وما إن نزل الدرج حتى لمح عامل البريد أوليفر متوجّهًا نحو المدخل.
“أنت هناك.”
أوقف يوان عامل البريد.
التفت أوليفر إلى الخلف عند سماع صوت يوان وهرول نحوه.
“هل لديك رسائل أخرى ترغب في إرسالها؟”
“من الآن فصاعدًا، كل الرسائل التي تُرسلها الدوقة اجلبها إليّ أولًا. والرسائل الواردة إليها كذلك.”
“عذرًا…؟”
رمش أوليفر بعينيه بدهشة وكأنّ التعليمات غير متوقّعة.
تركه يوان خلفه وصعد الدرج. ومن ورائه سُمع ردّ عامل البريد المتأخّر.
“حاضر، يا سمو الدوق.”
سخر يوان من نفسه وهو يصعد. زوجٌ يمدّ يده إلى رسائل زوجته… لكنه لم يشعر بأي ندم.
لم يكن لديه أدنى تردّد في إحكام قبضته على زوجته وتحريكها كيفما يشاء. أما ذاك الشعور التافه المسمّى بالذنب، فلا مكان له فيه.
رفع يوان طرف شفتيه بابتسامة مائلة وعاد إلى المكتب. بدت قبلة ذلك اليوم تحت المطر في المروج وكأنها حلم بعيد.
ومنذ ذلك اليوم بدأت تتكدّس في يد يوان رسائل سيريت المرسَلة والواصلة إليها. كان معظم مَن تُراسلهم من العائلة والأصدقاء في موشيلي.
وبعد بضعة أيام، وصلته مجددًا رسالة من سيريت موجّهة إلى جاك.
إلى جاك.
لقاؤنا القصير ما زال يُبقيني على قيد الحياة حتى اليوم.
هل وصلتَ إلى المنزل بخير في ذلك اليوم؟
كيف أمكننا أن نلتقي في ذلك المكان؟ إن قلتُ إنه القدَر، هل ستسخر منّي؟
أردد كل يوم القصيدة التي همستَ بها عند أذني.
حتى النسيم وحده يجعلني أرتجف، كأنه صوتك الذي همستَ به.
قلتَ إن العرض الأول في الثالث والعشرين من الشهر، أليس كذلك؟
يبدو أنني سأستطيع الذهاب لرؤية المسرحية الأولى التي كتبتها.
لِنلتقِ في مسرح موزشو في الثالث والعشرين.
كنتُ أريد إبقاء الأمر سرًا لأفاجئك، لكنني رغبتُ في إسعادك ولو يومًا أبكر، لذلك أرسل إليك هذه الرسالة.
بكل مودة، سيريت.
“ها!”
انعكس في عيني يوان بريق حاد وهو يقرأ الرسالة.
زوجتي العزيزة قابلت هذا الحقير بالفعل إذن.
غضبه تجاوز حدَّه حتى بات الأمر مضحكًا، فخرجت منه ضحكة ساخرة خفيفة.
يا لها من رسالة ملتهبة… تكاد تثير الدموع.
قبض يوان على الرسالة بغيظ وسحقها في يده.
“إلى متى يفترض بي احتمال هذا؟”
تمتم يوان وهو يغطي عينيه براحة يده.
في اللحظة التي قرأ فيها أول رسالة، اجتاحه غضبٌ جامح وكاد يندفع نحو سيريت فورًا.
لكنّه أدرك أنّ ذهابه بهذه الحالة لن يجلب سوى الأذى لها، فحبس نفسه.
وفكر أنه يجب أن يراقب قليلًا قبل أن يتحرك.
ربما يكون الأمر مجرد نزوة عابرة…
وفوق كل ذلك، لم يستطع تصديق أن مستوى سيريت يمكن أن ينحدر إلى هذا السخف.
“قدر؟”
تمتم يوان بسخرية مرة وهو يلقي الرسالة في سلة المهملات.
ها هي زوجته، وبكل بساطة، تتغنى بـ”القدر” لرجل آخر بينما زوجها يقف إلى جانبها.
هل يزيل جاك كلارك من وجه هذه الأرض؟
لو اختفى ذلك الرجل، هل ستنتهي هذه المهزلة التي تسميها حبًا؟
رغب يوان، في تلك اللحظة، بأن يطوّق عنق الرجل الذي تزعم أنه قدرها ويكسره.
غادر المكتب بملامح متصلبة لا تخفي ما يشتعل داخله.
في الردهة، التقى كبير الخدم الذي انحنى قليلًا وسأل باحترام.
“يا سمو الدوق، سيدتي تتناول طعامها الآن في غرفة الطعام. لِمَ لا تنضم إليها؟”
كان كبير الخدم قد لاحظ أن العلاقة بين الزوجين تغيّرت في الأيام الأخيرة.
الدوقة تهرب منه كلما سنحت لها الفرصة،
والدوق… أصبح حادًّا، كأن شيئًا ما يعصف بداخله ولا يهدأ.
كان كبير الخدم يظن أن شيئًا قد وقع في ذلك اليوم الذي تعطلت فيه العربة. ولذلك حاول تلطيف الأجواء بين الزوجين بدعوتهما لتناول العشاء معًا.
“حسنًا، سأفعل.”
كتم يوان الغضب الذي كان يغلي في صدره، واتجه نحو غرفة الطعام.
لقد اشتاق كثيرًا لرؤية وجه زوجته العزيزة…
زوجته التي يبدو أنها تحب رجلًا آخر.
***
كانت سيريت تتناول الحساء عندما سمعت صوت الباب يُفتح، فالتفتت إلى الخلف. وما إن رأت يوان يدخل حتى كادت تُسقط الملعقة من يدها.
فمنذ تلك القبلة المتهوّرة، بات النظر إلى يوان أمرًا يثقل صدرها. كانت تشعر بالحرج، وبشيء أشدّ مرارة…
شعور بأنها عادت لتقع في حبّ الرجل نفسه الذي قتلها في حياتها السابقة.
كان ذلك لا يُحتمل.
كانت تشعر وكأنها امرأة فقدت صوابها بسبب الحب، حتى إنها أرادت محو ذكريات ذلك اليوم من ذهنها.
لكن رؤية يوان كانت كفيلة بإحياء كل شيء بوضوح مؤلم.
ذلك المطر الذي خفّف حرَّ الصيف، والرائحة التي يمتزج فيها الهواء الدافئ ببرودة الماء، وملمس يده، ورقّة شفتيه، وأنفاسهما المتقاربة، والعالم الأخضر الذي أحاطهما…
كل تلك الأحاسيس كانت تعود إليها كاملة، حتى بدا لها أنها في كل مرة تنظر إليه تعود مجددًا إلى ذلك اليوم…
إلى اللحظة التي كان فيها يوان فريكتوستر رجلاً تحبه بلا حدود.
“لقد جننتُ حقًا”
ما إن رأَت سيريت يوان يدخل إلى غرفة الطعام حتى قفزت إلى ذهنها لحظة القبلة تحت المطر، فتمتمت بذلك دون أن تشعر.
“مَن الذي جُنّ؟”
سأل يوان وهو يجلس في المقعد المقابل لها بوجه خالٍ من التعابير، رغم أن جوفه كان يغلي غضبًا.
“لا شيء.”
تهرّبت سيريت سريعًا من النظر إليه.
كيف يستطيع أن يبدو طبيعيًا هكذا؟
ازدادت ضيقًا من بروده الذي بدا وكأنه لا يأبه بشيء.
“مرّ وقت طويل، يا دوقة فريكتوستر.”
“…ماذا؟”
تقلّصت ملامح سيريت أمام طريقته الساخرة في مخاطبتها.
هل هو منزعج لأنني كنت أتجنّبه؟
حدّقت فيه بعينين ضيّقتين.
“هل كنتِ بخير طوال تلك المدة؟”
“ما الذي تفعله بالضبط؟”
“أسأل عن أحوالك. فمع أننا نعيش في البيت نفسه، يبدو وكأننا لم نلتقِ منذ زمن طويل.”
قالها ببرود ووضع المنديل فوق ركبته، كأن الأمر مجرد إجراء عادي على مائدة العشاء.
ضحكت سيريت بخفة دون أن تنتبه. صحيح، لقد كنتُ أتهرّب منه بكل ما أستطيع.
ورؤية يوان يُظهر ملامح منزعجة، وكأنه مستاء من تجاهلها، جعله يبدو… لطيفًا قليلًا في نظرها.
يا إلهي… لقد جننت فعلاً.
سارعت بمحو ابتسامتها وهزّت رأسها. لا بد أن هناك خطبًا في عقلها. أي امرأة في العالم ستجد الرجل الذي قتلها في حياتها السابقة “لطيفًا” غيرها؟
تنهدت بخفوت. يبدو أن كلامه عن عدم معرفته بالحب أثّر فيها أكثر مما ينبغي.
كلامه يعني أنه لا يحب ليديا حتى الآن، لكنه قد يحب شخصًا آخر.
عقلها وقلبها يتصرّفان وكأنهما تلقّيا إذنًا ليفهما الأمور كما يشاءان.
وبينما كانت تغرق في أفكارها، سأل يوان بنبرة باردة وهو يتناول الحساء.
“ماذا تفعلين في يوم الثالث والعشرين؟”
“في الثالث والعشرين؟ لا شيء، ليس لدي أي خطط.”
“إذًا لنتناول العشاء في الخارج معًا.”
رفع يوان نظره نحو سيريت ونظر إليها مباشرة. ملامحه كانت بلا أي تعبير، لكن رماد عينيه كان حادًا كالسكين.
العشاء في الخارج؟ موعد؟
خفق قلب سيريت أسرع قليلًا. شعرت بلمسة خفيفة من الارتباك، فهزّت رأسها بسرعة لتخنق ذلك الشعور.
“لا. لا أريد تناول العشاء خارجًا.”
“حقًا؟”
سألها بنبرة باردة وكأنه لم يكن يتوقع موافقة أساسًا.
لكن داخله كان يغلي.
بالطبع سترفض.
فهي تريد الذهاب لمشاهدة مسرحية جاك كلارك، لذا لن يسرّها أي عرض يأتي من زوج لا تحبه.
ارتفع طرف شفتي يوان بازدراء صغير.
“نعم، لا أريد.”
“فهمت.”
انسحاب يوان الخفيف جعل سيريت تشعر بقليل من الخذلان. ربما كان عليّ أن أوافق…
يا للجنون. بدت كأنها امرأة مستعدة لأن ترتمي في الحب من جديد، فرفعت كوب الماء وشربت محاولة أن تستعيد وعيها.
بعد ذلك انصرف يوان تمامًا إلى الطعام دون أن ينطق بكلمة. وسيريت، بين لحظة وأخرى، كانت تلقي عليه نظرة خاطفة من غير قصد، لكنه طوال الوجبة لم يمنحها حتى نظرة واحدة.
ولما انتهى العشاء، وقف يوان من مقعده. نظر إلى سيريت من الأعلى، وكان وجهه خاليًا من أي دفء.
وقال وهو يحدّق في زرقة عينيها ببطء.
“استمتعي لكن باعتدال. لا تنغمسي بقلبك كله.”
فأنتِ على أي حال ستقضين عمرك بجانبي.
وذاك الحب التافه لا يعني شيئًا. لذا استمتعي لكن دون أن تجرحي قلبك يا سيريت. فأنا لا أريد أن أراك تبكين من أجل رجل آخر.
“ماذا؟”
حدّقت سيريت في يوان بوجهٍ مذهول. لم تفهم ما يعنيه كلامه.
غادر يوان غرفة الطعام تاركاً سيريت خلفه وهي ترمش بعينين بريئتين.
وعندما عاد إلى المكتب، كان ديريك هناك.
قدّم ديريك الأوراق التي يجب توقيعها اليوم إلى يوان.
وبينما كان يوان يوقّع بلا اهتمام، فتح فمه قائلًا.
“أخرج الرجل المدعى بجاك كلارك من ايلون.”
بعد أن أنهى التوقيع، أخرج يوان ظرفاً من الدرج وناوله لديريك. كان عنوان منزل جاك مكتوباً على الظرف.
“حاضر.”
لا يعرف ديريك جيداً من هو جاك كلارك، لكنه لم يسأل. لأن ما يأمر به يوان يجب فعله وحسب.
“وأيضاً، اذهب واجمع معلومات تفصيلية عن شخص من قبيلة الهيلد تُدعى نونوكي. إنها تدير صيدلية في أطراف العاصمة.”
“نعم يا سموّ الدوق.”
لم يسأل ديريك أيضاً هذه المرة عمّن تكون نونوكي.
بعد أن جمع الأوراق وغادر المكتب، أسند يوان جسده إلى الكرسي بعمق.
تنهد يوان وارتسمت على وجهه بعدها علامات تعبٍ ثقيل.
***
“ الدفيئة التابعة لدوقية فريكتويستر تحتوي على الكثير من الأزهار الجميلة.”
عند كلام ليديا، لم تقل سيريت شيئاً واكتفت بابتسامة هادئة. كانت الآن تحتسي الشاي مع ليديا التي جاءت لزيارتها فجأة في الدفيئة.
“أتذكّر أن يوان كان يقطف لي الورود منها بين الحين والآخر.”
تابعت ليديا كلامها بوجه راضٍ وهي تحدق في وردة صفراء.
إذًا سمو الدوق كان يأخذ ورد قصره ويقدمه لليديا.
اضطرت سيريت لأن تبذل جهداً حتى لا تسقط ابتسامتها.
“أنا أحبّ الورود أكثر من أي شيء. فالهدية التي قدّمها لي يوان في عيد ميلادي السابع كانت وردة.”
“يبدو أن يوان كان رومانسياً حقاً.”
في عيد ميلادي السابع، حصلتُ من جيريمي على سحلية…
وهنا يحصلون على ورد.
أطفال نبلاء العاصمة يعيشون حياة فاخرة حتى من حيث الهدايا.
رفعت سيريت زاوية شفتيها من جديد حتى لا تهبط.
“آه صحيح، هذا ليس الوقت للحديث عن الزهور.”
ضحكت ليديا بخفة، ثم كأنها تذكرت فجأة، سارعت بإخراج ظرف أبيض من حقيبتها وقدّمته لسيريت.
“ما هذا؟”
سيريت، بوجه حائر، فتحت الظرف. في الداخل كان هناك تذكرتان.
“إنها تذاكر مسرح. المسرحية التي ستُعرض في مسرح موزشو في الثالث والعشرين من الشهر. هيا لنشاهدها معًا.”
“مسرحية؟”
رمشت سيريت بدهشة لسماع كلام ليديا. مسرحية في الثالث والعشرين؟ ما شأن هذا اليوم؟ الجميع يريد أن يأخذني لمكان في ذلك اليوم.
“إنها مسرحية أريد حقًا أن أشاهدها، لكن لا يوجد من أذهب معه. أتمنى حقًا أن تذهبي معي يا سيريت.”
التعليقات لهذا الفصل " 76"