نظرت أنيتا إلى ليديا بوجه شاحب. كان جسد أنيتا يرتجف.
رأت ليديا أنيتا وهي على وشك البكاء، فأطلقت تنهيدة طويلة.
“لقد أنقذتكِ بصعوبة.”
“أرجوكِ ساعديني، يا سمو الأميرة. أرجوكِ، أنقذيني.”
كانت دموع أنيتا تتساقط قطرة بعد أخرى. كانت خائفة حتى الجنون. إذا انكشف ما فعلته فلن تفلت من الإعدام.
“يا للإنهاك.”
قطبت ليديا حاجبيها. كانت منزعجة من سيريت التي لا تكفّ عن الحفر والنبش. بالكاد جعلت موت صوفيا يبدو كأنه انتحار، وجعلت حادثة الاعتداء على سيريت تبدو كفعل مشرّد.
يوان أيضًا انجرّ خلف سيريت لأنها تتنقل وتحقق بهذه الطريقة. ماذا لو همست سيريت في أذنه بأنني أنا من فعلتُ ذلك؟
لا بد من التفريق بينهما. حتى لا يستمع يوان لكلام سيريت أبدًا.
“يا سمو الأميرة، ألا توجد طريقة؟ أنقذيني مرة واحدة فقط بعد.”
تعلّقت أنيتا بليديا بتوسل. بالنسبة لأنيتا، كانت ليديا الآن المنقذ الوحيد. كانت مستعدة لفعل أي شيء تطلبه.
“أنيتا، يبدو أنكِ ستضطرين لبذل بعض الجهد.”
“اتركي الأمر لي. أستطيع فعل أي شيء.”
أنيتا كانت تهزّ رأسها بشدة.
“لن يكون أمرًا خطيرًا، فلا تقلقي.”
قالت ليديا وهي تبتسم بوجه يشبه الملاك، ثم نهضت من مكانها.
نهضت أنيتا خلف ليديا وردّت بنظرة متوسلة.
“لا بأس حتى لو كان أمرًا خطيرًا.”
“قلت لكِ إنه ليس أمرًا خطيرًا. سأكتب رسالة، فأحضري ورق الرسائل وتعالي إلى غرفتي.”
أعطت ليديا أوامرها لأنيتا وغادرت غرفة الطعام.
عادت ليديا إلى غرفتها وجلست على الأريكة تنتظر أنيتا. وبعد قليل، دخلت أنيتا وهي تحمل ورق الرسائل وقلمًا.
أشارت ليديا لها بالجلوس في المقعد المقابل، فجلست أنيتا بسرعة. وبمجرد أن جلست، بدأت ليديا بالكلام.
“تتذكرين عندما طلبتُ منكِ أن تتدرّبي على تقليد خط الدوقة ، صحيح؟”
أومأت أنيتا برأسها.
“بالطبع. كنت أتدرب كل يوم بجد. الآن أستطيع تقليده بشكل مثالي.”
بعد أن خدعت الشرطة برسالة الانتحار التي كتبتها مقلِّدةً خط صوفيا، كانت أنيتا في حالة تشعر بالثقة بمهاراتها.
ابتسمت ليديا ابتسامة راضية على جواب أنيتا.
“حسنًا، أحسنتِ. اكتبي بخط الدوقة ما سأمليه عليكِ الأن.”
“نعم، يا سمو الأميرة.”
أمسكت أنيتا القلم ونظرت إلى ليديا وكأنها تقول إنها مستعدة. عندها فتحت ليديا فمها ببطء.
“إلى جاك.”
ما إن ذُكر اسم جاك حتى نظرت أنيتا إليها بسرعة، كأنها بدأت تفهم ما الذي تنوي ليديا فعله.
وفي لحظات، راحت رسالة مليئة بكلمات حب تتظاهر بأنها من سيريـت إلى جاك تتشكل بين يدي أنيتا. الكلمات التي أمْلتها ليديا كانت من النوع الذي يتبادله العشاق الذين بدأوا علاقة للتو.
وأثناء كتابتها لما تُملِي، شعرت أنيتا بوخز من تأنيب الضمير. وجه دوقة القصر اللطيف التي عاملتها دائمًا برقة طاف أمام عينيها.
“بكل مودة، سيريـت.”
كانت هذه الجملة الأخيرة التي أمْلتها ليديا.
بعد أن أنهت الجملة الأخيرة، رفعت أنيتا رأسها. وما إن تلاقت نظراتهما، حتى أمرت ليديا بإحضار الرسالة التي كانت سيريـت قد أرسلتها في المرة السابقة.
فعلت أنيتا ما أُمِرَت به وجلبت الرسالة القديمة. أخذت ليديا الرسالة، وقارنت بينها وبين الرسالة التي كتبتها أنيتا للتو.
ارتسمت على شفتي ليديا ابتسامة راضية. لقد كان التشابه بينهما مذهلًا.
“أحسنتِ يا أنيتا.”
“يكفيني أن أكون عونًا لسموك.”
عند هذا الكلام، ابتسمت ليديا ابتسامة خفيفة وسلمت أنيتا الرسالة.
لم تشرح ليديا بالتفصيل ما الذي يجب أن تفعله أنيتا بالرسالة. فقد اعتقدت أن أنيتا باتت تفهم هذه الأمور بنفسها.
“نعم، لا تقلقي.”
هزّت أنيتا رأسها.
وكما توقعت ليديا، فقد فهمت أنيتا قصدها. كان معنى الأمر أن تُسلَّم هذه الرسالة إلى يد دوق فريكتويستر.
وعلى الرغم من تغيّر معظم خدم القصر في الآونة الأخيرة، إلا أن ساعي البريد ظلّ في قصر الدوق وكان هو أوليفر، ابن خال أنيتا.
“أنا متعبة. سأستحم وأخلد للنوم مبكرًا. حضّري ماء الإستحمام.”
وقفت ليديا من مكانها. وما إن تخيّلت ما سيحدث بين يوان وسيريـت حين تصل الرسالة إلى يد يوان، حتى ضحكت بخفة.
“أتساءل كيف سيكون رد فعل يوان.”
وكانت الابتسامة على وجهها جميلة كابتسامة ملاك.
***
“بيت الدوق هو الجحيم يا جاك. أحلم بالهرب من هذا الجحيم لأعيش معك، أنت الذي أحبه.”
في حياتها السابقة، حين كان يوان يقرأ الرسالة سطرًا بعد سطر، كان يسحقها بلا أي تعبير على وجهه.
الرسالة التي قالت الوصيفة إنها وجدتها في غرفة الدوقة زادت مزاجه سوءًا في لحظة.
كانت رسالة تهمس فيها زوجته لرجل آخر بكلمات حب، فشعر يوان بالاشمئزاز والغضب.
وبينما كان يمزق الرسالة، خرج من مكتبه واتجه نحو غرفة سيريـت.
فتح الباب بعنف دون أن يقرع. سيريـت التي كانت تمسك قلماً رفعت رأسها نحوه بعيون مذعورة.
انتقلت نظرات يوان إلى أوراق الرسائل الموضوعة على الطاولة. لم يُكتب عليها حرف واحد بعد، لكنه كان يعرف جيدًا إلى من تنوي أن ترسلها.
“سمو الدوق، ما الأمر؟”
بملامح خجولة سألت سيريـت، فارتفع طرف فم يوان بسخرية مائلة.
بهذا الوجه البريء كانت تلهو مع جاك كلارك من خلفه؟
أمسك يوان ذراع سيريـت بعد أن نهض من كرسيه، وجذبها إلى السرير.
وحين دفعها على السرير، احمرّ وجه سيريـت.
“الشمس لم تغرب بعد يا سمو الدوق.”
تجهم وجه يوان حين رأى ملامحها الخجلة.
هل كانت تُظهر هذا الوجه أمام ذلك الرجل أيضًا؟
لا بد أن ذاك الحقير كان يشتعل شوقًا أيضًا.
انقضّ يوان عليها وأطبق شفتيه فوق شفتيها.
عيناه الرماديتان اشتعلتا بالغضب وهو يقبّلها بخشونة.
إن كنتِ ترينني جحيمًا، فسأكون جحيمكِ بالكامل، يا سيريـت فريكتويستر.
ضمّها بقسوة ورفعها معه، ثم نظر إلى سيريـت التي كان نفسها يرتجف.
حدّق قليلًا في وجهها الشاحب، ثم استدار بلا تردد.
في اليوم التالي مباشرة، رأى يوان سيريـت وجاك متعانقين في غرفة الجلوس.
تلك الليلة، استدعى يوان مساعده ديريك إلى المكتب.
“امسح جاك كلارك من الوجود.”
وكانت نظرة يوان وهو يعطي الأمر باردة حدّ القسوة.
***
‘هذا كان خطأً! لقد انجرفتُ مع الأجواء… فالعالم بدا جميلًا جدًا.’
صوتُ سيريت ظلّ يطوف في رأس يوان بلا توقف. يوان اتكأ بعمق على الكرسي وأطلق تنهيدة.
تحت الشجرة المبتلّة بالمطر تبادلا قبلة حلوة لدرجة لا تُحتمل، لكن بعد ذلك دخلا في حالة برود غريبة.
ما إن ابتعدت شفتاهما حتى صرخت سيريت بدون أن تخفي ارتباكها. قالت إنه كان خطأ. قالت إنه خطأ سبّبه جمال العالم المفرط.
ومنذ عودتهما للمنزل كانت سيريت تتجنّبه بكل ما أوتيت من قوة. وإن صادف والتقت أعينهما كانت تعقد وجهها تمامًا وتُظهر له كرهها بشكل واضح. وهذا بحد ذاته كان مؤلمًا لدرجة جعلت يوان يخاف من النظر في عينيها.
‘لقد أحببتُ شخصًا واحدًا حتى تآكل قلبي، لذا لن أستطيع أن أحبّ أحدًا بعد الآن.’
هل بسبب ذلك الرجل الذي ألهب قلبها؟ هل تشعر بالذنب تجاهه لدرجة أنها تهرب من زوجها؟
لما فكّر بالأمر هكذا بدا الموقف كله مضحكًا، فابتسم يوان بسخرية.
من يكون؟ ذاك الرجل الذي أحبّته سيريت حتى تآكل قلبها.
كان يوان مهووسًا بمعرفة ذلك ومضطربًا أكثر من اللازم، لدرجة أن حالته النفسية خلال الأيام الماضية كانت فوضى تامة. لم يكن قادرًا حتى على التركيز في الأعمال التي يجب عليه إنهاؤها.
لا بد أنها كانت تبتسم لذلك الرجل ابتسامة جميلة.
تهمس له بكلمات دافئة، وتنظر إليه بعينين مليئتين بالمودّة.
ترى… هل تبادلا القبل أيضًا؟
“اللعنة.”
لمّا تخيّل يوان سيريت مع رجل آخر بشكل لطيف، انفجر غضبًا ولم يستطع التحمل فشتم بصوت منخفض.
هزّ رأسه محاولًا استعادة توازنه، ثم أعاد النظر إلى الأوراق أمامه.
في تلك اللحظة، سُمع طَرقٌ على الباب ودخل ساعي البريد.
“سمو الدوق، هل لديك رسائل ترغب في إرسالها؟”
سأل أوليفر، ساعي البريد، بوجه مهذب.
عندها فتح يوان الدرج، وأخرج الرسائل التي يجب إرسالها وناولها لساعي البريد.
تلقّى أوليفر الرسائل بحذر، وضعها في حقيبته، ثم انحنى بخفة قبل أن يغادر غرفة المكتب.
وبينما كان يحاول العودة للتركيز على الأوراق، لمح يوان رسالة سقطت على الأرض.
يبدو أنّ ساعي البريد أسقطها دون أن ينتبه.
نهض يوان من مقعده وتوجه نحو المكان الذي سقطت فيه الرسالة.
وعندما التقطها، انقبض وجهه قليلًا.
“جاك؟”
كانت رسالة مرسلة من سيريت، والمُستقبِل هو جاك.
جاك… هل هو ذاك الرجل؟
ذلك الرجل المزعج الذي حاول التقرب من سيريت في احتفال الذكرى الثلاثين لتتويج الإمبراطور.
كان يوان يعرف أنه لا ينبغي أن يفعل ذلك، لكنه فتح الرسالة مع ذلك.
لم يستطع قمع فضوله المشتعل، فليس هناك أي سبب يجعل سيريت تراسل هذا الرجل.
إلى جاك.
لقد استلمتُ الرسالة التي أرسلتها لي آخر مرة.
كانت قصيدة حب جميلة فعلًا. إلى درجة جعلتني أسهر الليل.
لا بد أن تلك المرأة في القصيدة سعيدة حقًا، أليس كذلك؟
أن تنال مثل هذا الحب العميق!
المرأة ذات الشعر الذهبي تقول لك إنها قضت ليلة سعيدة.
هل يمكنني أن أتلقى قصيدة رائعة أخرى منك في المرة القادمة؟
سنتمكن من اللقاء قريبًا.
بكل مودة، سيريت.
تجهّم وجهُ يوان وهو يقرأ الرسالة. وفي لحظة، كَوَّرَ الرسالة ورمى بها على الأرض.
وانفلتت من فمه شتيمةٌ. لم يكن هناك وصفٌ أدقّ لما اجتاح صدره سوى الغضب العارم الذي كان يعصف به.
قالت إنها تلقّت قصيدةَ حب… فارتفع جانب فم يوان بسخريةٍ ملتوية.
“أيعقل أن يكون الرجل الذي أحبّته حتى تآكل قلبُها هو جاك كلارك؟”
تمتم يوان بصوتٍ موحش وهو يضغط بقدمه على الرسالة المطروحة أرضًا.
هذا الإنسان التافه؟
ضحك يوان ضحكة فارغة. ظنّ أنها كانت تتحدث عن حب عظيم… ليتضح أن الأمر لا يتعدى هذا الوغد.
التعليقات لهذا الفصل " 75"