قراءة ممتعة~~~
الفصل الثالث والأربعين.
“ليلي، لا.”
عادت إيف بعد أن رتبت طاولة غرفة الطعام، وأسرعت بخوف نحو سيريت وأختها الصغيرة. كانت تخشى أن تلوث ليلي ثوب سيريت بشيء متسخ، فحملتها بسرعة بين ذراعيها.
“آسفة، الأوضاع فوضوية اليوم، أليس كذلك؟”
“لكنّك تبدين سعيدة.”
مسحت سيريت دموعها سريعًا وابتسمت.
“إنه جحيم… مع ملائكة صغار.”
ابتسمت إيف بتعب، وسلّمت ليلي إلى الخادمة، ثم قادت سيريت وهانا إلى غرفة الطعام.
كان منزلها صغيرًا، لا توجد فيه غرفة استقبال أو شاي.
جلست الضيفتين وهمّت إيف بإعداد الشاي.
“لا داعي للشاي يا إيف. فلنخرج لتناول الغداء.”
“حقًا؟”
فرحت إيف كثيرًا بالفكرة.
قالت إنها تنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي تنتقل فيه إلى بيت الدوق، فضحكت سيريت.
كانت إيف ستعمل وصيفة شخصية لسيريت بعد الزواج، وسيريت سعيدة بذلك، فكلّما زاد عدد من تثق بهم كان أفضل لها.
“قبل أن نخرج، أريد أن أخبركما بشيء. هناك سبب لأننا سنتناول الغداء في الخارج.”
قالت سيريت وهي تنظر بين إيف وهانا.
“سبب؟”
سألتها إيف باستغراب.
قصّت سيريت ما حدث أمس باختصار، فاندهشت إيف واتسعت عيناها.
“يا إلهي.”
“مرّ كل شيء على خير، بفضل هانا.”
نظرت سيريت إلى هانا وهي تبتسم، فابتسمت هانا بفخر.
“انتهى الأمر بسلام، لكن لا أريد أن أتركه دون رد.”
“وماذا تنوين أن تفعلي؟”
سألتها إيف،
فابتسمت سيريت بهدوء على سؤال إيف.
“سأنشر الشائعات.”
كان يوان قد أمر الخدم بإحكام أفواههم حتى لا يتسرّب الكلام إلى الخارج، لكن سيريت لم تكن تنوي إنهاء الأمر عند هذا الحد.
في حياتها السابقة، انتشرت إشاعة تقول إن سيريت، وقد أعماها الحسد، لفّقت التهمة لليديا.
ولأن ما حدث كان داخل قصر الدوق، فقد وصلت الإشاعة حتى سكان المقاطعة، وانتهى بها الأمر موصومة بدوقة غيورة شرسة، وهو أمر كان مجحفًا بحقها.
قررت سيريت هذه المرة أن تردّ الدين كما لاقت في حياتها السابقة.
كما أن تراكم مثل هذه الشائعات سيكون مفيدًا لها عند الطلاق.
“شائعات؟”
“إذا خرج الكلام من فم مدام بارن، فسيصل إلى الجميع قبل الزفاف.”
قالت سيريت بابتسامة.
“هل ستتناولين الغداء معها؟”
سألت هانا بدهشة.
“لا طبعًا، سيكون هذا واضحًا جدًا. علينا أن نجعلها تسمع حديثنا من دون قصد.”
تبادلت إيف وهانا نظرات حائرة، لكنهما تبعتا سيريت إلى متجر المدام بارن للأزياء.
انتظرن خارجًا حتى خرجت المدام بارن مع العاملات في وقت الغداء، ثم لاحقهن من بعيد إلى المطعم.
دخلت مدام بارن مطعمًا فرنسيًّا صغيرًا، وبعد قليل دخلت سيريت ومعها هانا وإيف.
وجدن طاولة خلفها مباشرة، فجلسن هناك.
وبعد أن طلبن الطعام، بدأت سيريت تمثيلها.
“كان يوم أمس فوضويًا جدًا. حدثت مشكلة كبيرة في قصر فريكتوستر.”
رفعت صوتها قليلًا وهي تتحدث، خصوصًا عند اسم القصر.
رمقت هانا سيريت بنظرة سريعة لتشير إلى أن مدام بارن تستمع.
“لقد تفاجأت السيدة أوكسينبري حتى إنها لم تتناول العشاء. والخدم لم يتوقفوا عن الكلام.”
قالت هانا بصوت طبيعي.
كانت هانا تمثل ببراعة، لكن المشكلة كانت في إيف.
“مـ… ماذا حـ… دث؟”
قالت وهي متوترة.
كادت هانا تضحك من أدائها الغريب، لكن سيريت تماسكت وواصلت الكلام بنبرة واضحة كي تسمعها بارن.
“آنستي حاولت أن تغطي على الآنسة إليوت وتقول إنها أخطأت، لكن هذا غير صحيح. لقد وضعت خاتم زواجها في الدرج، وهناك خادمة رأت الآنسة إليوت تخرج والخاتم في يدها.”
“هانا، لا تتحدثي هكذا. ليديا أخطأت فحسب. إنها صديقتي.”
وبنبرةٍ لينةٍ، وبّختها سيريت.
“آنستي طيبة أكثر مما يجب، حتى أن السيدة أوكسينبري قلقة عليكِ.”
أضافت هانا لتكمل المشهد.
لاحظت هانا أن مدام بارن تميل بجسدها إلى الخلف لتسمع أفضل.
ثم قالت إيف وهي تتلعثم.
“يا للعجب… لم أتخيل أن… ابنة أسرة إليوت… يمكن أن تفعل شيئًا كهذا…”
كانت جملها غير مترابطة لدرجة أن سيريت كادت تنفجر ضاحكة، فعضت على شفتها لتتظاهر بالحزن.
“صحيح أن الأمر يزعجني، لأن ليديا كانت حب يوان الأول، لكن ذلك ماضٍ، ولن أفكر فيه أكثر من اللازم.”
قالت سيريت بنبرة حزينة، فقالت هانا بقلقٍ تمثيليّ.
“آنستي، لا تبكي.”
قالت هانا وهي تنظر إلى سيريت بوجهٍ قَلِق.
هاه؟ أبكي؟ أنا أبكي؟
عند كلام هانا، أصدرت سيريت صوت “اهييي، اهيي” وهي تغطي وجهها بيديها.
“ سيريت. لا تـ…بـكيـيي.”
قالت إيف.
لم يكن أسلوب كلامها غريبًا فحسب، بل خرج صوتها عن النغمة أيضًا، فلم تستطع سيريت أن تمنع نفسها من الضحك.
غطّت وجهها بكلتا يديها محاولةً كبح ضحكتها، فبدت وكأنها تبكي حقًا.
“لا بأس يا آنستي…”
قالت هانا بصوتٍ حزينٍ وهي تواسيها.
نهضت مدام بارن بوجهٍ يوشك أن ينفجر من الفضول.
وبينما تجمع أغراضها وحقيبتها ببطء، كانت تراقب سيريت بطرف عينها.
واصلت سيريت تمثيل الحزن وهي تشعر بنظرات مدام بارن.
وحين غادر جميع مرافقيها،
همست هانا بصوتٍ منخفض: “آنستي! لقد خرجوا جميعًا.”
عندها أنزلت سيريت يديها، ضحكت بصوتٍ عالٍ.
“إيف، تمثيلك كان مبالغًا فيه جدًا.”
قالت سيريت وهي تمسح دموع الضحك التي تجمعت في عينيها.
“هذه أول مرة لي في مثل هذا.”
قالت إيف وهي تبتسم بتوتر.
“آنسة إيف، كان الأمر مبالغًا فيه جدًا. لم تندمجي مع المشاعر أبدًا.”
قالت هانا بوجهٍ حزين.
“آسفة، هانا.”
قالت إيف بوجهٍ يملؤه الاعتذار.
نظرت سيريت إليهما وارتسمت ابتسامة على شفتيها.
الآن بعد أن وصلت إلى أذن مدام بارن، فانتشار الإشاعة مسألة وقت فقط.
***
جلس ريغان ممسكًا سيجارة ينظر إلى أوراق اللعب بوجه متجهم. يبدو أنه خسر مجددًا. كيف يخسر كل مرة هكذا؟
“هل سمعت الخبر؟”
قالها فيكونت تشيسترفيلد وهو يجلس بجانبه. كان وجهه متحمسًا كعادته حين يأتي بشائعة جديدة.
“وماذا هناك هذه المرة؟”
قال ريغان وهو يطفئ سيجاره.
“لا أدري إن كان عليّ أن أقول هذا بحضور سموّ الدوق الأكبر.”
“ومنذ متى تراعي حضوري؟ الشخص الوحيد الذي تراعيه هو يوان.”
ابتسم الفيكونت قائلًا.
“ومن لا يراعي دوق فريكتويستر؟ على كل حال… اسمع الخبر.”
“تحدث بسرعة ولا تماطل.”
“زهرة المجتمع ارتكبت فضيحة كبيرة.”
“ليديا؟” قال ريغان بقلق.
أومأ الفيكونت، ثم بدأ يروي القصة بسرعة. لم يصدق أحد حول الطاولة ما قاله، فليديا التي يعرفونها لم تكن لتفعل أمرًا كهذا.
“من أين سمعت هذا؟”
“في مضمار السباق. قال السيد هانس إن الآنسة إليوت سرقت خاتم زفاف الدوقة المستقبلية.”
وقف ريغان فورًا من مقعده.
“إلى أين؟ هل ستقابلها؟ خذني معك.”
قال الفيكونت وهو يمسك بذراعه.
أراد أن يسمع القصة كاملة من فم ليديا، فشعر أنه لن يصدقها ما لم يسمعها بنفسه.
كانت القصة لا تُصدّق إلى هذا الحد.
حرّر ريغان ذراعه من قبضة الفيكونت وغادر المكان مسرعًا.
أن تلمس ليديا خاتم الزواج؟
لم يستطع ريغان الجلوس ساكنًا من القلق.
كان قلقًا على ليديا، لأنه يعرف كم هو أعمى حبها ليوان.
كما شغلت تفكيره سيريت، خطيبة الدوق التي مرّت بالأمر نفسه.
توجّه ريغان مباشرة إلى القصر الإمبراطوري.
***
كانت ليديا في غرفة الشاي حين وصل ريغان، وكان وجهها أحمر من الغضب والارتباك.
يبدو أن الشائعة التي انتشرت في المجتمع قد وصلت إلى أذنيها أيضًا.
لذلك استطاع ريغان أن يسألها مباشرة.
“ليديا، هل صحيح أنكِ لمستِ خاتم زواجهما؟”
“أخي ريغان!”
صرخت ليديا، وعيناها تلمعان بالدموع.
“أردت فقط أن أتحقق، فلا داعي لأن تصرخي هكذا.”
قال ريغان بوجهٍ متصلب.
“كلا، أنت لا تصدقني، أليس كذلك؟ سيريت هي من لفقت لي التهمة.”
“آنسة إينوهاتر لا سبب لديها لتفعل ذلك.”
“سيريت تغار مني. إنها تكرهني لأنني كنت حب يوان الأول. ريغان، لا أريد أن تكرهني سيريت. أريد أن أكون على علاقة طيبة معها، فهي ستكون زوجة يوان.”
“ليديا، أرجوكِ. يوان ليس لعبتك. إنه ليس شخصًا يمكنك الحصول عليه بالبكاء أو بالإصرار.”
قال ريغان بنبرةٍ مهدئة.
لولا مسألة يوان، لكانت ليديا فتاة كالملاك.
لكن عندما يتعلق الأمر بيوان، لا تتنازل قيد أنملة.
منذ طفولتها كانت تؤمن أن يوان ملكها، لذلك كان زواجه من امرأة أخرى صدمةً كبيرة لها.
لم يكن ريغان عاجزًا عن فهم مشاعرها، لكنه كان يظن أن الوقت سيجعلها تستسلم، غير أن رغبتها ازدادت يومًا بعد يوم، وذلك ما كان يقلقه.
كانت فتاة لن تعرف السعادة إلا بامتلاك يوان، ولهذا وجد ريغان نفسه يلوم يوان.
لو أنه تزوج ليديا، لارتاح الجميع — ليديا، وسيريت أيضًا.
قطبت ليديا حاجبيها قليلًا، إذ لم تعجبها نظرة ريغان.
كانت تلك النظرة تنضح بالشفقة.
“أخي، لماذا تنظر إليّ بهذه الطريقة؟”
“ليديا.”
“أتظن أنني مجنونة؟ لأن جدتي من جهة أمي كانت مصابة بالجنون؟ أتظن أنني مثلها؟”
“لم أفكر بذلك قط. أنا فقط… قلق عليك.”
“لا داعي للقلق، يا أخي. في النهاية، سأكون بجانب يوان.”
ابتسمت ليديا ابتسامة مشرقة،
لكن ريغان رأى بوضوح الشر يلمع في عينيها.
ما الذي يمكن فعله بهذه الفتاة؟
شعر ريغان بصداعٍ ينبض في رأسه، ولم يقل شيئًا آخر.
نهض وغادر غرفة الشاي.
وبينما كان يسير ببطء في أروقة القصر الإمبراطوري، مرت قطة تمشي بخطى هادئة أمامه.
توقف ريغان حين رآها.
فجأة تذكّر القطة التي رآها ذات مرة ميتة بصورةٍ مروعة.
كانت تلك القطة مولعة بيوان على نحوٍ خاص.
ارتعد جسد ريغان وهو يتذكرها.
كان يعرف تمامًا من الذي قتلها، ولماذا.
قطةٌ ماتت فقط لأنها كانت بجانب يوان.
وسيريت إينوهاتر—المرأة التي ستقف إلى جانبه.
تخيّل ريغان وجه سيريت المشرق وهي تبتسم،
فشحب وجهه المتجمد حتى صار بلا لون.
يتبع^^
ترجمة نينا @justninaae
التعليقات لهذا الفصل " 43"