نظرت ليديا إلى يوان بعينين تلمعان بالبريق. كانت ليديا التي تبتسم بسطوع تبدو في غاية السعادة.
قطّب يوان حاجبيه قليلًا وهو ينظر إلى ليديا المقيدة. وكأن ما حدث بالأمس قد مُحي تمامًا من ذاكرتها.
“هل سنذهب في نزهة؟ أنا متحمسة جدًا يا يوان!”
ثرثرت ليديا بصوت مفعم بالحماس.
لم يردّ يوان على كلامها مطلقًا، واكتفى بفتح باب العربة. نظرت إليه ليديا وكأنها تطلب أن يمسك بيدها.
هزّ يوان رأسه نافيًا، فتغيّر تعبير ليديا إلى الحزن. ثم كأنها أدركت أنها مقيّدة، فارتسم على وجهها الذهول واغرورقت عيناها بالدموع.
“يوان، لماذا أنا مقيّدة؟ فكّ هذا. أرجوك فكّه!”
صرخت ليديا وهي تتلوّى محاولة فك الحبال.
نظر يوان إلى ديريك وأومأ له برأسه وكأنه يأمره أن يتولى الأمر، ثم اتجه إلى العربة الواقفة في الخلف.
وقبل أن يصعد إلى العربة، ألقى نظرة على القصر. فظهر في النافذة مشهد سيريت وهي تحمل هنري.
قبّلت سيريت جبين هنري ولوّحت بيدها كمن تودّعه متمنية له رحلة موفقة.
بادلها يوان الإيماءة ذاتها بابتسامة هادئة.
سأعود.
قال يوان في نفسه، ثم صعد إلى العربة.
***
دخل هندرسون قاعة المثول بوجهٍ مذهول. وعندما وقف أمام يوان بخطوات متعجلة، ألقى نظرة على ليديا وأنيتا.
“كيف حدث هذا فجأة؟”
“يا صاحب الجلالة! هذا تلفيق! هذا تلفيق من الدوقة! الدوقة هي من دسّت لي السم! حاولت اغتيالي، أنا التي من العائلة الإمبراطورية!”
صرخت ليديا وهي تنظر إلى هندرسون بعد أن استعادت وعيها فور وصولها إلى القصر الإمبراطوري.
هذا كله مؤامرة من سيريت، وسيريت هي من خدعت يوان وفرّقت بيني وبينه.
عندما نظر هندرسون إلى يوان بوجه مرتبك، فتح يوان فمه بصوت هادئ.
“إنها المذنبة التي سمّمت الخادمة ولوفي برونك.”
“لوفي برونك أيضًا؟”
فتح هندرسون فمه على اتساعه دهشةً.
كان يظن أن القضية متعلقة بالخادمة فقط، فإذا بالأمر يصل حتى إلى زوجها أيضًا. فنظر هندرسون إلى ليديا بوجه مذهول.
“لا! كل هذا كذب! لم أفعل شيئًا من هذا يا يوان!”
صرخت ليديا وهي تهز رأسها بجنون.
عقد هندرسون حاجبيه بامتعاض. أيُعقل أن تكون هذه من سلالة العائلة الإمبراطورية؟
وهو يفكّر بأنها تلطّخ سمعة الإمبراطورية حقًا، نقر لسانه بضيق.
واصل يوان حديثه بنبرة هادئة رغم صراخ ليديا المستمر.
“كما حاولت أيضًا تسميم زوجتي لكنها فشلت، فأصبح الأمر محاولة قتل.”
“الدوقة؟ ولكنها في حادثة السفينة…”
قال هندرسون ذلك متمتمًا بوجه متحيّر، ثم ترك كلامه معلّقًا.
بسبب تلك الحادثة، كان يوان قد أوقف مؤقتًا جميع الأمور المتعلقة بليديا وإمرات، وهو ما جعل هندرسون يعاني صداعًا حقيقيًا طوال تلك الفترة.
“كانت على قيد الحياة.”
“أحقًّا؟ هذا خبر مفرح للغاية.”
أبدى هندرسون سعادة كبيرة حين علم أن الدوقة ما زالت حيّة. فمنذ سماع كريستين بالخبر، وهي لا تكفّ عن الحزن عليها، وكان ذلك يقلق هندرسون أيضًا.
“أمسكنا بليديا متلبّسة وهي تحاول تسميم زوجتي الدوقة بعد عودتها إلى القصر. وأيضًا حصلنا عبر الخادمة على اعتراف كامل بجميع الجرائم التي ارتكبتها ليديا إليوت حتى الآن.”
شرح يوان الوقائع ببرود.
عقد هندرسون حاجبيه وهو يهز رأسه بأسى.
يا لهول ما ارتكبت… كم عدد الضحايا بعد؟
ثم نظر إلى ليديا بوجه قاتم وصرخ فيها.
“أنتِ فعلًا ميؤوس منك! أنتِ عارٌ على العائلة الإمبراطورية، عارٌ حقيقي!”
“هذا افتراء! كله افتراء!”
صاحت ليديا وهي ترتجف غاضبة.
“ألم تعترف خادمتكِ بكل شيء؟!”
“أنيتا! كيف تجرؤين على خيانتي؟!”
بعد سماع كلمات هندرسون التفتت ليديا إلى أنيتا الواقفة بجانبها وحدّقت فيها بنظرة نارية.
لو لم يكن جسدها مقيّدًا، لكانت قد صفعَت أنيتا على وجهها. لا، بل إن الصفعة وحدها لم تكن لتكفيها. لكانت قد انقضّت على عنقها تنهشه لتقطع أنفاسها.
لكن أنيتا لم تتجنب نظرات ليديا. بل ظلّت تحدّق فيها بثبات، ثم أطلقت ضحكة ساخرة. لم تعد ليديا مخيفة بالنسبة لها بعد الآن.
إذ لم يبقَ لها سوى الموت. وفي ذلك الوضع، لم تعد نظرات ليديا الغاضبة تعني شيئًا لها.
“سيريت هي من أمركِ بذلك، أليس كذلك؟ أن تقولي إن كل شيء من فعلي! قتل الخادمة وقتل لوفي… كل ذلك من فعل سيريت! ليس أنا، بل سيريت!”
صرخت ليديا وهي تثور بنوبة من الهيجان.
ضرب هندرسون الأرض بقدمه بعنف وحدّق في ليديا بعينين مشتعلتين.
“اخرسي! كيف تجرؤين على أن تُلصقي جرائمك بغيرك؟!”
“جلالتك، أنا بريئة!”
راحت ليديا تتلوّى وهي تصرخ بعنف، ثم لم تحتمل غيظها فسقطت مغمىً عليها في الحال.
“سأعيد إلى جلالتك سلطة إصدار الحكم التي منحتني إياها. ولن أعترض على أي حكم تصدره.”
كانت سيريت قد طلبت منه ألّا يُصدر أي حكم بحق ليديا. وقد وعدها بذلك، قائلًا إن حكمها سيكون بيدا للقاضي والإمبراطور، وإنهما سيعيشان من الآن فصاعدًا بلا أي صلة بليديا.
“حسنًا. سأعاقبها حتمًا، فلا داعي للقلق.”
“سيقوم مساعدي بتسليمكم جميع الوثائق المتعلقة بالقضية. وإن كان لديك أي سؤال عن الأمر يمكنك مناقشته.”
“عندما ننتهي من العمل، فلنتحدث عن نفط إمرات.”
قال هندرسون ذلك ليوان وهو يميل نحوه هامسًا.
لم يُبدِ يوان أي ردّ خاص، بل أدّى التحية باحترام ثم غادر قاعة المثول.
***
جلس يوان وريغان متقابلين بعد أن وضعا الشاي أمامهما، وبقيا صامتين لبعض الوقت. أخبر يوان ريغان بكل ما جرى خلال تلك الفترة. شعر أنه لا بد أن يخبر ريغان بذلك.
عندما سمع ريغان قصة يوان، أنزل رأسه وأطلق زفرة طويلة.
“ليديا…”
فتح ريغان فمه بعد صمت طويل، لكنه لم يستطع إتمام كلامه.
“رأيت أنه من الواجب إبلاغ سموّ الدوق الأكبر.”
“أن ترتكب مثل هذا الفعل الفظيع… لم تكتفِ بقتل خادمة بريئة، بل حتى زوجها….”
كان ريغان يعتز بليديا كثيرًا بوصفها شقيقته، لذلك أصيب بصدمة شديدة. وما إن تذكّر ما فعلته بسيريت حتى اقشعرّ جسده رعبًا.
وبينما كان ريغان يتألم، تكلّم يوان ببطء.
“كنت أنوي ألّا أسامحك طوال حياتي.”
“…….”
رفع ريغان بصره ونظر إلى يوان.
وبينما كان يفكر في أن غضب يوان منه كان مفهوم بسبب تهريبه لسيريت، إلا أن ريغان شعر بالحزن. فكلٌّ من يوان وليديا كانا صديقين مقرّبين له.
أصدقاؤه الذين قضى معهم طفولته بدا وكأنهم قد ابتعدوا عنه كثيرًا. وكان مؤلمًا للغاية أن حتى استذكار تلك الأيام لم يعد أمرًا مسموحًا به.
رفع يوان طرف فمه قليلًا وتابع كلامه.
“شكرًا لك. لأنك اعتنيت بسيريت جيدًا طوال ذلك الوقت.”
أخبرته سيريت كم أن ريغان كان يسهّل لها أمورها ويرعاها.
وأن قدرتها على العيش بسلام في بلد آخر كانت كلّها بفضل ريغان.
وكذلك لأن ريغان ساعد سيريت على الهرب إلى بلد آخر، استطاع هو أن يستعيد ذكريات حياته السابقة. وبفضل ذلك، انفكّ خيط التشابك الذي ظل معقودًا منذ تلك الحياة.
“وشكرًا لأنك ساعدت في إنقاذ هنري أيضًا.”
مال ريغان برأسه متعجبًا من كلام يوان.
كان يفهم شكره له على رعايته لسيريت، لكن شكره بشأن هنري لم يكن واضحًا له.
لم يكن يستطيع أن يخبره أن هناك حياة سابقة لا يذكرها ريغان. فلو قال ذلك، لنظر إليه كأنه مجنون.
شعر يوان أنه حان وقت النهوض، فوقف من مكانه ببطء. فنهض ريغان بدوره وهو ينظر إليه بنظرة تسأله إن كان سيغادر الأن.
عبر الاثنان الردهة وخرجا معًا من المدخل. وبينما كان يوان على وشك ركوب العربة، التفت إلى ريغان.
ذلك لأنه تذكّر فجأة ما قاله ريغان في حياته السابقة. أنه إن كانت هناك حياة قادمة، فسيكون هو من يتعرّف إلى سيريت أولًا.
“في الحياة القادمة أيضًا، والتي بعدها كذلك، حتى لو وُلدنا بهيآت مختلفة… فإن سيريت ستكون لي. لذلك لا فائدة. حتى لو كنتَ أنت من تعرّف إليها أولًا.”
“همم؟”
قطّب ريغان جسر أنفه وأمال رأسه باستغراب بعد سماعه كلمات يوان التي لم يستطع فهمها.
عندها ارتفع طرف فم يوان قليلًا. ربما بدت له مجرد هراء، لكن يوان أراد حقًا أن يقولها له.
أن سيريت ستكون له إلى الأبد.
صعد يوان إلى العربة. وقبل أن تتحرك، ودّعه ريغان متمنيًا له طريقًا آمنًا.
وقبل أن يُغلق باب العربة، فتح يوان فمه قائلًا.
“احضر مسابقة الصيد هذا العام.”
“أنت تعلم أنني لا أجيد الصيد.”
هزّ ريغان رأسه نافيًا.
فهو لا يُجيد الصيد فحسب، بل لم يكن يرغب في ارتكاب فعلٍ قاسٍ كقتل الحيوانات اللطيفة من الأساس.
“يجب أن يأتي الأب الروحي ليرى ابنَه.”
“ماذا؟”
عند كلام يوان، رمش ريغان بعينين شاردتين.
وبمجرد أن أُغلق باب العربة، أدرك ريغان أخيرًا معنى كلام يوان. فابتسم ابتسامة مشرقة، وهو يصرخ باتجاه العربة التي بدأت بالتحرك.
“سآتي قبل موعد مسابقة الصيد! لأرى هنري!”
ظلّ ريغان واقفًا في مكانه مبتسمًا حتى اختفت العربة تمامًا عن الأنظار.
قد لا تعود أيام الطفولة أبدًا، لكنه لم يعد يشعر بالوحدة بعد الآن.
***
ابتسمت سيريت، التي كانت تنظر من النافذة حين رأت عربة تقترب من بعيد.
قبّلت سيريت رأس طفلها الذي كانت تحمله وهمست.
“هنري، لقد جاء والدك.”
خرجت سيريت مسرعة من الغرفة وهي تحتضن هنري بوجهٍ متحمّس. وبعد أن عبرت الردهة وخرجت من الباب الأمامي، وقفت عند أسفل الدرج تنتظر يوان.
وبعد قليل توقفت العربة، ونزل منها يوان. وما إن رأى سيريت وهنري واقفين أمامه حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة.
“يوان.”
استقبلته سيريت بوجهٍ يشعّ سعادة.
تقدّم يوان بخطوات واسعة نحو سيريت، قبّل جبينها، ثم حمل هنري بين ذراعيه. وخلال الأيام القليلة التي لم يره فيها، بدا لون هنري أفضل بكثير، كما أنه ازداد وزنًا قليلًا.
قبّل يوان خدّ هنري، ثم احتضن سيريت.
“لقد عدتُ.”
همس يوان في أذن سيريت.
أراحت سيريت رأسها على صدر يوان.
“أهلًا بعودتك.”
“اشتقت إليكِ.”
“وأنا أيضًا.”
ابتسمت سيريت بخفة عند كلامه، ونظرت إليه.
هبطت شفاه يوان على جبينها وأنفها وخدّيها على التوالي. ثم قبّل شفتيها أخيرًا، وفرك خدّه بخدّها.
كانت ضحكة سيريت الصافية، وعيناها الزرقاوان الجميلتان كعادتهما، قد جعلت يوان يشعر وكأن العالم بأسره صار بين يديه.
أمسك يوان بيد سيريت. وشدّت سيريت على يده بقوّة، ثم صعدا الدرج معًا.
ومع كل درجة يصعدانها معًا، كانت مخاوف الشقاء والموت تُغسل وتزول.
وعند بلوغهما آخر درجة، أصبح القصر بالنسبة إلى سيريت بيتًا مثاليًا بحق.
بيتًا خاليًا من حزن أن لا يُحبّها زوجها، وخاليًا من ألم وجود عشيقة، وخاليًا من رعب الموت، لا يمتلئ إلا بالراحة والطمأنينة.
وكان هذا المكان، من الآن فصاعدًا، لن يمنح سيريت سوى السعادة فقط.
وهكذا بعد زمن بعيد، انتهت الحياة الثانية لـ سيريت فريكتويستر بسعادةٍ تامة.
التعليقات لهذا الفصل " 138"