قراءة ممتعة~~~
الفصل الحادي والستين.
“هاا،هاا“
كانت أنيتا، وهي تقبض على العصا الخشبية، تطلق أنفاسًا مضطربة.
التوى وجهها خوفًا وهي تحدّق إلى سيريت الملقاة أمامها.
ما الذي فعلته للتو؟
ارتجفت عيناها، ممتلئتين بالخوف والندم معًا.
ومع سماعها وقع أقدام يقترب من الخلف، استعادت رُشدها فجأة، ورمت العصا، وانتزعت القنينة من يد سيريت، وبدأت بالفرار.
هربت خارج منطقة فيرون بلا تفكير.
وظلّت تركض بخطواتٍ هوجاء حتى وصلت إلى ضفاف نهر خالٍ من الناس، وهناك فقط توقفت.
وبينما تتنفس بصعوبة، نظرت أنيتا إلى القنينة في يدها.
عاد مشهد لحظات صوفيا الأخيرة ليطغى على ذهنها.
***
اهتزّت يد أنيتا وهي تشدّ على القنينة.
كانت ليديا قد سلّمتها هذه القنينة وقالت لها أن “تنهي الأمر بشكل نظيف“.
وفهمت أنيتا فورًا معنى “تنهي الأمر“.
لم تكن جملة واضحة أو مشروحة، لكنها — لسبب غريب — كانت الجملة الوحيدة التي فهمتها مباشرة.
ليتني لم أفهم…
امتلأت عينا أنيتا بالدموع.
كانت خائفة.
كانت تريد الهرب.
استخدام هذا السم يعني ارتكاب خطيئة لا تُغتفر.
لم تكن ترغب أبدًا في الوصول إلى هذا الحد.
لكنها لم تستطع التخلي عن كل ما منحته إياها ليديا—
المال الذي لا يمكن لمجرد خادمة الحصول عليه،
دواء قلب والدتها،
وحياة هادئة لعائلتها.
لم تكن مستعدة لخسارة أي منها.
وفوق كل ذلك، إن أرادت البقاء على قيد الحياة، فعليها أن تبقى مخلصة لليديا.
فأنيتا تعرف ليديا أكثر من أي أحد آخر.
ولحظة تحاول فيها الانفصال عنها، ستعود تلك القنينة إلى يدها هي.
إن أرادت النجاة، فعليها أن تبقى “الكلب الوفي“.
مسحت دموعها سريعًا وخرجت من القصر.
كان هذا اليوم هو الموعد المحدد للقاء صوفيا في منطقة فيرون.
وأثناء سيرها في الطرقات التي بدأت العتمة تغشاها، ابتلعت ريقها مرات عديدة.
كانت تغطي وجهها بعباءة وقطعة قماش، لكنها شعرت وكأنها مكشوفة تمامًا.
وصلت إلى حانة رثّة، وجلست تنتظر صوفيا بقلق.
كانت تتمنى لو أنها لا تأتي… لكنها أتت في النهاية.
مسكينة… مثل حالتي.
نحن أمثالنا لسنا سوى حشرات.
إن أراد أحدهم سحقنا، سيفعل.
لا تلوميني كثيرًا…
وبتعابير متضاربة، دفعت أنيتا القنينة عبر الطاولة نحو صوفيا.
“لقد بدّلت الدواء. ابتداءً من الغد، أعطيها هذا.“
“هل هذا الدواء آمن؟“
أمسكت صوفيا القنينة ونظرت إلى أنيتا بحذر.
“إن كنتِ لا تثقين به، جرّبيه بنفسك.“
شدّت أنيتا على طرف ثوبها.
لا. لا تشربيه.
أرجوكِ، لا تشربيه…
صرخت بداخلها، ولكن صوفيا فتحت القنينة.
وبلا أي ريبة، أخذت رشفة، وقطّبت حاجبيها من طعمه السيء.
كان تأثير السم يظهر بعد عشر دقائق.
وبعد عشر دقائق ستكون هذه المسكينة قد فارقت الحياة.
وبلا علم بما ينتظرها، سألت صوفيا سؤالًا لا معنى له.
“لكن من هو هذا الشخص الرفيع الذي تخدمينه؟“
“وماذا جرى لكِ لتسألي الآن؟“
لن يفيدكِ معرفة ذلك.
فالسم الذي ابتلعته سيفسد جسدكِ كله قريبًا.
يا للمسكينة…
سقط نظر أنيتا الحزين على صوفيا.
“أحتاج أن أعرف لأجل نفسي أيضًا. إن اكتشفوا أنني كنت أعطي الدواء سرًا للدوقة، فلن أنجو. أحتاج مخرجًا.“
“افعلي ما يُطلب منكِ فقط.“
قالتها أنيتا ببرود، ونَهَضت وغادرت الحانة.
وفي الخارج، تحت ظلام الليل، أطلقت تنهيدة عميقة.
“أرجوك أخبريني. من الذي أمركِ بهذا؟“
كانت صوفيا قد لحقتها، ووقفت أمامها بتوسل ظاهر.
أرادت أن تعيش.
وشفقت أنيتا عليها لكنها قاطعتها بقسوة.
“لا تسألي.“
“إن لم تخبريني… سأتوقف.“
ودفعت صوفيا القنينة مرة أخرى إلى يد أنيتا.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي أنيتا.
جيد.
كانت تخطط أصلًا لاسترجاع القنينة بعد سقوط صوفيا وها هي تحصل عليها دون جهد.
“افعلي ما تشائين. هناك الكثير ممن يمكنه تنفيذ هذا العمل.“
ارتجفت صوفيا، ثم انتزعت القنينة سريعًا من يد أنيتا مرة أخرى.
“لا، سأفعل.“
واستدارت بوجه عابس، واختفت في العتمة.
كانت أنيتا على وشك أن تتبعها، لكنها لاحظت قدم صوفيا تبرز خلف زاوية ضيقة.
أنتِ تتبعينني إذن…
فهمت أنيتا نية صوفيا، وجذبتها إلى أعماق الأزقّة المظلمة في فيرون، بعيدًا عن الأنظار.
“اه…“
ما إن سمعت تأوّهًا خلفها حتى استدارت.
كانت صوفيا قد سقطت أرضًا، تتقيأ دمًا.
جسدها يرتجف بعنف… تمامًا كالفراشة التي قتلتها ليديا.
قاومت أنيتا شعور الغثيان وهي تنظر حولها.
لم يكن هناك أحد في ذلك الزقاق المظلم.
اقتربت بخطوات ثابتة نحو صوفيا.
“أ… أ… أنقذيني…“
تمسكت صوفيا بطرف ثوبها، لكن صوتها انقطع، وانهارت على الأرض القذرة.
حدّقت أنيتا فيها، عيناها ممتلئتان بالخوف والذنب.
“في حياتك القادمة… اولدي كشخص ذا قيمة. شخص لا يستطيع أحد سحقه.“
وبابتسامة حزينة، تمنّت لها الرحمة بصمت، ثم بدأت تفتش جيوبها عن القنينة.
فليديا قد حذرتها—إنه إن اكتُشف أن السم مصنوع بيد نونوكي، فسينقلب الوضع رأسًا على عقب. وكان يجب التخلص من القنينة.
لكنها لم تجدها.
أين اختفت؟
نظرت حولها، مذعورة—
وأصوات الناس تقترب.
لم يكن أمامها سوى الهرب.
***
وفي اليوم التالي، عادت أنيتا إلى فيرون بحثًا عن القنينة.
لكنها وجدت—
الدوقة بنفسها تمسك بها.
ارتعبت أنيتا، وبحركة غريزية أمسكت بعصا خشبية كانت على الأرض وضربت بها رأس الدوقة.
نظرت إلى القنينة، واستعادت ذكرى صوفيا، فعضّت شفتيها.
فتحت القنينة، وسكبت ما فيها على التراب، ثم رمت القنينة في النهر.
راقبتها وهي تنجرف بعيدًا، ثم أطلقت تنهيدة ثقيلة.
“ماذا أفعل الآن…“
لقد تخلّصت من القنينة لكنها ألحقت الأذى بالدوقة.
ولو ماتت الدوقة…
ارتجف جسد أنيتا كله.
هذه ليست مصيبة مثل مصيبة صوفيا بل أسوأ بكثير.
وبوجه شاحب، أسرعت نحو القصر.
فالشخص الوحيد القادر على إنقاذها الآن هو ليديا.
***
نزل يوان من العربة وصعد درجات القصر.
في تلك اللحظة، دخلت عربة أخرى بسرعة إلى الدوقية.
عند صوت العربة الصاخب، التفت يوان، الذي كان يصعد الدرجات، إلى الخلف.
توقفت العربة، وقفز السائق منها وهو يلهث.
عند ملامح السائق غير الطبيعية، عَقَد يوان حاجبيه وسار بخطوات واسعة نحو العربة.
هل هي عربة سيريت؟ أصبح وجه يوان جادًا.
“ما الذي يحدث؟”
“سمو الدوق!”
عند وجه السائق الذي صار شاحبًا، أحس يوان بشؤم، وارتعشت حاجباه.
وفي اللحظة التي همّ فيها يوان بفتح باب العربة بعجلة—
انفتح الباب بقوة.
“سيد فيت!“
صرخت هانا بوجه مرعوب.
وقع نظر يوان على سيريت، المستلقية بلا وعي في حضن هَنّا.
تجمد يوان في مكانه عند رؤية سيريت فاقدة الوعي.
شعر وكأن الدم يتجمد في عروقه.
اقترب يوان من العربة بتوتر، وعيناه القلقتان ترتجفان بلا استقرار.
“سيريت.”
“سمو الدوق، سيدتي أُصيبت. أرجوك، أنقذها.”
انفجرت هانا بالبكاء فور رؤيته.
لم يكن لدى يوان وقت ليسأل ماذا حدث؛ حمل سيريت فورًا وتوجه نحو المدخل.
بخطوات واسعة صعد الدرج الحجري ودخل الردهة، وصرخ على كبير الخدم الذي اندفع نحوه بوجه مذعور:
“استدعِ الطبيب كين!”
“نعم، سيدي.”
أجاب كبير الخدم بوجه قَلِق واختفى مسرعًا.
تحرك يوان بخطوات سريعة نحو غرفة سيريت.
وعند دخوله غرفة النوم، شحب وجهه تمامًا.
وضعها على السرير، وبدأت عيناه تمسحان وجهها وجسدها بقلق شديد.
ولم يستطع مقاومة الذعر، فأمسك يدها.
كانت يدها دافئة.
على عكس الحلم، كانت حرارة جسدها واضحة، ومع ذلك لم يهدأ قلبه بسهولة.
هل هذا حلم؟ هل هو كابوس آخر؟
قلبه، المملوء بالقلق، كان يخفق بسرعة وهو ينظر إلى وجه سيريت الشاحب.
شعر وكأنه عالق في كابوس فظيع.
لماذا سيريت…؟
أراد يوان أن يستيقظ بسرعة من هذا الحلم المرعب.
“آنستي… آنستي…“
كانت هانا تبكي بحرقة، تناديها بجنون.
عندها فقط انتبه يوان لوجود هَنّا، فالتفت إليها، محاولًا ضبط مشاعره، وسألها.
“ما الذي حدث؟”
“ذلك…”
مسحت هَنّا دموعها، وروت بصوت مرتجف ما جرى.
ومع كل كلمة، ازداد وجه يوان تصلبًا.
“كنتُ أسأل العجوز إن كانت رأت صوفيا الليلة الماضية، وعندما لم تأتي سيدتي، عدت لأبحث عنها… ووجدتها على الأرض. وهذا… هذا كان بجانبها. إن عليه دم… دم سيدتي.“
ورفعت هانا العصا أمامه وانفجرت بالبكاء ثانية.
لقد أرعبتها رؤية سيريت ساقطة هكذا حتى الآن لا يزال قلبها يخفق بقوة.
أخذ يوان العصا منها.
كانت ملطخة بدم سيريت الأحمر.
من الذي تجرّأ على لمس زوجتي؟
اشتد وجه يوان بالغضب، وعيناه الرماديتان أطلقتا برودة جعلت الهواء من حوله يتجمد.
الحنق غمر جسده بالكامل.
لن يترك من فعل هذا بسيريت على قيد الحياة.
اشتدت قبضته على العصا بعنف.
يتبع^^
ترجمة نينا @justninaae
التعليقات لهذا الفصل " 61"