ابتسمت سيريت وأدارت رأسها نحو الجهة التي جاء منها صوت ريغان.
كان ريغان يركض نحوها من حديقة البحيرة على اليمين. وما إن وصل إليها بخطوة واحدة تقريبًا حتى كان يلهث قليلًا.
يبدو أن حظه جيد اليوم. يلتقي بدوقة فريكتويستر في القصر الإمبراطوري نفسه… نظر إليها بعينين لامعتين وابتسامة مشرقة.
“سموّ الدوق الأكبر.”
ارتسم انحناء خفيف في عيني سيريت وهي تنظر إلى وجه ريغان المتلألئ كأشعة شمس صيفية.
“كيف حالك؟ لا، كيف حال جسدك؟ هل أنت بخير؟”
الابتسامة الواسعة على وجه ريغان اختفت فجأة وحلّ محلها القلق.
منذ أن سمع بخبر الاعتداء على دوقة فريكتويستر أراد الذهاب إلى قصر الدوق لزيارتها، لكنه خشي أن يبدو قلقه مبالغًا فيه. فتردّد لأيام… ثم شاءت المصادفة أن يلتقي بها الآن، فشكر هذه المصادفة في قلبه.
“نعم، أنا بخير.”
أجابت سيريت بوجه فيه شيء من الحرج.
خبر الاعتداء على دوقة فريكتويستر انتشر بسرعة، والآن تقريبًا كل الناس يعرفونه. وكل من يراها يسألها إن كانت بخير، مما جعل سيريت تشعر ببعض الإحراج.
“ارتحت لذلك.”
“شكرًا لاهتمامك.”
ابتسمت سيريت ابتسامة محرجة.
“لا تذهبي إلى أماكن خطيرة مثل تلك مرة أخرى. وإن اضطررتِ خذيني معك.”
“هل ستذهب معي يا سموّ الدوق الأكبر؟”
سألت سيريت بابتسامة خفيفة.
“بالطبع! مهما كان ذلك المكان، سأذهب معك.”
“حتى لو كان مكانًا تعجّ فيه السراعيف الضخمة؟”
سألت سيريت بملامح مازحة.
“إيخ.”
تقلص وجه ريغان باشمئزاز. كان أكثر ما يخشاه ريغان في هذا العالم هو السراعيف. مجرد تخيّلها جعله يقشعر، لذلك لم يستطع أن يكرر بسهولة وعده بأن يذهب معها لأي مكان.
عند رؤية ريغان متجمّدًا هكذا، انفجرت سيريت ضاحكة. وقد فهم ريغان أنها كانت تمزح، فضحك معها.
“كيف عرفتِ أنني أخاف السراعيف؟ هل أخبرك يوان؟”
“نعم، نوعًا ما.”
أومأت سيريت برأسها في جواب لسؤال ريغان.
والحقيقة أنها في حياتها السابقة سمعت ذلك من ريغان نفسه. عندما اعترف فجأة بأن السراعيف هو أكثر شيء يخيفه في العالم، وكان وجهه حينها مضحكًا لدرجة أنها ضحكت طويلًا.
“يا للإحراج. أخشى أنني الرجل الوحيد الذي يخاف السراعيف، أليس كذلك؟”
“الجميع لديه شيء يخافه.”
“لقد قررت. حتى لو ظهر هناك سرعوفٌ ضخم، فسأذهب معكِ يا سيدتي.”
أجاب ريغان بملامح رجل اتخذ قرارًا كبيرًا، وبجدية لا بأس بها. فكّر أنه ربما حان الوقت ليهزم خوفه من السراعيف، فقبض يده بإحكام.
“وماذا لو كنتُ أنا السرعوف؟”
قلّدت سيريت بأذرعها حركة الأرجل الأمامية للسرعوف وهي تمزح مع ريغان. ولأن التقليد كان متقنًا جدًا، ارتجف ريغان وتراجع إلى الخلف خطوة.
استمتعت سيريت برؤية ريغان يهرب، فأكملت تقليد السرعوف واقتربت منه أكثر، لكن قدمها التوت فجأة، واختل توازنها. أسرع ريغان إلى الإمساك بذراعها.
“هل أنتِ بخير؟”
نظر ريغان إلى سيريت بوجهٍ مذهول، ثم أدرك فجأة أن يده ما زالت تُمسك بذراعها، فارتبك وسحب يده بسرعة. كانت سيريت ترتدي فستانًا بلا أكمام، لذلك كانت بشرتها ملامسة لكفه مباشرة.
“أنا بخير.”
“ن… نعم.”
تهرّب ريغان من نظرات سيريت. كان يشعر وكأن حرارة ترتفع من كفّه الذي لامس بشرتها، فقبض يده وبسطها عدة مرات دون أن يشعر.
في تلك اللحظة، أشارت سيريت إلى شيء بإصبعها.
“سمو الدوق الأكبر.”
اتّبع ريغان اتجاه إصبعها بعينيه، وما إن رأى ما تشير إليه حتى ارتجف وأمسك بيد سيريت من الفزع. كانت سيريت تشير إلى سرعوف. كان السرعوف واقفًا في ممرّ الرواق، رافعًا قدميه الأماميتين ومحرّكًا رأسه يمينًا ويسارًا.
ارتجفت قشعريرة في كامل جسد ريغان، وكاد يصرخ من الفزع. لحسن الحظ لم يصرخ، ونجا من الفضيحة.
“ماذا نفعل؟ أنا أيضًا أكره السراعيف.”
لم تكن سيريت تحب السراعيف هي الأخرى، ولم تكن تملك الشجاعة للمرور من ذلك الطريق.
عند كلامها، أخذ ريغان نفسًا عميقًا، ثم قال بوجه جاد.
“فلنهرب.”
في لحظة واحدة، قفز ريغان فوق حاجز الرواق. ثم أمسك بيد سيريت وبدأ يركض بها في الاتجاه المعاكس لمكان وجود السرعوف.
كان منظر هروبهما من السرعوف مضحكًا لدرجة أن سيريت انفجرت ضاحكة. وتبعها ريغان ضاحكًا معها.
“وجدتُ محلّ حلويات لذيذًا. سأشتري منه قريبًا وأحضره لك.”
كانا يهربان، لكن ريغان تحدّث بصوتٍ مفعم بالحماس.
في الآونة الأخيرة، كان شغف ريغان هو استكشاف محلات الحلويات الجديدة. وكان إحضار حلوى لذيذة لسيريت هو أكبر متعة في يومه.
“شكرًا لك. لكن إلى متى سنظل نهرب؟”
“إلى أن يتوقف السرعوف عن ملاحقتنا.”
عند كلمات ريغان، انتشر ضحك سيريت العذب في الهواء.
ريغان أمسك بيد سيريت بقوة أكبر.
هربهما من السرعوف، في هذه اللحظة بالذات، أصبح بالنسبة لريغان ذكرى صيفيّة سعيدة ستظل محفورة عميقًا في قلبه.
***
كان اليوم هو اليوم الذي ينتهي فيه معرض الصالون. اليوم الذي ستستلم فيه سيريت اللوحة التي اشترتها، واليوم الذي ستنكشف فيه هوية الرسّام الجديد الذي تلقّى سيلًا من الشتم… الرسّام الملقّب بـ “جنتلمان”.
طوال فترة انعقاد الصالون، ظلّ جنتلمان محور الحديث.
كتب كوينتن دال مقالًا يصف فيه لوحة جنتلمان، المسماة بصورة ذاتية، بأنها عمل أحمق لا قيمة له، وبسبب تلك المراجعة ازداد حماس النقّاد والنبلاء في شتم لوحته بلا توقف.
كانت الصحف تنشر يوميًا مقالات تنتقد لوحة جنتلمان.
حتى إن أحد النقّاد قال إن النساء الفاجرات وحدهن يعجبهن هذا النوع من اللوحات، مما أثار غضب النساء بشدة.
على أي حال، وبفضل رسمة جنتلمان، أصبح هذا الصالون واحدًا من أنجح المعارض في السنوات الأخيرة.
وبينما كانت سيريت تنزل الدرج بعد أن أنهت استعداداتها للخروج، رأت يوان واقفًا في الردهة.
شعر يوان أيضًا بوجود حركة خلفه، فالتفت نحو سيريت.
“كنتَ في المنزل إذًا؟”
نزلت سيريت الدرج واقتربت من يوان.
“سمعتُ أنك ستذهبين إلى معرض الصالون.”
“نعم.”
“سأرافقك.”
“ستذهب إلى الصالون؟”
“يقولون إنه لا ينبغي أن أترك زوجتي تذهب وحدها إلى صالون هذا العام.”
قال يوان ذلك بوجه جاد جدًا، حتى بدا كلامه بين المزاح والجد.
الكلمات كانت بالتأكيد مجرد مزحة منتشرة بين الرجال هذه الأيام، لكن ملامحه كانت جادة إلى حد مبالغ فيه.
أي مزحة يقولها شخص بهذه الجدية؟
إنه يوان فريكتويستر على حقًا.
ضحكت سيريت بخفة.
“بسبب تلك اللوحة؟”
“هل رأيتها؟”
“نعم.”
وهل اكتفت بالمشاهدة فقط؟ لقد اشترتها أيضًا.
ارتسمت بسمة لطيفة على وجه سيريت.
“إذن فعلتِ.”
قال يوان بوجه منزعج.
“بما أني رأيتها بالفعل، لا داعي لأن ترافقني إلى الصالون.”
تجاوزت سيريت يوان واتجهت نحو الباب.
لحق بها يوان، وأمسك يدها، ثم وضعها على ذراعه.
“أستذهبين لرؤية تلك اللوحة؟”
“لا. سأذهب لاستلام لوحة اشتريتها.”
على أي حال، سأراها كثيرًا من الآن فصاعدًا، فلا حاجة لأن أذهب لرؤيتها خصيصًا. أجابت سيريت وهي تمسك بذراع يوان وتنزل الدرج.
“هل اشتريتِ لوحة؟”
“نعم. كانت هناك لوحة أعجبتني كثيرًا فاشتريتها.”
“كان عليكِ إخباري بأن هناك لوحة أردتيها.”
وقف يوان أمام العربة المنتظرة، ونظر إلى سيريت.
“أراهن أنك كنت ستعارض.”
“أحترم ذوق زوجتي.”
“يسعدني أنك تحترمه.”
صعدت سيريت إلى العربة، ونظرت إلى يوان الجالس في المقعد المقابل لها وهي تبتسم بخفة.
تساءلت في داخلها إن كان سيحترم ذوقها فعلًا. كانت فضولية لترى أي تعبير سيظهر على وجهه عندما تستلم تلك اللوحة.
توقفت العربة أمام قاعة المعرض قبل أن تنتبه. كان المعرض مكتظًا بالناس أكثر بكثير من اليوم الأول. يبدو أن الكثيرين جاؤوا ليروا لوحة ‘الصورة الذاتية’ في يوم عرضه الأخير، وكانت النساء بشكل خاص الأكثر حضورًا.
“أي لوحة اشتريتِ؟”
سأل يوان وهو يدخل المعرض مع سيريت.
“هل أنت فضولي؟”
“نعم، أنا فضولي.”
أجاب يوان بنظرة مفادها، أليس هذا طبيعيًا؟
“ستعرف حالًا.”
قالت سيريت وهي تمشي أمامه.
توجّهت سيريت مباشرة نحو الجدار الذي عُلِّقت عليه اللوحة.
وكما هو متوقع من العمل الأكثر جدلًا وضجة في الصالون، كان الناس متجمهرين أمام اللوحة.
كان من الواضح أنها لوحة تملك جاذبية أكيدة تلفت الأنظار.
توقفت سيريت عن السير وحدّقت في اللوحة.
“تلك هي لوحة الصورة الذاتية؟”
سأل يوان وهو يقف بجانبها، عابِس الوجه قليلًا. بدا في صوته أثر واضح من عدم الرضا.
“نعم، أليست جميلة؟”
في عيني سيريت، كانت لوحة جميلة جدًا.
فهي لوحة ستُضاعف المال الذي دفعته عشرات المرّات.
عندها، وقف يوان أمام سيريت كأنه يقطع عنها الرؤية.
وبسبب جسده الضخم، لم تعد ترى اللوحة إطلاقًا.
“لنذهب ونرى اللوحة التي تقولين إنك اشتريتها.”
كانت نبرة يوان منزعجة.
هذا بالضبط ما توقّعته سيريت. دارت عيناها بتململ.
كانت تفكر هل تخبره الآن أم لا، وفجأة سمعت صوتًا مألوفًا.
“يوان! دوقة فريكتويستر!”
كان الصوت الحيوي الذي يناديهما ويتقدّم نحوهما يعود لريغان.
“سمو الدوق الأكبر.”
قالت سيريت بوجه مشرِق وهي تنظر إلى ريغان.
كانت هذه أول مرة تراه منذ ذلك اليوم الذي هربا فيه معًا من السرعوف.
انتقلت نظرة ريغان الدافئة من وجه سيريت إلى وجه يوان المتصلّب.
“ما الأمر حتى جئتَ إلى المعرض؟”
نظر ريغان إلى يوان بملامح مستغربة.
“جئتُ مع سيريت.”
أجاب يوان وهو يلقي نظرة خاطفة نحو سيريت، وما زال وجهه عابسًا.
“هل من الممكن أنك جئت لتراقبها؟”
قال ريغان وهو يشير إلى اللوحة وينظر إلى سيريت.
ضحكت سيريت بخفّة عند تصرّف ريغان.
“يبدو أن الصالون يقبل أي لوحة بلا شروط، يا صاحب السمو.”
قال يوان.
ارتسمت على وجه ريغان ملامح خيبة وهو يسأل.
“أحقًا تبدو لك… كأيّ لوحة؟”
“نعم.”
أجاب يوان بحدّة تكاد تُوصَف بالبرود.
عندها، سأل ريغان سيريت بملامح يعلوها خَيبة واضحة.
“هل تعتقدين الشيء نفسه، يا دوقة فريكتويستر؟”
“بالطبع لا.”
“أليس كذلك؟”
ابتسم ريغان ابتسامة مشرقة عند جواب سيريت.
رؤية الاثنين يبدوان سعداء معًا جعلت طرف شفتي يوان يرتفع باستياء. كان الجو بينهما يحمل خفّة ربيعيّة لطيفة، وهذا أزعجه بشدّة.
“سيريت، لنذهب.”
قال يوان وهو يمسك بيدها.
“لكنني أرغب بالبقاء هنا.”
أعني… هذه لوحتي. سحبت سيريت يدها من قبضة يوان.
“صحيح، يوان. يبدو أنّ شيئًا ممتعًا على وشك الحدوث، فلننتظر قليلًا.”
أوقفه ريغان.
كان يتحدث إلى يوان، لكن عيني ريغان كانتا متعلّقتين بــ كوينتن دال وهو يقترب من اللوحة.
تبعت سيريت ويوان نظرات ريغان.
وعندما ظهر كوينتن دال، ارتفعت زاوية شفتي سيريت. لحظة مثيرة لا يجوز تفويتها كانت تقترب.
شقّ كوينتن دال طريقه عبر الحشود وتقدّم نحو اللوحة، ثم وضع يده على صدره وانحنى بتحية مهذّبة أمام الناس المتجمّعين.
كان أحد الصحفيين الواقف بين الناس قد سأل كوينتن دال.
“قلت في مقالت إنّ لوحة جنتلمان مجرّد لوحة حمقاء. هل ما زلت ثابت على رأيك؟”
عند سؤال الصحفي، تركزت أنظار الحاضرين على كوينتن دال.
التعليقات لهذا الفصل " 69"