مسكينة عند ريغان تعني مجرد شفقة بسيطة.
تنفّس ريغان بعمق ورفع نظره إلى يوان.
“هل تحب الدوقة؟“
“ماذا؟”
“قلت، هل تحبها.”
عاد ريغان يسأل. وحتى وهو يعرف أن يوان لا يحب سيريـت، سأله.
فـريغان يعرف جيدًا أن يوان ليس من النوع الذي يستطيع أن يحب أحدًا بصدق.
يوان كان لا يهتم إلا بعائلته وأعماله، وكان يؤمن بأن الزواج من أجل الحب تصرف أحمق.
وكان يحتقر الرجال الذين يلاحقون المرأة التي يحبونها متسولين الحب والاهتمام، وكان ينظر إلى الزوجة كعنصر ضروري فقط لاستمرار سلالة العائلة.
لذلك، من غير الممكن أن يوان يحب سيريـت.
“ولماذا تسأل عن شيء كهذا.”
سأل يوان بصوت جاف.
الحب، ذلك الحب اللعين مرة أخرى. شعر يوان أنه أصبح أكثر إرهاقًا بأضعاف بعد أن أدرك هذا الشعور الذي يسمّى الحب.
“أحبّها. فهي زوجتك.”
“لقد تجاوز حدودك.”
عند كلمات ريغان التي تبِعت ذلك، تجهّم وجه يوان.
“أعرف. لكن يجب أن أقولها. كصديقك، وأيضًا…”
لم يستطع ريغان إكمال جملته. الكلمات التي كانت ستأتي بعد ذلك لم يكن يجب أن تُقال… تلك التي تعني أنه يهتم بسيريت كثيرًا.
“سأتدبّر الأمر. ما بيني وبين زوجتي.”
“أرجوك يا يوان. لا تؤذِ الدوقة.”
بدا ريغان فجأة في غاية التوسل. لم يعرف من أين جاءت كل هذه الرجاء، لكنه شعر وكأنه يريد أن يتوسل بالفعل…
ألا يجرح سيريت. أن يعتز بها وأن يحبها.
”…….”
يوان أغلق فمه عند كلام ريغان.
“إنها شخص يستحق أن يُحَب. وأنت مُلزَم بأن تمنح الدوقة ذلك الحب. لا تنسَ هذا، يا دوق فريكتويستر.”
بعد أن قال ريغان كلماته، نهض من مقعده. وبعد أن حدّق في يوان للحظة، غادر المكتب.
بعد خروج ريغان وبقاء يوان وحده، ظل يوان لبرهة يحدّق بوجهٍ جامد في المكان الذي كان ريغان جالسًا فيه.
التعليقات لهذا الفصل " 81"