قراءة ممتعة~~~
الفصل السادس عشر
جعلت ملامح ريغان الحائرة سيريت تُدرك خطأها.
فعلى عكسها هي، التي عادت بالزمن، كان ريغان يلتقي سيريت إينوهاتر للمرة الأولى اليوم.
لم يكن ينبغي لها أن تتحدث معه وكأنها تعرفه منذ زمن طويل.
“انزلقت كلماتي دون قصد. سمعت أنك لست مخطوبًا، لكن… أليس لديك أي شخص في قلبك؟” غيّرت سيريت الموضوع بخفة.
“لا، ليس بعد.” أجاب ريغان بابتسامة لطيفة.
كانت نظرته نحو سيريت دافئة، تمامًا كما كانت في حياتها السابقة.
“ الدوق الأكبر طيب للغاية. أنت حقًا شخص جيد.”
“أنا رجل طيب فعلًا.” أجاب ريغان بثقة.
اكتفت سيريت بابتسامة خفيفة.
كان كما قال — رجلًا طيب القلب، بخلاف يوان.
لم يمض وقت طويل حتى توقفت العربة أمام قصر دوق فريكتويستر.
نظر ريغان من النافذة وتحدث بنبرة فيها شيء من الأسف.
“إنه قريب جدًا. قريب لدرجة تجعلني أتساءل إن كان دائمًا بهذا القرب.”
“بفضلك، وصلتُ براحة تامة.” شكرت سيريت ريغان بابتسامة مهذبة.
فُتح باب العربة، ونزل ريغان أولًا، ثم مدّ يده نحو سيريت.
أمسكت سيريت بيده، ونزلت من العربة، ثم انحنت احترامًا.
“عودي إلى الداخل بسلام، آنسة إينوهاتر.”
“رحلة آمنة، يا صاحب السمو الدوق الأكبر.”
استدارت سيريت عن ريغان مبتسمة.
وأخيرًا، انتهى الحفل الإمبراطوري.
زفرت سيريت تنهيدة هادئة من الارتياح.
كل ما تبقى الآن هو العودة إلى المنزل.
لقد اقترب الوقت الذي ستعيش فيه حياة منفصلة عن يوان.
***
داخل العربة العائدة إلى القصر الإمبراطوري،
كان ريغان غارقًا في التفكير.
إن عرضه مرافقة سيريت إلى منزلها كان تصرفًا عفويًا بحتًا.
عادةً، كان عليه أن يُخبر خطيبها، يوان.
لكنه لم يفعل، وها هو الآن قد ركب العربة معها حتى قصر فريكتويستر.
“سيقتلني يوان إن علم بالأمر.”
ضحك ريغان بخفة.
لم يفهم هو نفسه ما الذي دفعه لذلك السلوك.
حاول إقناع نفسه بأنه فقط كان فضوليًا ليرى كيف سيتفاعل يوان.
وتعمّد ألا يبحث أعمق في مشاعره الأخرى،
فحدسه أخبره أنه لا ينبغي له أن يفعل.
بعد لحظات، وصلت العربة إلى القصر الإمبراطوري.
نزل ريغان منها وتوجّه نحو قاعة الحفل.
وكالعادة كان يوان محاطًا بالناس.
كان الجميع يتهافتون لكسب ودّ دوق فريكتويستر.
وأحيانًا كان يبدو وكأن منزل فريكتويستر يمتلك نفوذًا يفوق حتى العائلة الإمبراطورية.
إن تراجع سلطة الملوك والنبلاء لم يكن أمرًا يخص إمبراطورية آيلون وحدها.
لقد كانت حقبة يظهر فيها نبلاء أقوى من العائلة الملكية،
وطبقة وسطى جديدة تمتلك رأس مال يفوق أرستقراطية البلاط،
عصرٌ كانت البُنى القديمة فيه تتداعى ببطء.
ومع ذلك، حتى لو انهار كل شيء،
فإن منزل فريكتويستر، بقيادة يوان، سيظل يلمع بلا شك.
بشعور ثقيل بالهزيمة، تقدّم ريغان نحو يوان بوجهٍ متعب.
“دوق فريكتويستر.”
تنحّى الحاضرون سريعًا عند رؤية ريغان يقترب.
“هل نتحادث قليلًا؟”
“نعم، يا صاحب السمو الدوق الأكبر.” أجاب يوان بوجه مرهق.
خرج ريغان من القاعة متوجهًا إلى الحديقة الخلفية الهادئة،
ولحقه يوان بصمت، ثم قال بنبرة غير راضية:
“هل رأيت خطيبتي صدفةً؟”
تجمّد ريغان عند سؤاله.
حدة صوت يوان جعلته يشعر كأنه ارتكب خطيئة جسيمة بحقه.
ابتسم ريغان ابتسامة محرجة وهو يلتفت إليه.
لم يكن يرى ملامح وجه يوان بوضوح في الظل،
لكن الهالة الباردة التي تنبعث منه جعلت حلقه يجف فجأة.
“كنت أود سؤالك… ما الذي حدث لجبهتك؟” حاول ريغان تغيير الموضوع.
“لا أجد الآنسة إينوهاتر. ليست في الردهة كذلك.” قال يوان دون أن يجيب على السؤال.
“آه، حسنًا… في الواقع…”
“أحقًا لم ترها؟”
كان يوان، دائمًا، دقيقًا في تعامله مع ريغان،
يخاطبه رسميًا بـ«يا صاحب السمو الدوق الأكبر».
لكن الآن تغيّر صوته، وصار يحمل نفاد صبرٍ خفي.
كانت عيناه، وهو ينظر إلى ريغان وذراعاه متشابكتان، حادتين كالنصل.
وخوفًا من أن يُوبَّخ بشدّة إن استمر في المماطلة، أجاب ريغان سريعًا:
“لقد عادت إلى قصر الدوق.”
“ماذا؟”
“قالت الآنسة إينوهاتر إنها لا تشعر بأنها بخير، فأوصلتها بنفسي ولقد عدت للتو.”
بمجرد أن أنهى كلامه، شعر ريغان بقشعريرة تسري في جسده.
ظل يوان صامتًا، شفتيه منطبقتين بإحكام،
لكن الهالة المنبعثة منه كانت كافية لجعل ريغان يشعر بالضآلة.
“عادت إذًا… دون أن تخبر أحدًا.”
صوته حين كسر الصمت كان كالجليد.
“لقد حاولت أن تقول شيئًا، لكن الآنسة إينوهاتر قالت إنها لا تريد أن تزعجك. إنها مراعية للغاية… نعم، مراعية جدًا.”
كان ريغان يتحدث وهو يراقب ردة فعل يوان، غير مدرك تمامًا لما يقوله من ارتباكه.
“يا صاحب السمو الدوق الأكبر، أظن أن عليّ العودة الآن.”
انحنى يوان بأدب واستدار مبتعدًا عن ريغان.
وكانت استدارة ظهره تبعث في النفس برودةً تكفي لتجميد الدماء.
تلك كانت غضبًا صامتًا بكل وضوح.
تساءل ريغان بقلق:
هل سيفرغ يوان ذلك الغضب على الآنسة إينوهاتر؟
وبينما الفكرة تتكوّن في ذهنه، التفت يوان فجأة نحوه.
“آه… عُد بسلام!” قال ريغان متلعثمًا بابتسامة متوترة.
تقدّم يوان نحوه بخطى ثابتة،
فابتلع ريغان ريقه توترًا.
“لم أشكرك على مرافقة خطيبتي إلى المنزل.”
“لا داعي بيننا لذلك.”
“أشكرك يا صاحب السمو الدوق الأكبر بوبلارويل، لكن إن حدث أمر كهذا مرة أخرى، أرجو أن تُعلمني أولًا، لأن سيريت هي خطيبتي.”
انحنى يوان رسميًا ثم استدار مغادرًا.
ولم يتنفس ريغان الصعداء إلا بعد أن ابتعد يوان تمامًا.
كان رجلًا يبعث في الآخرين رهبةً طبيعية،
لكن حين يتعمّد إظهارها، تصبح خانقة بحق.
“هاها…” ضحك ريغان ضحكة باهتة.
مهما نظر إليه، فإن يوان فريكتويستر رجل استثنائي.
ومع ذلك، أن يُوجّه تحذيرًا صريحًا إلى دوقٍ أكبر… أمر نادر.
شعر ريغان بأن قواه قد خارت بسبب يوان،
الذي حذّره بأدب ألا يتدخل بخطيبته، ثم مضى.
ابتسم ريغان بمرارة وبدأ بالسير نحو القاعة.
منطقيًا، كان عليه بعد ذلك التحذير أن يكفّ عن الاهتمام بالآنسة إينوهاتر،
لكن لسببٍ ما، ازداد فضوله نحوها أكثر.
“هذا سيئ فعلًا.” تمتم ريغن وهو يمسح جبينه.
لقد بدا أن مشكلةً كبيرة حقًا قد بدأت.
***
عندما ترجل يوان من العربة،
كانت خطواته تحمل مزيجًا من الغضب والمشاعر الجريحة.
لقد كان في مزاج سيئ طوال المساء،
ولم يكن بحاجة إلى كثير من التفكير ليعرف السبب.
سيريت إينوهاتر.
إنها خطيبته التي تطالب بفسخ الخطوبة.
“مرحبًا بعودتك، يا صاحب السمو الدوق.”
قال كبير الخدم عند دخوله إلى البهو.
كانت النظرة القلقة في عينيه تقول بصمت:
“لقد عدت باكرًا على غير عادتك.”
“الآنسة إينوهاتر؟”
“لقد عادت، يا سمو الدوق. ينبغي أن تكون في غرفتها الآن.”
“ماذا عن حالها؟”
“قالت إنها متعبة، لكن لا يبدو أن هناك شيئًا خطيرًا.”
أومأ يوان بإيجاز وصعد الدرج بخطى سريعة.
سيريت إينوهاتر تخلّت عني.
تخلّت عني وذهبت مع ريغان.
التوت زاوية فمه بابتسامة ساخرة.
كان مستاءً للغاية من خطيبته التي تحاول الفرار في كل فرصة.
التوعك كان على الأرجح ذريعة لا أكثر.
فلو كانت مريضة فعلًا، لأخبرتني أنا، لا دوقًا أكبر التقت به اليوم فقط.
دخل يوان غرفته، وألقى بمعطفه على السرير،
ثم مدّ يده إلى ربطة عنقه،
لكن مشاعره كانت تغلي بلا راحة.
نزع ربطة العنق بعنف وتركها تسقط أرضًا،
ثم خرج من الغرفة متجهًا نحو غرفة سيريت.
وقف أمام الباب، تنفس بعمق، وطرق.
لم يأتِ أي رد، كأن الغرفة خالية أو أنها نائمة.
كان على وشك أن يستدير مبتعدًا،
حين رأى سيريت تتقدّم في الممر بثياب منزلية بسيطة.
“صاحب السمو الدوق.” قالت بدهشة خفيفة وهي تقترب منه.
“قلتِ إنك لا تشعرين بتحسن.”
تفحّص يوان وجهها.
لم يبقَ على وجهها أثرٌ من الحفل.
تحولت من باقة زهورٍ فاخرة إلى زنبقةٍ بيضاء ازدهرت عند الفجر،
لكن جمالها لم يتغير.
وهذا ما جعله أكثر غضبًا.
إنها امرأة لا تحتاج أن تكون جميلة دومًا—
بل فقط حين يراها هو.
“لابد أن الدوق الأكبر أخبرك.”
“نعم.”
كان صوتها وهي تذكر ريغان ناعمًا مغريًا.
ارتجف حاجبا يوان انزعاجًا.
“ركبت عربة الدوق الأكبر حتى لا أزعجك، يا سمو الدوق.
هل عدت مبكرًا من أجلي؟”
رغم أنها لم تقلها صراحة،
إلا أن نظرتها كانت تقول إنه لا داعي لأن يفعل ذلك.
إنها تتلقى لطف دوقٍ أكبر عرفته اليوم بارتياح،
لكنها تضع حدودًا صارمة مع خطيبها.
“يبدو أن الآنسة إينوهاتر أكثر براعة اجتماعية مما كنت أظن.”
سخر يوان بمرارة.
كان غاضبًا من خطيبةٍ تهرب منه عند كل فرصة،
بينما تتقبل بسهولة مجاملة رجلٍ آخر.
كان يجب أن تعتمد عليّ،
أن تطلب مساعدتي،
أن تتوسل إليّ — لا إلى رجلٍ آخر.
سيريت إينوهاتر، بالطبع، كان عليها أن تفعل ذلك.
ابتسم يوان بسخرية جانبية.
“هل تفاجأتَ لأنني لست تلك الحمقاء التي بلا ذوق أو لباقة كما يقال؟” قالت سيريت بابتسامة مشرقة.
“رغم ذلك يبدو أنكِ لا تملكين حسًّا بما يدور حولك.”
“…”
توقفت سيريت عن الابتسام، وحدّقت فيه مطولًا.
ولوهلة، تبادل الاثنان نظرات صامتة.
“نعم، يبدو أنني لا أفعل. لذلك قبلتُ عرض زواجك.”
“أتعنين أنك تندمين على ذلك؟”
“أطالب بفسخ الخطوبة لأنني أندم عليها، أليس هذا واضحًا؟”
“تصرّين على أنك لست حمقاء، لكنني أظنك كذلك.”
“ماذا قلت؟” اشتعل الغضب في صوت سيريت.
“لهذا السبب ما زلتِ تكررين موضوع فسخ الخطوبة.”
كان يوان مذهولًا من قدرتها على الإصرار على ذلك الطلب دون ملل،
مع أنه يعلم أنها لن تنجح أبدًا.
كاد أن يصفق لسذاجتها.
“أظن أنه عليك البحث عن امرأة أكثر سذاجة… لا،
فلتتزوج من تحب.
فقط لا تُدمّر حياة امرأة أخرى.”
قالت سيريت ذلك ببرود، ونظرت إليه بعينين جليديتين.
كانت أحيانًا تنظر إليه بتلك الطريقة —
كما لو كان أكثر ما تكرهه في هذا العالم.
لكنها لم تكن تدرك أن تلك النظرة كانت تثير في الرجل شيئًا بدائيًا دفينًا.
“لا أحد سيظن أن حياته ستتدمر بزواجه من دوق فريكتويستر.”
“هذا فقط إن لم يعرف الجانب المظلم من قلب يوان فريكتويستر.”
“لو كنتِ قادرة على رؤية ظلام قلبي حقًا، لكنتِ عرفتِ أنكِ لا يجب أن تتصرفي بهذه الطريقة الآن.”
قالها يوان بصوت منخفض،
ثم تقدّم نحوها خطوةً واسعة،
حتى صارا قريبين بما يكفي ليشعرا بأنفاس بعضهما البعض.
يتبع في الفصل القادم^^
تابعوني انستا @ninanachandesu
التعليقات