قراءة ممتعة~~~
الفصل الثامن والأربعين
“لا حاجة للشاي، شكرًا.”
قال ريغان ذلك للسكرتير، ثم أغلق باب المكتب بنفسه.
نهض يوان من مقعده وتقدّم نحو ريغان.
“ما الأمر؟”
“لا شيء مهم. كنتُ قريبًا وفكّرت أن نتناول الغداء معًا.”
عند سماع كلام ريغان، أخرج يوان ساعة جيبه وتفقّد الوقت.
كان قد حان وقت الغداء.
أومأ يوان برأسه كأنه يقول إنه فهم.
***
توجّه الاثنان إلى مطعمٍ قريب من المكتب.
كان مكانًا يقدّم أطباق الجنوب بشكلٍ لا بأس به، وكان ريغان يحبّه كثيرًا.
وأحيانًا كان يوان يتساءل ما إذا كان ريغان يزور مكتبه لمجرّد أن يأتي إلى هذا المطعم، بما أنه كان يصرّ على المجيء إليه في كل مرة.
عندما وصلت الأطباق، بدأ الاثنان يتناولان الطعام ويتبادلان الأحاديث الخفيفة.
“لكن لماذا استعجلت الزواج إلى هذا الحد؟ قلتَ إنك تفكّر في نهاية العام أو مطلع العام القادم.”
سأل ريغان وهو يضع الشوكة جانبًا.
“سيريت هي من أرادت ذلك.”
“آه.”
أومأ ريغان برأسه عند سماع جواب يوان.
شرب يوان ماءه وهو يراقب تعابير ريغان.
كانت عيناه الحادّتان تتحقّقان مما إذا كان في قلب ريغان أي مشاعر متبقّية نحو سيريت.
وحين رأى أن ملامح ريغان لا تختلف عمّا اعتاد عليه، لانَت نظرات يوان.
فريغان الذي يعرفه لم يكن أحمق إلى درجة أن يضمر مشاعر تجاه امرأة متزوّجة.
وشعر من جديد بأنه أحسن صنعًا حين عجّل بالزواج.
فلو تعمّقت مشاعر ريغان أكثر، لكان الأمر مزعجًا للغاية.
بعد ذلك، تناول ريغان طعامه بصمتٍ لبعض الوقت.
وحتى يوان ركّز على طعامه دون أن يقول الكثير.
وقبيل انتهاء الوجبة، فتح ريغان موضوعًا غريبًا فجأة.
“هل تتذكّر تلك القطة البيضاء التي كانت تعيش في القصر الإمبراطوري عندما كنّا صغارًا؟ تلك التي ظهرت فجأة ذات يوم؟”
“قطة؟”
قطّب يوان جبينه قليلًا عند ذكر القطة على نحوٍ غير متوقَّع.
وحاول استرجاع صورة القطة البيضاء التي لم يبقَ منها في ذاكرته إلا أثرٌ خافت.
في طفولته، كلما زار يوان القصر الإمبراطوري، كانت تلك القطة البيضاء تظهر بطريقةٍ ما وتقترب منه مداعِبة.
لم يكن يوان ممّن يحبّون الحيوانات كثيرًا، لكنه لم يكن طفلًا قاسيًا إلى حدّ أن يتجاهل قطةً تتعلّق به إلى تلك الدرجة.
وحين كانت القطة البيضاء تظهر، كان يحتضنها أو يربّت عليها، ومع الوقت بدأ يأخذ معه خصيصًا بعض الوجبات الخفيفة ليقدّمها لها.
لكن في يومٍ ما، توقّفت القطة عن الظهور.
شعر بالانزعاج في البداية، لكنه افترض أنها ذهبت إلى مكانٍ آخر، وتوقّف عن التفكير في الأمر.
فلماذا يذكرها الآن؟
حدّق يوان في ريغان بعينين حائرتين.
“تلك القطة كانت متعلّقة بك كثيرًا.”
“صحيح.”
“لا أعرف لماذا، لكنها خطرت في بالي فجأة.”
تمتم ريغان بذلك كأنه يحدّث نفسه، وهو يحوّل نظره إلى خارج النافذة.
“إنه جوٌّ مناسب لقول أشياء بلا معنى، أليس كذلك؟”
عند كلمات يوان، انفجر ريغان ضاحكًا ثم أعاد نظره إلى يوان.
“أتمنى أن تُحسن حمايتها هذه المرة.”
تلاشت ابتسامته، واكتسبت عيناه نظرةً جادّة.
عند تلك الكلمات، شعر يوان بألمٍ جسدي في صدره.
وتشنّج وجهه تحت وطأة ذاك الوجع المفاجئ الذي لا تفسير له.
‘لماذا فعلت ذلك! لتلك المرأة المسكينة. لماذا!’
تردّد في مكانٍ ما صوت ريغان الغاضب.
وأومض وجه ريغان المشتعل بالغضب في خاطر يوان.
ذكرى من زمنٍ لا يعرفه ضغطت على أنفاسه حتى شعر بالاختناق.
متى كانت هذه الذكرى؟
تجمّد وجه يوان إزاء هذا الإحساس الغريب.
“ما بك؟”
سأل ريغان وقد لاحظ أن حال يوان ليست على ما يرام.
“لا شيء. لا شيء على الإطلاق.”
تهرّب يوان من السؤال.
لكن لسببٍ ما، شعر برغبةٍ ملحّة في رؤية سيريت.
***
كان الأمر يزعجه.
في حياته السابقة، كان ريغان يجد نفسه يراقب دوقة فريكتويستر خلسةً مرارًا دون أن يشعر بنفسه.
كان ذلك في حفلة أُقيمت في قصر الماركيز غولدينغ.
الجميع كان يستمتع بأجواءٍ مبهجة، لكن الدوقة، التي يبدو أنها لا تعرف أحدًا، بقيت بمفردها منذ وقت طويل.
راح ريغان يبحث عن يوان بعينين قَلِقَتين.
كان يوان محاطًا بالناس، يتحادث معهم في جوٍّ وديّ.
وكانت ليديا تقف إلى جواره.
‘لقد ترك زوجته وحدها…’
وبما أن ريغان كان يعرف طباع يوان جيدًا، نقر بلسانه بخفة ساخرًا. لا حاجة لأن يكون باردًا مع زوجته هكذا.
وفي النهاية، لم يستطع تجاهل الأمر، فاتّجه نحو الدوقة وهو يحمل كأسين من الشمبانيا.
“دوقة فريكتويستر.”
ناداها ريغان بصوتٍ لطيف.
ففزت سيريت من المفاجأة ورفعت رأسها تنظر إليه.
“يا صاحب السمو الدوق الأكبر.”
ارتجف صوتها قليلًا.
وبدا على ملامحها شيءٌ من الانكماش والخجل، ما جعل ريغان يشتم يوان في سرّه.
“ما رأيكِ ببعض الشمبانيا؟”
ناولها الكأس.
“شكرًا لك.”
اخذت سيريت الكأس بحذر، وقد بدا عليها الارتباك من اهتمام الدوقٍ الأكبر بها.
‘كانت من موشيلي، أليس كذلك؟’
فكر ريغان وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة أمام براءتها الخجولة.
“جئتُ لأغتاب زوجكِ قليلًا.”
“عذرًا؟ تقصد سمو الدوق؟”
اتّسعت عينا سيريت بقلق.
بل وبهت لون وجهها قليلًا، كأنها خشيت أن يكون يوان قد ارتكب خطأ جسيمًا.
“أن يترك زوجة جميلة بهذا الشكل وحدها… هذا منظر مُخزٍ حقًا. لو كنتُ مكانه لما تركتُكِ وحدكِ أبدًا.”
قال ريغان ذلك وهو يبتسم ابتسامة مائلة ويحتسي رشفةً من الشمبانيا.
عندها فقط لانَت ملامح سيريت، وراحت تلاعب كأس الشمبانيا وهي تبتسم بخجل.
“سمو الدوق مشغول.”
قالت سيريت وكأنها تتفهّم كل شيء.
وهي على تلك الحال، بدا يوان في عيني ريغان وكأنه رجل سيّئ بحق.
ظل ريغان إلى جوار تلك الدوقة ذات القلب الواسع.
وحين جاء يوان أخيرًا، اصطحب سيريت وغادرا معًا.
وبدت هيئة سيريت وهي تغادر بصحبة يوان من الخلف وحيدةً وحزينة، فانقبض قلب ريغان.
“أيها الوغد اللعين، أحسِن معاملتها قليلًا.”
تمتم ريغان وهو ينظر إلى ظهر يوان الذي يبتعد.
وبعد ذلك اليوم، وجد نفسه يفكّر في سيريت كثيرًا.
يبدو أن مظهرها وهي تقف وحدها أثار شفقته.
اشترى ريغان حلوى على طريقة لوا كانت رائجة بين السيدات آنذاك، وتوجّه إلى قصر الدوق.
وهذه المرة، بدلًا من يوان، كانت سيريت هي من استقبلته.
احمرّ وجهها وهي تتسلّم الحلوى وتشكره، وقالت إنها لم تذق مثلها من قبل، وكان بريق ابتسامتها أخّاذًا.
وفي يومٍ آخر، جاء حاملًا باقة من الزهور لأنه أراد أن يرى تلك الابتسامة مرةً أخرى.
ولما بدا أن سيريت تحب الزهور أيضًا، غمرته سعادة كبيرة.
وبينما هو كذلك، تحوّلت سيريت في عينيه من امرأةٍ مسكينة إلى امرأة تبتسم بشكل جميل.
لكن مع مرور الوقت، بدأت تلك الابتسامة تخبو.
حتى ألذّ الحلويات لم تعد تنتزع منها إلا ابتسامة باهتة.
كان يشعر أنها تذبل شيئًا فشيئًا.
وكان ريغان يعرف جيدًا ما الذي يفعل بها ذلك.
“ألا يمكنك أن تكون أكثر لطفًا مع زوجتك؟”
في إحدى الليالي وهما يشربان معًا، قال ريغان أخيرًا ما كان يودّ قوله منذ زمن.
لقد كان يرغب في أن يصرخ ألا ترى زوجتك تذبل بجانبك؟
“هذا شأنٌ بيني وبين زوجتي.”
“يوان.”
“إنك تتجاوز حدودك، يا صاحب السمو الدوق الأكبر.”
قال يوان بوجهٍ بارد.
“ما دمتُ قد تجاوزت الحدود بالفعل، فدعني أقول شيئًا آخر. من أجل الدوقة… قم بإنهاء الشائعات التي تدور في الأوساط الاجتماعية.”
“لماذا تفعل هذا؟ ولأجل من؟”
تلألأت عينا يوان الرماديتان ببرود.
أحسّ ريغان أنه لامس شيئًا ما، لكنه لم يعرف ما هو.
“من أجلك أنت والدوقة. يؤلمني أن أراها على هذا الحال.”
“لا حاجة لأن تشغل بالك. سأتعامل مع زوجتي بنفسي.”
نهض يوان من مكانه وغادر جانب ريغان.
في اليوم التالي، وبسبب قلقه على سيريت، قصد ريغان قصر الدوق.
وفي غرفة الاستقبال، بدت سيريت متعبة، وظلّت تحاول إخفاء عنقها بشعرها.
وحينها رآها ريغان.
العلامة الحمراء على عنقها.
وكان يعرف جيدًا من الذي تركها هناك، فارتسمت على شفتيه ابتسامة مريرة.
بعد ذلك، امتنع ريغان عن زيارة القصر لفترةٍ طويلة.
وخلال تلك الفترة، أخذت لوحات سيريت تتراكم واحدةً بعد أخرى في مرسمه.
وبقدر ما تراكمت اللوحات، تراكم الشوق في قلبه.
“لماذا فعلت ذلك! لتلك المرأة المسكينة. لماذا!”
أمسك ريغان بياقة يوان وهو ملقى على الأرض، وسحبه إلى الأعلى.
لقد ماتت سيريت فريكتويستر.
وعندما تلقّى ريغان هذا النبأ الصادم، استقلّ قطار الليل مندفعًا نحو قصر الدوق.
لم يستطع تصديق الأمر.
ظلّ وجه سيريت الذي كانت تعدّ الأيام حتى موعد ولادة الطفل يلوح أمام عينيه.
وأخيرًا، كان قد رأى ابتسامتها المشرقة من جديد.
‘أظن أن بإمكاني أن أعيش من أجل الطفل فقط.’
قالت ذلك بابتسامةٍ هادئة.
تلك المرأة التي وجدت في الطفل مخرجًا من وضعٍ خانق بدت سعيدة بحق.
وبينما يهديها هديةً للطفل، تمنى ريغان من قلبه أن تكون سعيدة حقًا.
لكن بعد بضعة أشهر، لم يأتِه سوى خبر موت تلك المرأة التي كانت تتعلّق بالسعادة بكل ما أوتيت من قوّة.
لم يستطع ريغان أن يسامح يوان.
“لماذا قتلتها! لماذا قتلت تلك المرأة!”
صرخ وهو ينظر إلى العينين الرماديتين الفارغتين.
تجمّعت الدموع في عيني ريغان.
وبينما تنهمر دموعه الحارّة، قطع على نفسه عهدًا.
إن كان ثمة حياة أخرى، فسيتعرّف على سيريت فيها قبل يوان.
ولن يسمح أن يمسّها أدنى قدرٍ من التعاسة.
وسقط ذلك العهد الحزين على الأرض في صورة دموع.
***
وأثناء عودته إلى المنزل بعد أن أنهى طعامه مع يوان، لمح ريغان حشدًا من الناس مصطفّين أمام أحد المتاجر، فأمر بإيقاف العربة.
كان الذين يخرجون من المتجر يحملون في أيديهم قطعًا طويلة من الخبز تعلوها كميات وافرة من الكريمة البيضاء.
بدت حلوة على نحوٍ مغري.
ولسببٍ لا يعرفه، تذكّر سيريت.
فطلب ريغان من السائق أن يشتري له بعضًا منها.
وبعد قليل، ناول السائق ريغان كيسًا ورقيًا.
“يقولون إنها حلوى على طريقة لوا. اسمها إيكونغ، ويبدو أنها رائجة جدًا هذه الأيام.”
“اسم لطيف.”
“سأعيد سموّك حالًا إلى قصر الدوق الأكبر.”
قال السائق.
لكن ريغان هزّ رأسه نافيًا.
“لنذهب إلى قصر دوق فريكتويستر بدلًا من ذلك.”
لسببٍ ما، أراد أن يقدّم تلك الحلوى ذات الاسم اللطيف إلى سيريت.
ارتسمت على وجهه ابتسامة سعيدة.
يتبع^^
ترجمة نينا @justninaae
التعليقات لهذا الفصل " 48"