عند سماع كلمة “سم”، ارتجفت نونوكي قليلًا ونظرت إلى سيريت.
لم تكن تعرف من تكون صوفيا، لكن السم الذي صنعته لليديا خطر ببالها.
“مهارتكِ في صنع السم كانت ممتازة جدًا. أنا أيضًا أحتاج إلى ذلك السم. هل يمكنكِ صنعه لي؟”
خفضت سيريت من معنويات نونوكي بابتسامة راقية ونبرة متعالية.
تغير وجه يوان، الذي كان ينظر إلى سيريت بدهشة، سريعًا إلى ملامح توحي بأنه وجد الأمر ممتعًا. كان من الطريف أنه يعرف الآن أنها تجيد التعامل مع الناس بهذه الطريقة.
شعرت نونوكي بأن هذه الدوقة ليست امرأة عادية، فقبضت على طرف تنورتها بإحكام. ثم رسمت ابتسامة لطيفة كأنها تحاول استعادة رباطة جأشها.
“يبدو أنكم جئتم وأنتم تفهمون الأمر بشكل خاطئ. أنا لا أصنع السم. يا إلهي… لا أستطيع صنع شيء مرعب كهذا.”
لوّحت نونوكي بيدها رافضة، بينما كان العرق البارد يتسلل إلى ظهرها، وتنفسها يخرج متقطعًا قليلًا.
“كانت هناك خادمة تعمل في قصر الدوق وشربت السم وأنهت حياتها بنفسها. سمعتُ أن ذلك السم أنتِ من صنعته….”
راقبت سيريت وجه نونوكي بينما تركت جملتها تتلاشى.
“لا، مستحيل. أبدًا لا. لقد فهمتم الأمر خطأ.”
“حقًا؟ يبدو أنني أخطأت إذًا.”
عند رؤية إصرار نونوكي الواضح، أخرجت سيريت المال من حقيبتها ودفعته ثمنًا للدواء. وما إن وقفت سيريت حتى أسرع يوان بالوقوف معها.
نظر إليها يوان بوجه يقول “هل انتهينا الآن؟”، أومأت سيريت برأسها بخفة.
فإذا كانت ليديا ونونوكي تتبادلان الأدوية فعلًا، فلا بد أن ما حدث اليوم سيصل إلى مسامع ليديا. وذلك وحده كان كافيًا.
غادرت سيريت ويوان صيدلية نونوكي وصعدا إلى العربة. كانت سيريت تحدق عبر النافذة إلى المروج الواسعة غارقة في التفكير، بينما كان يوان ينظر إليها.
بعد أن ظل يوان يراقبها وقتًا طويلًا، سألها.
“هل حصلتِ على شيء من هذه الزيارة؟”
عند سؤال يوان، تحوّل نظر سيريت من النافذة إليه. شيء حصلت عليه… انزلقت نظراتها نحو قنينة جرعة الحب التي كانت في يد يوان.
انتزعت سيريت القنينة من يد يوان وهي تجيب.
“حصلتُ على هذا.”
شيء عديم الفائدة. طلبته فقط كي تغيظ ليديا، أما بالنسبة لسيريت فلا حاجة لها به أبدًا.
فتحت سيريت نافذة العربة وهمّت برمي القنينة، وفي تلك اللحظة أمسك يوان بمعصمها.
“ستتخلصين منه؟”
“لا فائدة منه.”
“إنه جرعة حب.”
“وماذا في ذلك؟”
ضيّقت سيريت عينيها وهي تنظر إلى تعبير يوان الماكر.
أخذ يوان القنينة من يد سيريت وأكمل الحديث.
“يبدو من المؤسف رميها.”
“إذًا خذها أنت يا سمو الدوق. أنا لا أملك أي استخدام لها على أي حال.”
ابتسمت سيريت بخفة وهي تنظر إلى يوان.
“ولمَ لا تفعلين؟ يمكننا استعمالها معًا.”
اتكأ يوان على مسند المقعد وأرسل ابتسامة مغرية. كان يهز القنينة في يده بارتياح، فتوترت سيريت.
سعلت سيريت بخفة وعدّلت جلستها. لقد كادت تومئ برأسها موافقة.
“لا، شكرًا. أعطني إياها لأتخلص منها.”
مدّت سيريت يدها نحو القنينة. أما يوان فحاول نقلها إلى اليد الأخرى كي لا تُنتزع منه.
في تلك اللحظة، صدر صهيل “هيييينغ” واهتزّت العربة بعنف.
أسقط يوان القنينة التي كان يمسك بها، واهتزّ جسد سيريت.
“آااه!”
صرخت سيريت وهي تمسك بذراع يوان.
ضمّ يوان سيريت بسرعة إلى صدره ليحميها. وبينما يشدّ قوته في ذراعيه وساقيه ليتحمل الاهتزاز، أحاطها بجسده كله حتى لا تُصاب بأي أذى.
وبعد لحظات، توقّف اهتزاز العربة. مدّ يوان يده يربّت برفق على رأس سيريت، التي كانت تلهث بأنفاس مضطربة، وسألها.
“هل أنتِ بخير؟”
لم تستطع سيريت حتى أن تجيب، واكتفت بهزّ رأسها فقط. قلبها الذي كان ينبض بجنون لم يهدأ بعد.
توقّف اهتزاز العربة، لكن أحد الجانبين كان قد انهار تمامًا. حاول يوان أن يبعد سيريت من بين ذراعيه ليفتح الباب، لكن السائق سبقه وفتحه. كان السائق يحدّق في الدوق وزوجته بوجه مرتبك.
“هل سموكما بخير؟”
“ما الذي حصل؟”
“العجلة خرجت فجأة من العربة وتحطمت. إنّه تقصيرٌ مني في العناية بالعربة.”
خفض السائق صوته وكأنه ارتكب خطيئة تستحق الموت.
أومأ يوان وكأنه فهم، ثم أخذ سيريت بين ذراعيه لينزل بها أولاً من العربة الخطرة.
وبعد أن خرجا، تفحّص يوان سيريت.
“هل أصبتِ في أي مكان؟”
كان يوان يتفقد سيريت هنا وهناك بإفراط مبالغ فيه. فقامت سيريت، وهي تلمح السائق بطرف عينها، بدفع يوان قليلًا بعيدًا عنها.
“أنا بخير.”
“أعتذر… كان يجب أن أفحص حالة العجلات…”
قال السائق ووجهه شاحب كأنه يحتضر، يكرر اعتذاره مرة بعد مرة.
شعرت سيريليت بالشفقة على السائق شاحب الوجه، فالتفتت إلى يوان وقالت.
“لم يُصب أحد، وأنا حقًا بخير.”
تطلعت إلى وجه يوان بنظرة تخبره ألا يغضب من السائق.
قرأ يوان تلك النظرة، وأومأ وكأنه فهم.
حقًا، طيبة أكثر من اللازم. تمتم في داخله وهو ينقر لسانه بخفة، ثم سأل السائق عن حالة الحصان.
بما أن العربة تعطّلت، فربما سيكون عليهم إكمال الطريق على ظهر الحصان.
ذهب السائق ليفحص الحصان، ولحق به يوان.
كان الحصان جاثيًا على الأرض، وحالته لا تبدو جيدة على الإطلاق.
لا يمكن ركوبه على ما يبدو… وبذلك لم يبقى سوى خيارٍ واحد
وهو إكمال الطريق سيرًا على الأقدام.
“إذا تجاوزتما ذلك التل فقط، فهناك موقف عربات للأجرة. هل تودان الذهاب أولًا؟ أما أنا فسأنزل إلى القرية وأحاول طلب المساعدة.”
أشار السائق بحذر إلى التل البعيد قليلًا وهو ينظر إلى يوان.
وقبل أن يجيب يوان بشيء، ردّت سيريت من خلف ظهره.
“لنفعل ذلك يا سمو الدوق. لِنَمشِ قليلًا.”
عند سماع الصوت القادم من خلفه، التفت يوان. كانت سيريت قد لحقت به من دون أن ينتبه، وكانت تبتسم وهي تشير إلى التل.
أدرك يوان أنّ ذلك كان نوعًا من اللطف من سيريت لجعل السائق يشعر براحة أكبر، فارتفع جانبٌ من شفتيه.
ربما عليّ أن أخطفها وأهرب بها دون أن يدري أحد.
“حسنًا.”
عندما فكّر في الأمر، بدا ذلك شيئًا لا بأس به. أن يعبر التلّ مع سيريت، وحدهما فقط، في مكان ناءٍ قلّ فيه الناس.
اقترب يوان من سيريت وأمسك يدها. رفعت سيريت رأسها لتنظر إليه، وابتسمت بخفة. جفّ فم يوان من تلك الابتسامة.
لم تكن هناك حاجة أصلًا لجرعة الحب. فهي كانت امرأةً تجعل المرء يفقد صوابه بمجرد ابتسامة واحدة. دسّ يوان أصابعه بين أصابعها، وشبك يدها بيده.
عبست سيريت قليلًا، لكنها لم تسحب يدها.
أخذها يوان وسار بها نحو التل.
“أليس المشي متعبًا لك؟”
“حذائي مريح، لذا أنا بخير.”
سارت سيريت بخطى واثقة. وبينما كانت تخطو وسط المروج الخضراء، خطَر ببالها موشيلي. فموشيلي كانت مليئة بالمروج، وفي الصيف بدا وكأن العالم كلّه يُغطّى باللون الأخضر.
سيريت شعرت وكأنها عادت إلى موسيلي. مزاجها ارتاح في لحظة. الجو كان حارًا قليلًا، لكن السماء صافية تمامًا، ورائحة العشب جميلة. من غير أن تنتبه بدأت تدندن لنفسها. كان يوان يستمع لدندناتها ويبتسم.
“يوان، يبدو وكأننا في نزهة، صحيح؟”
قالتها وهي تهز يده الممسكة بيدها بينما ترفع نظرها إليه.
وكان في عيني يوان أيضًا بريق من السرور، لذا شعرت سيريت وكأنهما في نزهة حقًا.
لكن فجأة، ومن سماء صافية، انهمر المطر. ارتسمت على وجه سيريت ملامح الضيق وهي ترفع رأسها. السماء لا تزال زرقاء وجميلة، لكن المطر يهطل بغزارة.
“سيريت.”
أشار يوان إلى شجرة الدلب الكبيرة أعلى التل. لم يكن هناك مكان آخر يستطيعان الاحتماء به.
أمسكَ يوان وسيريت بيد بعضهما وراحا يركضان نحو شجرة الدُّلب. كانت أوراق العشب تهتز تحت المطر والريح، كما راحت حاشية فستان سيريت البيضاء تتموّج مع الريح.
وأثناء ركضها وهي تمسك بيد يوان، انفجرت سيريت ضاحكة بصوتٍ عالٍ. كان الجو حارًا، فجاء المطر في وقته ليطفئ حرارة جسدها. منذ طفولتها لم تركض تحت المطر هكذا.
ضحكة سيريت جعلت الابتسامة تظهر تلقائيًا على وجه يوان. كان صوت ضحكها يجعل يوان يشعر بالسعادة.
هربت سيريت تحت الشجرة، تلهث وهي تبتسم بوجه مشرَق. كان شعرها وملابسها مبللة تمامًا، لكنها لم تستطع التوقف عن الضحك.
كم مضى من الوقت منذ أن ضحكت بهذا الشكل. المطر البارد جعل كل تعاسة حياتها السابقة تبدو كأنها حلم سيئ سيزول عند الاستيقاظ.
“لقد ابتللت بالكامل.”
قالت سيريت ذلك وهي ما زالت تبتسم وتنظر إلى يوان.
انزلقت نظرة يوان ببطء على ملابس سيريت المبتلّة، التي أصبحت شفافة قليلًا تحت المطر حتى بدا ملمس بشرتها من خلالها. احمرّت أذناه، ثم خلع سترته ووضعها برفق على كتفيها.
تلاقت عيون الاثنين. لثوانٍ طويلة لم يستطع أيٌّ منهما أن يشيح بنظره عن الآخر. بدا صوت المطر العالي وكأنه يبتعد شيئًا فشيئًا، وكأن العالم كلّه صار يتحرك ببطء.
اقتربا أكثر فأكثر. ثم، في لحظة هادئة، تلامست شفاههما. اختلط تنفّسهما ومشاعرهما في تلك القبلة.
أغمضت سيريت عينيها بإحكام، وشعرت وكأنها عادت، في طرفة عين، إلى الفتاة الصغيرة التي أحبّت يوان من بعيد. في هذه اللحظة تحديدًا، كان قربه يجعلها سعيدة.
كان يومًا صيفيًا اكتسى فيه العالمُ بالأخضر، وقد تشبّع بقطرات المطر حتى امتلأ بها كل شيء.
***
بينما كانت ليديا تعبث بالسلطة في طبقها مستخدمة شوكتها، أطلقت تنهيدة طويلة. فقدانها للشهية جعلها تضع الشوكة جانبًا، ثم نادت أنيتا التي كانت تقف قريبة منها.
“أنيتا.”
“نعم، يا سمو الأميرة.”
اقتربت أنيتا بخطوات سريعة نحو ليديا.
“اجلسي هنا أمامي.”
أشارت ليديا برأسها إلى المقعد المقابل.
جلست أنيتا بسرعة في الجهة المقابلة لليديا. وكانت تراقبها بقلق واضح.
“يوان وسيريت زارا صيدلية نونوكي.”
“عذرًا؟”
تساءلت أنيتا بوجه حائر.
قبل قليل كانت نونوكي قد جاءت لزيارة ليديا. وكان من النادر جدًا أن تأتي نونوكي إليها من تلقاء نفسها.
اتضح أنها جاءت فقط لتبلغها بأن دوق ودوقة فريكتويستر قد زارا المكان. عندها فقط فهمت أنيتا سبب قدوم نونوكي.
“سمعتُ أنها طلبت منها أن تصنع لها السم الذي تناولته الخادمة وماتت بسببه.”
استمعت ليديا من نونوكي إلى قصة مرور يوان وسيريت إلى الصيدلية. ما الذي اشترياه، وما الذي قالاه.
تلك الكلمات جعلت ليديا تشعر بالقلق. سيريت لم تذهب وحدها، بل جاء يوان معها. وهذا يعني أن يوان يشك، مثل سيريت، في ما حدث لتلك الخادمة.
لم تكن ترغب أن يعرف يوان. أكثر ما كانت تخشاه هو أن يعتقد يوان أنها شخص سيئ.
“عليّ أن أفرّق بينهما. حتى لا يجدا وقتًا للاهتمام بأمور تافهة مثل قضية الخادمة.”
التعليقات لهذا الفصل " 74"