استيقظ جاك كلارك في الصباح وهو يشعر بارتياح كبير. كان لديه إحساس غامض بأن أمرًا مفرحًا سيحدث.
كان واثقًا من أن هذا اليوم سيكون يومًا رائعًا، فنهض من السرير.
دهن جاك كمية وافرة من زبدة الفول السوداني على قطعة خبز، وتناول إفطارًا بسيطًا.
ثم حضّر الشاي بأوراقه الغالية التي كان يدّخرها، وجلس يقرأ مجلة وهو يضحك بين الحين والآخر.
حتى تلك اللحظة، كان جاك يؤمن تمامًا بأن يومه سيكون ممتازًا.
وكأن ذلك الإيمان جاء ليُثبت نفسه، سُمعت طرقات على الباب.
نهض جاك كلارك من على المائدة. ابتلع لقمة الخبز المدهونة بزبدة الفول السوداني وذهب نحو الباب.
“من هناك؟”
سأل بصوت حائر، لأنه لم يكن يتوقع زيارة من أحد، وفتح الباب.
وما إن فُتح الباب، حتى اندفع ثلاثة رجالٍ ضخام ذوي وجوه معتمة نحو الداخل فجأة.
ثم أمسكوا بجاك في لحظة خاطفة، وجروه نحو النافذة وأجبروه على الجثو على ركبتيه.
صرخ جاك وقد تعرّض لهذا الاعتداء المفاجئ.
“ما هذا! من أنتم!”
حدّق أحد الرجال في جاك بنظرة حادّة. عند ذلك تهرّب جاك سريعًا من نظرته، وسأل بصوت منكمش خافت:
“ما… ما الأمر؟ ما الذي يحدث؟”
طرح سؤاله بصوت مرتجف، فإذا بشخص ما يقترب منه بخطواتٍ واثقة أنيقة.
رفع جاك بصره لينظر إلى الرجل الذي يقترب.
“سمو… الدوق؟”
الرجل الذي اقترب نحو جاك لم يكن سوى الدوق يوان فريكتويستر.
كان يوان ينظر داخل شقة جاك وهو يُبقي يديه في جيبيه، وبدا على وجهه تعبير المتعالي.
وكأنه يقول بنظراته؛
حتى في مكان كهذا يعيش الناس؟
مما جعل كرامة جاك تُهان في لحظة.
كان منزل جاك شقة صغيرة، قديمة، متهالكة.
كانت منازل العمّال في العاصمة، لأنها الأرخص إيجارًا.
غرفة واحدة تضم كل الأثاث، لذلك كانت ضيّقة جدًا.
مكتب وسرير ومائدة وخزانة تكفي لملء المكان حتى لا يكاد المرء يتحرك.
حتى إنها أدنى مستوى من سكن خدم دوقية فريكتويستر.
بعد أن ألقى نظرة سريعة حول الغرفة، عاد يوان بنظره إلى جاك.
“جاك كلارك.”
الرجل الذي يهمس بالحب مع زوجتي.
ارتفع طرف شفتي يوان باستخفاف.
“ما… ما الذي جاء بسموّ الدوق إلى هنا…؟”
ابتلع جاك ريقه.
في الحقيقة، كان يعرف جيدًا سبب وجود دوق فريكتويستر هنا.
تذكّر لقاؤه الأخير مع ليديا قبل مدة قصيرة.
كان جاك جالسًا في غرفة الشاي داخل القصر الإمبراطوري، وقد أخذ يبدي إعجابه المتكرر بالأثاث الفاخر والأواني الراقية.
وتساءل في نفسه كم هو جميل أن يعيش أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء محاطين بأشياء كهذه.
‘جاك، هل تستمع لما أقول؟’
أعادته ليديا إلى وعيه بصوتها، فرفع نظره إليها.
كانت ليديا، بشعرها البني الكثيف المضفور إلى جانب واحد، تشبه إلهة الجمال الخارجة لتوها من الأساطير.
وحين تلاقى نظر جاك بنظرها، أدرك شيئًا واحدًا.
أن أجمل ما في هذه الغرفة ليس زينة الكريستال فوق الموقد، ولا اللوحات المعلّقة على الجدران… بل ليديا نفسها.
‘نعم، أنا أستمع.’
أجاب جاك وهو يحدّق بها بوجهٍ مبهور.
بالنسبة لجاك، كانت ليديا شجرة لا يستطيع تسلّقها مهما حاول.
وحتى مجرّد التحدث معها بهذه الأريحية كان شرفًا كبيرًا له.
كانت مُلهمته، وجنون حبّه الأبدي.
‘قد يأتي يوان للبحث عنك يا جاك.’
‘الدوق فريكتوستر يخيفني قليلًا.’
ردّ جاك بملامح مترددة.
قالت ليديا إنها اختلقت قصة تبادل الرسائل بين جاك والدوقة، وأنهما يهمسان بالحب عبر تلك الرسائل.
وكان ذلك أمرًا قامت به من دون أخذ إذنه، لكن جاك لم ينبس ببنت شفة.
فما دام الأمر يُسعد ليديا، فعليه أن يتقبّله مهما كان.
‘اذا كان الأمر يتعلق بيوان، فسيعطيك مالًا. الكثير منه. إنه شخص يرى أن حلّ المشاكل بالمال هو أسهل الطرق.’
‘مال؟’
ابتلع جاك ريقه عند سماع كلمة ليديا.
فقد بدا له الأمر وكأنه “مال انزل على رأسه وهو جالس دون فعل شيء”.
‘قد يعطيك المال ويطلب منك مغادرة إيلون. ألم تكن ترغب في الذهاب إلى الجامعة في روا؟ ستكون فرصة جيدة يا جاك.’
ابتسمت ليديا ابتسامة مشرقة بوجه ملاك.
ذلك الوجه الجميل الذي كان جاك يعشقه حتى العمى.
لكن الشخص الذي كان يقف أمام جاك الآن لم يكن ليديا المحبوبة،
بل يوان الذي كان ينظر إليه من أعلى بوجه بارد.
ابتلع جاك ريقه مجددًا، ورفع نظره نحو يوان.
“أأنت حقًا لا تعرف لماذا جئتُ؟”
انطلقت من فم يوان نبرة باردة بقدر برودة ملامحه.
وتحت وقع الجو الذي كان يوان يصنعه، أخذ جسد جاك يرتجف بلا إرادة.
كانت ليديا قد قالت له إن يوان سيعطيه مالًا،
لكن الجو الآن كان — في نظر أي شخص — جوًا يوحي بأن الرجل أمامه قد يقتله ويدفنه من دون أن يعرف أحد.
“أنا…أنا لا أعرف.”
أجاب جاك وهو يتجنب نظرات يوان، وقد رأى أن التظاهر بالجهل هو أفضل ما يمكن فعله.
عند هذا الرد، نظر يوان إلى الرجل الواقف خلف جاك كحارس.
فاكتفى الرجل بإيماءة صغيرة ثم غرس قبضته في بطن جاك.
“اهغ…”
خرجت من جاك أنّة ممزوجة بالألم.
“سأسأل ثانية. لماذا تظن أنني جئت؟”
انتشر صوت يوان الثقيل المخيف في المكان،
فوقف شعر جسد جاك كله.
كان يعرف أن دوق فريكتيستر ليس شخصًا سهلًا،
لكنها كانت المرة الأولى التي يكتشف فيها أنه قادر على إلقاء الرعب في قلب الشخص بهذا الشكل.
“بـ… بسبب سمو الدوقة؟”
ارتجف صوت جاك وهو يتلعثم.
وبمجرد جوابه، ارتسمت على شفتي يوان ابتسامة لينة.
ابتسامة فاتنة إلى حد أن جاك، رغم كونه رجلًا، وجد نفسه يحدّق فيه مذهولًا.
انحنى يوان حتى تلاقت عيناه بعيني جاك،
ثم قبض بخشونة على فكّه وتكلم بصوت بارد.
“هل استمتعت باللهو مع زوجتي؟”
ورغم أن يوان كان يبتسم بالفعل،
إلا أن عينيه الرماديتين كانتا تحملان برودة حادة تشبه حدّ المِخرز.
تحت تلك النظرة، شعر جاك وكأن قلبه يُطعَن من كل ناحية.
واجتاحه الخوف فجأة حتى خطر له، بلا وعي، أن يبرّر ويقول إنها ليست الحقيقة.
كانت عينا الدوق الحادّتان لا تشبهان عيني رجل سيرمي بالمال وينهي الأمر فقط.
“همم؟”
امال يوان برأسه، وشدّ قبضته على فكّ جاك حين لم يجبه.
لم يستطع جاك قول شيء من شدّة الخوف.
كل ما فعله هو الارتجاف بلا توقف.
”…….”
“أجِب، يا جاك كلارك.”
أفلت يوان فَكَّ جاك بقسوة.
نظرة يوان الموجهة إليه كانت أَحدّ من الشفرة.
جاك، وقد تجمد خوفًا، حاول بكل ما يستطيع أن يُحرّك رأسه الذي لم يعد يعمل.
كان الجوّ حول الدوق ينذر بالخطر لدرجة أن جاك كاد يبوح بأن ليديا هي من دفعته لفعل ذلك.
لكن كيف لرجلٍ أن يبيع مُلهِمته؟ هذا يمسّ كرامته.
وأيضًا هل يمكن أن يصل الأمر بالدوق إلى قتلي؟ أيعقل أن يقوم بحماقة كهذه؟
المال… يجب أن أحصل على المال.
يجب أن أتغلب على هذا الخوف.
سأعيش في روا لبضع سنوات فقط، ثم أعود.
لا بدّ أن أتذوق حياةً محاطة بالأشياء الجميلة بعد كل هذا الفقر البغيض.
وحين رتّب أفكاره بهذا الشكل، انحنى جاك كلارك فورًا.
“أعتذر، يا سمو الدوق. لم تكن لديّ نيّة كهذه منذ البداية.”
”…….”
“لكن الدوقة كانت تحبني كثيرًا، فلم يكن بوسعي الرفض ومع ذلك لم تكن مشاعر عميقة. ولم أمسك يدها ولا مرة.”
رفع جاك رأسه بحذر، يختلس النظر ليتفقد ردّة فعل يوان.
وما إن تلاقت أعينهما حتى شهق مكتومًا وحبس أنفاسه. كانت نظرات يوان تحمل قدرًا من القسوة يكفي لقتل رجل بمجرد العينين، حتى إن جاك شعر بأن هذا هو معنى النظرات القاتلة حقًا.
ساور جاك كلارك شعورٌ مفاجئ بأن خياره ربما كان خطأً فادحًا. هذا ليس وجه رجل سيُبقيَني حيًا…اللعنة.
“هل أحببتَ زوجتي؟”
“أحببتُها؟ بالطبع لا! قطعًا ليس حبًا!”
قفز جاك مذعورًا وهو يجيب. فبمجرّد تخيّل أن يعترف بالحب، شعر أن الدوق قد يلفّ يديه حول عنقه ويقتله في الحال من شدّة ما يراه على وجهه من وحشية.
“ليس حبًا؟”
ضحك يوان ضحكة قصيرة ساخرة وهو ينهض من مكانه.
إذًا كانت سيريت وحدها من أحبّت هذا الوضيع؟ وهو لم يفعل شيئًا سوى محاولة الاستمتاع قليلًا بها؟
اختفى أثر الابتسامة عن وجه يوان، وتجمدت ملامحه قسوةً وصلابة.
ثم ركل كتف جاك بعنف.
وبسبب تلك الضربة، أطلق جاك صوتًا مختنقًا وهو يسقط على الأرض.
وقف يوان فوق صدر جاك الملقى على الأرض، ضاغطًا عليه بقدم حذائه.
وبينما كان يحدّق في جاك الذي كان يختنق ويصدر أنينًا، قال يوان محذرًا.
“من الأفضل لك أن ترحل، يا جاك كلارك.”
ثم رفع قدمه عنه، واستدار خارجًا من بيت جاك دون أي تردد.
وما إن غادر يوان، حتى بقي جاك يلهث بصعوبة. فقام الرجال برفعه بقسوة دون رحمة.
وعندها مدّ ديريك، مساعد الدوق، حقيبة صغيرة نحو جاك. ثم التفت إلى الرجال الواقفين على جانبيه.
“تصرّفوا بالأمر كما يجب.”
“نعم!”
وبعد سماع ردّهم، غادر ديريك أيضًا منزل جاك.
وما إن خرج الدوق ومساعده، حتى هرع جاك على عجل ليفتح الحقيبة التي أعطاها له ديريك. كان بداخلها بعض المال، لكنه كان مبلغًا مخيبًا للآمال للغاية.
“أعذروني، ولكن يبدو أن المال قليل جدًا؟”
سأل جاك بحذر، فقهقه الرجال ساخرين منه.
“خذ معك بعض الأمتعة فقط. إن أردت الوصول إلى ميناء موكا قبل الثالثة، فعليك أن تسرع.”
“ميناء موكا؟ اليوم؟ حالًا؟”
عندما أدرك أنه سيُجبر على الرحيل دون أي استعداد، اسودّت الدنيا فجأة في عيني جاك. بدأ يشعر بأن هناك خطبًا ما. فالمبلغ الذي أعطاه الدوق كان أقل بكثير مما وعدته السيدة ليديا.
“لا تسأل، وتحرك بسرعة!”
صرخ أحد الرجال.
ارتجف جاك وأومأ برأسه، ثم بدأ يجمع أمتعته على عجل.
وهو يحزم حقيبته، لم يكن يعلم ولو في أحلامه أن وجهته ستكون الجزيرة المهجورة “باتلاو”.
ولم يكن يعلم أيضًا أنه سيعيش هناك بصفته مزارعًا، وليس شاعرًا، وسط ظروف مزرية لا تليق بالبشر.
هكذا مر يوم جاك الرائع.
***
كان يوان يتفحّص الأوراق في مكتب العمل حين وضع القلم بخشونة وتنهد.
لقد تلقى تقريرًا يفيد بأن جاك قد صعد إلى السفينة المتجهة إلى باتلاو. الآن انقطعت صلة سريت بجاك تمامًا. وهو من جعل ذلك يحدث.
لم يشعر يوان بذرة وخز ضمير بعدما حطّم حب زوجته. كان يراه أمرًا بديهيًا.
فالشخص الوحيد الذي ينبغي لسيريت فريكتويستر أن تنظر إليه هو يوان فريكتويستر وحده.
نظر يوان في ساعته الجيبية ليتحقق من الوقت ونهض من مقعده. لقد حان وقت الذهاب لاصطحاب زوجتي سيريت، التي ستظل تنتظر جاك الذي لن يأتي أبدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 77"