توقّفت العربة أمام مسرح موزشو. وبعد أن وصلت أمام المسرح، تردّد يوان لبرهة طويلة ولم يستطع النزول فورًا.
أي وجه يفترض به أن يقف به أمام زوجته التي تنتظر رجلًا آخر؟
مرّر يوان يده على وجهه وتنهد بعمق.
على أي حال، جاك قد رحل، ولن يتمكن مرة أخرى من الظهور أمام سيريت. لقد أرسله إلى مكان لا يستطيع فيه حتى إرسال رسالة واحدة، لذلك لن تعرف سيريت أخباره أبدًا.
هل يجب علي فعلًا أن آتي بيدي لأُحضر زوجة سقطت في حب رجل آخر؟
سواء تألمت أو ظلت تجوب الليل بحثًا عن جاك، فهذا لا يخصني… أليس كذلك؟
ومع ذلك، نزل يوان في النهاية من العربة. لم يكن يستطيع تحمّل رؤية سيريت وهي تحترق قلقًا في انتظار رجل آخر.
وبينما كان يوان يقطّب جبينه وهو يترجل من العربة متجهًا نحو المسرح، سمع صوتًا مألوفًا.
“يوان!”
كان صوت ليديا تناديه بلهفة وكأنها سعيدة برؤيته، فاستدار يوان إلى الخلف.
كانت ليديا تقترب منه بابتسامة مشرقة.
“آنسة إليوت.”
وما إن ظهرت ليديا، حتى تجمّد وجه يوان.
منذ أن علمت ليديا بحالتها الصحية، كان يوان يشعر بالذنب تجاهها. لذلك كان هذا اللقاء مربكًا بالنسبة له بعض الشيء.
وعلى خلاف ما كان يوان يخشاه، كانت ليديا تنظر إليه بوجه مشرق.
“جئت لتشاهد المسرحية؟”
“نعم.”
“مع سيريت؟”
ظهر على وجه ليديا، التي سألت عمّا إذا كان مع سيريت، ابتسامة غريبة.
كونه جاء إلى هنا يعني أنّ يوان يشك في علاقة سيريت وجاك. لابد أنه غاضب جدًا من سيريت.
حدّقت ليديا فيه بابتسامة مشرقة.
“…نعم.”
كان طعم فم يوان مُرًا وهو يُجيب. لو أنه جاء فقط مع سيريت ليشاهدا المسرحية بهدوء، لكان ذلك جميلًا.
“لكن ما المناسبة التي جعلتك تأتي لمشاهدة المسرحية؟! عرفت! سيريت هي التي طلبت أن تشاهداها معًا، صحيح؟ هذه مسرحية كتب السيد كلارك نصّها. التقيتَ به آخر مرة، أليس كذلك؟ في حفلة الذكرى الثلاثين لتتويج الإمبراطور.”
كانت ليديا تثرثر مثل عصفور وهي تتفحص وجه يوان. كان فمها يبتسم، لكن عينيها كانتا مشغولتين بقراءة ملامح يوان.
“…….”
“يبدو أن سيريت أصبحت مقرّبة جدًا من السيد كلارك. رأيتُهما معًا في الحديقة آخر مرة. كنت أود أن أُلقي التحية لكن…….”
تركت ليديا آخر جملة مُعلّقة.
بالطبع كان ذلك كذبًا. كانت ليديا تقطع جملها في المواضع المناسبة حتى يزداد سوء فهم يوان.
غير أن يوان كان رجلًا يعرف جيدًا ما الذي يُخبَّأ داخل الكلمات المحذوفة.
رفعت ليديا عينيها قليلًا لتنظر إلى وجه يوان الجامد، وضحكت في سرّها.
وفي تلك اللحظة، اقترب أحدهم بخطوات صغيرة سريعة نحو الاثنين.
“سمو الدوق.”
عند سماع الصوت المألوف، أدار يوان رأسه نحو مصدره.
كانت إيف، الوصيفة المسؤولة عن تزيين سيريت، تقف وهي تحمل تذكرتين للمسرح.
بادرت إيف بتحية يوان وليديا على التوالي، ثم واصلت حديثها.
“أمرتني سمو الدوقة أن أبلغ لآنسة إليوت بأمرًا.”
قدّمت إيف التذكرتين إلى ليديا أمام يوان.
تسلّمت ليديا التذكرتين وهي تبدو في حال ارتباك، ثم سارعت بسحب إيف جانبًا.
ومع أن إيف كانت تُسحب من يد ليديا، إلا أنها واصلت الكلام.
“تقول سمو الدوقة إن الصداع اشتدّ فجأة عليها، وإنها على ما يبدو لن تتمكن من مشاهدة المسرحية، وتطلب الاعتذار.”
“سيريت؟”
سألت ليديا بصوت حاد.
كان يجب على سيريت أن تظهر في هذا المكان كي يزداد يوان شكًّا في علاقتها مع جاك، ولذلك انقبض صدر ليديا من الغيظ لأن سيريت أخلّت بالموعد على هذا النحو.
في تلك اللحظة، نادى يوان على إيف وهو يقترب منها.
“آنسة راسينغ.”
“نعم، يا سموّ الدوق.”
“هل سيريت مريضة؟”
لم يسمع يوان سوى الجزء المتعلّق بأن سيريت تعاني من صداع شديد. أمّا ما قيل بعد ذلك فلم يصل إلى سمعه، لكن ذلك لم يكن ذا أهمية عند يوان.
فقلقه على سيريت التي قيل إنها تعاني صداعًا حادًّا جعله لا يسمع أي شيء آخر.
“عذرًا؟ آه، في الحقيقة….”
بِسؤال يوان، رمقت إيف ليديا تستكشف ردّ فعلها.
في الحقيقة، لم تكن سيريت مريضة. بل إنها لم ترغب في مشاهدة المسرحية مع ليديا، فطلبت من إيف أن تذهب بدلًا عنها وتبلّغها بالاعتذار. ولهذا جاءت إيف إلى المسرح نيابة عنها.
لم ينتظر يوان جواب إيف، بل استدار مباشرة وتوجّه نحو العربة.
أترى… هل انهارت بعد أن علمت بأن جاك كلارك قد غادر؟ لا بد أن وجهها سيكون جديرًا بالمشاهدة. ينبغي أن يراها زوجها بنفسه… زوجته التي انتهى حبها العظيم. تجمّد تعبير يوان وسادته برودة قاسية.
“يوان!”
نادته ليديا من خلفه، لكن يوان صعد إلى العربة كما هو، من دون أن يلتفت. كان رأسه ممتلئًا بالكامل بأفكار عن سيريت، فلم يعد يسمع أي شيء آخر.
***
بعد أن أرسلت إيف بدلًا عنها إلى المسرح، شربت سيريت شاي الأعشاب في صالة الشاي ببال مرتاح.
لم يكن من الحكمة الذهاب إلى مكان الموعد من دون معرفة ما تخطّط له ليديا. ففكرت أنه من الأفضل أن تتجنب الأمر، ولهذا تحجّجت بالصداع ولم تذهب إلى المسرح. وبما أن إيف قالت إنها ستشاهد المسرحية مع ليديا بدلًا عنها، فقد تنفّست سيريت الصعداء.
طَرْق طَرْق.
في تلك اللحظة، سُمِع صوت يطرق الباب.
قالت سيريت وهي تقلّب المجلة.
“تفضّل.”
فُتح الباب ودخل أحد الخدم ليُخبرها بأن الدوق الأكبر بوبرويل جاء لزيارتها.
“سمو الدوق الأكبر؟”
“نعم، لقد اصطحبناه الآن إلى غرفة الاستقبال.”
“حسنًا.”
أومأت سيريت ونهضت من مقعدها.
كانت سيريت سعيدة بزيارة ريغان. تُرى ماذا أحضر اليوم؟ شعرت بالفرح وهي تتوجه إلى غرفة الاستقبال، وتوقعت أن يد ريغان كانت تحمل حلوى لذيذة كالعادة، فانطلقت نحو غرفة الضيوف بسرور.
ما إن فتحت سيريت باب غرفة الاستقبال ودخلت، حتى استقبلها ريغان بابتسامة عريضة حتى انحنت عيناه، وهو يلوّح بخفة بصندوق صغير.
“وصلت الحلوى.”
قالها وهو ينظر إليها بابتسامة مازحة.
بادَلَته سيريت التحية بوجه مفعم بالسرور، وجلست مقابله. ثم دخل الخدم، ووضعوا على طبقٍ أمامهما الحلويات التي أحضرها ريغان.
كانت سيريت تتابع الخادم وهو يسكب الشاي في كأس ريغان، ثم قالت.
“جميلة جدًا، جميلة لدرجة أنني لا أستطيع أكلها.”
كانت الحلوى التي أحضرها ريغان كب كيك مغطى بكريمة ملوّنة زاهية، تشبه قوس قزح، حتى إنه بدا مؤسفًا أن يُؤكل.
“إنها لكِ أنتِ فقط.”
عندما رأى ريغان سيريت معجبة بالكب كيك الجميل، انزلقت مشاعره الحقيقية قبل أن يتمكن من منع نفسه.
الكائن الأكثر جمالاً من الكب كيك، والأكثر جمالاً من الزهور الموضوعة في المزهرية على الطاولة، كانت هي سيريت الجالسة أمامه.
في الأيام الأخيرة، كان مرسم ريغان يمتلئ شيئًا فشيئًا بلوحات غير مكتملة لسيريت.
كان يلوم الأمر على غريزة الرسّام التي تدفعه لرسم كل ما يراه جميلًا، ويقول لنفسه إنه لا حيلة له في ذلك… لكنه مع ذلك كان يشعر بعدم ارتياح.
ذلك الانقباض الذي يشعر به جعل اللوحات غير المكتملة تتراكم.
وأخذ يردد لنفسه بأنها ليست مشاعر إعجاب رجلٍ بامرأة، بل رغبة رسّام يرى شيئًا جميلًا فيريد رسمه…
لكن ريغان كان يخاف اللحظة التي قد يتجاوز فيها الحد.
“شكرًا على المجاملة.”
ابتسمت سيريت بوجه مشرق ردًا على كلام ريغان.
ويبدو أنها تلقّت كلماته باعتبارها مجاملة فارغة من رجل نبيل، إذ لم يظهر على وجهها أي أثر للارتباك.
وذلك كان ما جعل ابتسامة ريغان تتخذ طعمًا مرًّا.
عندما كان ريغان يراقب سيريت وهي تقطع الكب كيك وتتناوله، ظل يحدِّق فيها مذهولًا وهي تأكل بشهية، فبادَرَته سيريت بابتسامة وقالت.
“إنه لذيذ فعلًا. الكريمة ناعمة جدًا وتناسبها قطعة الخبز الطرية. جربه يا سمو الدوق الأكبر.”
“نعم.”
قطع ريغان قطعة من الكب كيك ووضعها في فمه. يبدو أنه قطعها كبيرة جدًا، إذ التصقت الكريمة بكل أطراف شفتيه.
حين رأت سيريت ذلك، ضحكت بخفّة وأشارت بيدها إلى طرف شفتيها.
“لقد اتّسخ فمك، يا سموك.”
“آه…”
أدرك ريغان أنه بدا قليل التهذيب، فاحمرّت أذناه. أسرع وأخرج منديلاً ليمسح فمه. لكنه أسقط المنديل من ارتباكه، فالتقطه بسرعة.
ارتفع ضحك سيريت، فزاد احمرار أذني ريغان. كان يشعر بخجل شديد من نفسه وهو يتخبط بهذا الشكل أمامها.
تَنحنَحَ ريغان، وضبط صوته ثم عدّل جلسته حتى يبدو مُهذّبًا كالسادة، لكن سيريت لم تتوقف عن الضحك. راقبها بارتباك وهو يرمش بعينيه، فرفعت سيريت يدها وأشارت إلى أنفه.
“لقد التصق شيء بطرف أنفك.”
“نعم…”
سارع ريغان بمسح أنفه بالمنديل. لقد أكلته بفمي، فكيف وصلت الكريمة إلى أنفي؟ شعر بعرق بارد يسري في جسده. كان محرجًا، ومحرجًا جدًا، حتى إنه أراد الهرب.
“وعلى خدّك.”
هذه المرة أشارت سيريت إلى خدّها بإصبعها.
“خدّي؟”
فكّر ريغان بجدية في الفرار، ثم بدأ يفرك خدّه بالمنديل بقوة. لماذا تنتشر هذه الكريمة على وجهي بهذا الشكل؟
“وجبهتك أيضًا. لقد عَلِقَ شيء على جبهتك.”
“جبهتي؟”
مدّ ريغان يده ليمسح جبهته بسرعة، لكنه فجأة شعر أن هناك ما يثير الريبة، فتوقف وأنزل المنديل قبل أن يصل إلى جبهته. نظر إلى سيريت بنظرة شكّ، فإذا بها تنفجر ضاحكة مثل طفلة.
“سمو الدوق الأكبر، ألسْت ساذجًا أكثر من اللازم؟ كيف انخدعت بهذه السهولة؟”
“أكان هذا مجرّد مزاح؟”
قالها بنبرة مستنكرة، لكن على وجه ريغان كان يطفو أثر ابتسامة. صحيح أنه وقع في المقلب تمامًا، لكنه لم يكره دعابة سيريت. بل شعر بالسرور لأنها تبدو مرتاحة معه.
“آه؟ هناك كريمة على كتفك.”
اتسعت عينا سيريت وهي تشير إلى كتفه.
وكان طبيعيًا أن يظن ريغان أنها تمزح مجددًا، ومع هذا أسرع ينظر إلى كتفه. وبالطبع لم يكن هناك شيء عليه، ولم يسمع سوى ضحكة سيريت الرنانة.
“سيريت!”
بعد أن انخدع مرة أخرى، نطق ريغان باسمها دون قصد. لكنه سرعان ما ارتجف واعتذر لها على الفور.
“أعتذر. خرجت مني دون قصد.”
كان اسمًا يردده كل يوم داخل رأسه. لم ينطقه بصوته ولو مرة، لكن لكثرة ما فكّر به، يبدو أنه انزلق من لسانه دون وعي.
ابتسمت سيريت ابتسامة هادئة وهي تنظر إلى ريغان الذي بدا نادمًا.
“أعجبني الأمر، شعرتُ كأننا صديقان.”
“عذرًا؟”
“أعني مناداتك لاسمي.”
“صديقان! صحيح، لنكن صديقان. إن مرّ عليكِ أمر صعب، أو إن أغضبك يوان، قولي لي. سأكون صديقك.”
شعر ريغان وكأنه وجد الكلمة المناسبة التي تحدد علاقته بسيريت. صديق. نعم، يمكنه أن يكون صديقًا.
أومأت سيريت بابتسامة.
ولعله لن يعرف أبدًا، أنه في حياتها السابقة كان بالفعل صديقًا جيدًا جدًا لها. وأنها كانت ممتنّة له كثيرًا.
“إذن اتفقنا. أصبحنا صديقين يا سيريت.”
نطق ريغان اسمها مرة أخرى.
كانت سيريت على وشك الرد على كلامه، لكن فجأة انفتح الباب بعنف، ودخل يوان. وكانت عيناه الباردتان المتجمدة تحدّقان مباشرة في سيريت.
التعليقات لهذا الفصل " 78"