قراءة ممتعة~~~
الفصل الحادي والعشرين.
“لقد كشفتني.”
تفوه يُوان بهذه الكلمات وهو ينظر إلى سيريت بتعبيرٍ ملتفٍّ بين السخرية والاعتراف.
“هاه…”
ما إن سمعت صوته حتى شعرت سيريت بقلبها يهوي في صدرها كحجرٍ ثقيل.
ارتجفت عيناها، وقد أدركت أخيرًا حقيقة وجهه الحقيقي الذي طالما حاولت إنكارها.
عند رؤيته على طبيعته، خطت خطوةً إلى الخلف، والغضب يمتزج بعينيها بالدموع التي بالكاد كبحَتها.
لقد سمعت الاعتراف من فمه هو — الكلمات التي لطالما راودها الشك فيها،
لكن سماعها منه مباشرة كان أشدّ وطأةً من كل ظنونها السابقة.
شعورٌ صاعق اجتاحها، فاهتزّ جسدها من شدّة الصدمة حتى كادت تسقط.
“يا آنسة…”
مدّ يُوان ذراعه سريعًا وأحاط خصرها، مانعًا إياها من السقوط.
وفي اللحظة التالية، هبّت رائحته إليها — تلك الرائحة التي كانت ذات يومٍ مألوفةً وعزيزة على قلبها،
رائحة غابةٍ في فجرٍ نديّ، عبيرٌ كانت تحبّه بجنون…
أما الآن، فقد غدت كريهةً لا تُطاق.
“أيها الوغد! إذًا كنتَ تنوي استخدامي منذ البداية؟!”
صرخت وهي تدفعه وتضربه بقبضتيها، وقد تفجّرت الدموع من عينيها تسيل على خديها دون توقف.
لكن مهما دفعت أو ضربت، لم يُفلتها من ذراعيه.
“كيف استطعت؟! كيف؟! أأنتَ بشرٌ حقًّا؟!”
انفجرت باكية، فاضت مرارتها القديمة التي ظلت مكمّمة في صدرها منذ زمن.
لحظة موتها الأولى عادت لتشتعل في ذهنها، حين تجرّعت السُمّ ولفظت أنفاسها الأخيرة وهي تلعنه في قلبها.
ذلك الغضب، الذي لم يهدأ حتى بعد الموت، انفجر الآن بكلّ ما فيه من وجعٍ وقهر.
“سيريت؟”
بدت الدهشة على وجه يُوان للحظةٍ وجيزة، ثم ما لبث أن أطلق ضحكة قصيرة، ساخرة، مفعمة بالغرور.
ثم ضمّها إليه بقوةٍ أكبر، وكأنّه يسخر حتى من غضبها.
“اتركني! دعني وشأني!”
تأججت في داخلها مشاعر الاشمئزاز والكراهية لرجلٍ دهس حياتها بلا رحمة،
لكنّ ضحكة منخفضة خرجت من بين شفتيه، ثم رفع يده بلطفٍ مريب وربّت على رأسها.
كانت لمسته رقيقة، متناقضة مع فعله، كأنّه يُهدّئ طفلاً باكيًا.
ويا لسخريّة القدر،
فقد وجدت سيريت نفسها — رغم كلّ ما في قلبها من غضب — تشعر بشيءٍ من السكون داخل أحضانه.
احتقرت ضعفها، وكرهت نفسها لأنها هدأت للحظةٍ واحدة في صدر عدوّها.
لكنّ دفء جسده ولمسته الهادئة هدّآ من اضطرابها الجارف دون أن تدري.
“لا أعلم أيّ رواية رخيصة قرأتِها مؤخرًا يا آنسة إينوهاتير ولكن يبدو أنكِ خلطتِ الخيال بالواقع.”
قالها وهو يمسك بكتفيها ويدفعها برفق بعيدًا عنه، محافظًا على ابتسامةٍ هادئةٍ خاليةٍ من الملامح.
“ماذا قلت؟”
تشنج وجهها، غير مصدقة لما سمعت.
“أدرك أن لآنسة إينوهاتير خيالاً واسعًا.”
“أتسخر منّي؟! أتعامل ما مررتُ به كأوهامٍ؟!”
لم تستطع متابعة الكلام، فعضّت شفتيها بقهر.
إذًا، لم يكن يعترف… بل كان يستهزئ بها!
كيف لا؟ لم يكن يُوان فريكتويستر ليُقرّ بخطئه أبدًا،
فكلمة واحدة منه كفيلة بتدمير خطّته والإطاحة بسمعة أسرته العريقة.
كان أسهل عليه أن يصوّرها كمجنونةٍ تتوهّم الأكاذيب.
“كلمة أوهام قاسية بعض الشيء… فلنسمّه خيالًا.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ ناعمة، خبيثة كحدّ السيف.
“إذن، هذه هي طريقتك في النجاة.”
قالتها سيريت بنبرةٍ مكسورةٍ تحمل في طيّاتها سخريةً مريرة.
فـ يُوان فريكتويستر لم يكن ليتخلى عن حذره أبداً.
قبضت على أطراف ثوبها بقوةٍ حتى تجعّد القماش بين أصابعها،
كما لو أنها تُمسك بقلبها الممزّق نفسه.
“لمَ لا تجرّبين كتابة الروايات؟ أظن أنكِ ستبرعين فيها.”
قالها وهو يمدّ إصبعه ليمسح دمعةً سقطت على خدّها.
“تُهينني حتى النهاية.”
دفعت يده بقسوة واستدارت مبتعدة عنه دون أن تنظر إليه ثانية.
***
عادت سيريت إلى غرفتها بخطواتٍ مسرعة، فتحت خزانتها وسحبت حقيبة السفر،
وبدأت تضع ثيابها داخلها بعنفٍ وغضبٍ واضح.
“إنه ليس بشرًا! لا يمكن لإنسانٍ أن يكون بهذه القسوة!”
حتى الشيطان ربما يكون أرحم من هذا الرجل.
كيف استطاع أن يقول ما قال دون أن يرفّ له جفن؟
“لقد كشفتُ خطّته كاملة، ومع ذلك يجرؤ على السخرية!”
توقفت عن الحزم، وضعت يديها على خصرها، وأخذت نفسًا حادًّا لتهدّئ من انفعالها.
الهرب منه هو الخيار الوحيد.
فلا حوار يمكن أن يُصلح ما انكسر، ولا كلماتٍ تكفي لرجلٍ بلا ضمير.
قرّرت أن تُثبت له بالفعل لا بالقول.
ستعود إلى منزلها، وتقنع والدها بإرسال رسالة فسخ الخطوبة إلى دوق القصر،
كما ستكتب بنفسها إلى وليّ العهد والأميرة لتخبرهما بانتهاء الخطوبة،
وأنّ وسام الإمبراطور لم يعد ضروريًا.
لكنها فكّرت فجأة:
“لا، إن أرسلت الرسالة من موشيلي فستصل إلى القصر متأخرة جدًا.”
جلست إلى طاولة الزينة تبحث عن ورقٍ وقلمٍ لتكتب بنفسها.
في تلك اللحظة، فُتح الباب ودخلت خادمتها هانا مسرعة.
“عدتِ أخيرًا يا آنستي! كيف كانت حديقة الإمبراطور؟ هل هو جميل كما يقولون؟”
لكن عينيها سرعان ما انتقلتا إلى حقيبة السفر المفتوحة فوق السرير،
فتبدّل فضولها إلى حيرة.
“هانا، جهّزي الأمتعة. سنغادر اليوم. وأحضري ورق رسائل أيضًا.”
“اليوم؟ لكننا كنا سنغادر غدًا!”
“تغيّر الموعد. يجب أن أعود إلى المنزل بأسرع وقت.”
“حالًا يا آنستي.”
خرجت هانا على عجل، بينما تابعت سيريت ترتيب حقائبها بنفسها.
وحين عادت الخادمة ومعها الورق، جلست سيريت إلى المرآة وبدأت الكتابة بخطٍّ سريعٍ وواثق.
كتبت إلى والدها تطلب فسخ الخطوبة من يُوان فريكتويستر،
وأعربت عن أسفها لأنها لن تنال وسام الإمبراطور،
وختمت رسالتها بعبارات شكرٍ مهذبةٍ تُمجّد وليّ العهد والأميرة،
مؤكدة أن لقاءهما كان ذكرى لا تُنسى.
نفخت على الحبر لتجفّ الرسالة،
وبينما كانت هانا تنهي تجهيز الحقائب، قالت بلطف؛
“انتهيت يا آنستي.”
“جيد. احملي الحقيبة، وجهّزي أمتعتك أنتِ أيضًا.”
خرجت هانا مجددًا، بينما طوت سيريت الرسالة بعناية،
وأغلقت الظرف بالشمع الأحمر، ثم ختمته بخاتم عائلة فويكتويتسر.
بهذا الشكل، ستصل الرسالة حتمًا إلى وليّ العهد والأميرة.
دخلت هانا ثانية وهي تحمل حقيبتها.
“هل أُسلّم الرسالة لأحد الخدم؟”
“لا.”
قالت سيريلِت بصرامة.
“لن أوثق هذه الرسالة لخدم هذا القصر.”
لو عهدت بها إلى خادمٍ من آل فريكتويتسر، لوصلت إلى يدي يوان.
وإن اطّلع على مضمونها، لن تصل أبداً إلى وليّ العهد وزوجته.
“إذن، ماذا ستفعلين بها؟”
“سأسلّمها بنفسي إلى مكتب البريد الإمبراطوري. هيا، إن كنتِ جاهزة.”
“أجل يا آنستي.”
نزلتا معًا إلى البهو، وهانا تبدو متوترة.
“ألن نودّع الدوق؟”
“لا داعي لذلك.”
“لكن الرحيل دون وداعٍ يُعدّ تصرّفًا فظًا، وقد يقلق إن لم يجدنا.”
تابعت هانا التذمّر وهي تسرع خلف سيريت.
“علاقتنا ليست من ذلك النوع الذي يتبادل فيه المرء المجاملات.”
قالت سيريت ببرودٍ وهي تتابع سيرها السريع نحو السلالم.
“إلى أين تذهبين يا آنسة؟”
ناداها السائق وهي تتجه إلى البوابة.
“سأرافقكِ.”
توقّفت للحظة، أخذت نفسًا خفيفًا ثم قالت بابتسامةٍ مصطنعة؛
“نزهة قصيرة فحسب، فلا تكلف نفسك.”
لكن عيني السائق انتقلتا نحو الأمتعة في يد هانا.
لا أحد يخرج في نزهة وهو يحمل حقائب سفر؛ فكان من الطبيعي أن تساوره الريبة.
تدخّلت هانا بسرعة وقالت بضحكةٍ متكلّفة:
“خرجنا لنتخلّص من هذه الحقائب القديمة، لا أكثر. يا سيد بِيت.”
“إن الدوق على علمٍ بخروجي، فلا تقلق.”
ابتسمت سيريلِت بابتسامةٍ أنيقة ثم أدارت ظهرها للسائق.
بينما تابعت سيريت طريقها نحو البوابة بقلبٍ يخفق بعنف،
تحاول إقناع نفسها بأنها لا ترتكب أي خطأ،
كل ما في الأمر أنها ستعود إلى بيتها قبل الموعد بيوم، دون وداع.
“لقد كدت أموت رعبًا يا آنستي.”
همست هانا وهي تلهث بخوف.
“اهدئي، نحن لا نفعل شيئًا خاطئًا.”
قالت سيريت بوجهٍ هادئٍ ظاهريًا، تخفي وراءه ارتجاف قلبها.
وحين تجاوزتا البوابة وتنفّستا نسيم الحرية…
سمعت صوتًا مألوفًا خلفها.
“سيريت.”
“جيريمي؟!”
اتسعت عيناها دهشةً وهي ترى الشاب الواقف عند المدخل.
جيريمي إينوهاتير — شقيقها الأكبر، وريث العائلة.
لكن كيف؟ ألم يكن في الخارج للدراسة؟ لم يكن موعد عودته قد حان بعد!
بدت الصدمة على وجهه، ثم، بشكلٍ غريب، استدار فجأة وبدأ بالركض مبتعدًا عنها.
“جيريمي! أخي!”
صرخت سيريت وانطلقت خلفه، بينما نادت هانا مذعورة:
“يا آنستي! يا سيدي!”
ركضت الخادمة خلفهما قدر استطاعتها، لكنها لم تلحق بهما.
توقّف جيريمي أخيرًا بعدما كاد يصطدم بأحد المارة،
فأمسكت سيريت بذراعه بسرعة كي لا يهرب من جديد.
“جيريمي، لماذا تركض؟ ومتى عدت إلى إيرون؟!”
رفع رأسه نحوها، وعيناه تلمعان بالدموع.
قال بصوتٍ مبحوحٍ بين شهقات البكاء؛
“سيريت… سيريت…”
تجمّدت في مكانها، وقلبها يغرق في غموضٍ وقلقٍ عميق.
لماذا يبكي؟
يتبع في الفصل القادم^^
ترجمة نينا @justninaae
التعليقات لهذا الفصل " 21"